ذاكرة العراق.. عدنان الباجه جي (الحلقة 8) : كان بين الضباط الأحرار اختلاف في الآراء حول مصير الملك فيصل الثاني

العهد الجمهوري منحني فرصا أكبر في العمل الدبلوماسي وعُينت الممثل الدائم في الأمم المتحدة

عدنان الباجه جي يتوسط هاشم جواد وزير خارجية العراق (إلى يمينه) وحسين جميل عضو الوفد العراقي في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 سبتمبر 1959 («الشرق الأوسط»)
TT

خرائط الأمكنة لا تختلط عنده، وتقاويم الأحداث لا تتداخل أو تتغير، الأسماء محفوظة في أرشيف حي وبدقة متناهية، وكلها تشير إلى أفعال تاريخية ترتبط بأزمنة ومدن، فالجغرافيا والتاريخ مساران لا يفترقان مهما امتدّا أو تعمّقا في الأرقام والأوقات. الجغرافيا واضحة عنده تماما، تبدأ من بغداد وتعود إليها، والزمن دقيق للغاية منضبط على ساعة القشلة في بناية السراي الحكومي ببغداد أيضا، بغداد التي وُلد وترعرع فيها، وينتمي إليها عدنان الباجه جي الذي تنبض ذاكرته الحيوية والمتدفقة بأحداث وصور عاشها على مدى 87 عاما.

ذاكرة محايدة ومنصفة وصادقة وثرية، تلك هي ذاكرة الباجه جي الذي وعى الحياة في بداية بناء الدولة العراقية الحديثة، وشهد، متأسفا وحزينا، سقوط هذه الدولة، فهو من قُدر له أن يلتقي، عندما كان عمره ثماني سنوات، أولَ ملك للدولة العراقية الحديثة، فيصل الأول، وأن يلوم -متسائلا- صدامَ حسين وجها لوجه، آخر رؤساء هذه الدولة عند سقوطها محتلّة عندما التقاه في سجنه عام 2004 على ما تسبب فيه للعراق من مصير.

على مدى أكثر من شهر، فتح عدنان الباجه جي لـ«الشرق الأوسط» خزائن ذاكرته النفيسة بأحداثها وشخوصها وتواريخها، على أن كل ما ورد هنا من أسماء وآراء هو من مسؤوليته البحتة.

كان ثمة استوديو للتصوير الفوتوغرافي في منطقة السنك في شارع الرشيد، هذا الشارع الذي أضحى وقتذاك القلب التجاري والحضاري لبغداد، حمل هذا الاستوديو اسم «بابل» للمصور الأرمن جان، فقد أدخل الأرمن سحر التصوير الضوئي وحتى السينمائي إلى العراق، فإلى جانب جان كان هناك المصور الصحافي الرائد أمري سليم لوسينيان شيخ المصورين الصحافيين العراقيين الذي صور ملوك وزعماء العراق وجزءا كبيرا من أرشيف تاريخ العراق، والمصور الفوتوغرافي المعروف أرشاك (صاحب استوديو أرشاك)، ومصور الآثار كوفاديس ماركاريان.

عُرف المصور جان باعتباره المصور الخاص لملوك ورؤساء العراق، في ما بعد، إذ إن أولى الصور الرسمية للأمير عبد الإله والملك فيصل الثاني وعبد الكريم قاسم وعبد السلام وعبد الرحمن عارف وأحمد حسن البكر وصدام حسين حملت توقيع استوديو «بابل»، وقد بقي مجد هذا المصور متألقا حتى نهاية الثمانينات عندما افتتح له فرعا آخر أكبر وأكثر فخامة من الأول بكثير في الطابق الأرضي من بناية الاتصالات في السنك بشارع الرشيد أيضا.

ذات يوم من شهر يناير (كانون الثاني) عام 1982 جمعني لقاء صحافي مع المصور جان، وكان يضع في الواجهة الزجاجية لصالة العرض صورة كبيرة لصدام حسين، وسألته عن صور باقي الملوك والرؤساء، فقال: «أنا أتمنى أن أعرض كل الصور، بما فيها صورة عبد الكريم قاسم لأنه كان صديقي، لكنني كما تعرف لا أستطيع ذلك».

ومثل حكّاء محترف، راح يحكي بعربية مشوبة بمفردات أرمنية عن «ضابط عسكري متواضع، لكنه كان قلقا باستمرار، كان يزورني في محلي القديم كلما سنحت له الفرصة، نشرب الشاي ونتبادل الأحاديث، وذات يوم نظر هذا الضابط إلى صورة الملك فيصل الثاني وقال: (قريبا سوف تلتقط لي صورة مماثلة لهذه)، فعبّرت له عن استعدادي لالتقاط صورة له الآن إذا كان يريد، لكن الضابط أجاب بقوله: (لا، ليس الآن، بل عندما أصير رئيسا للعراق)». وترك جان وسط أسئلته وحيرته لتفسير ما يعنيه هذا العسكري.

لم يكن هذا العسكري سوى الزعيم عبد الكريم قاسم الذي أوفى بوعده وأرسل في طلب جان ليلتقط له أول صورة رسمية في مكتبه بوزارة الدفاع، قال جان: «عندما دخلت عليه وجدته مبتسما فرحّب بي كثيرا وقال لي: (ها جان، شفت اشلون صرت رئيس العراق وانت أول واحد راح تاخذ لي صورة)».

وفي لقطة أرشيفية مصورة سينمائيا للأخبار التي كانت تعرض على شاشة تلفزيون بغداد الذي بدأ بثه الرسمي عام 1956، يظهر العقيد عبد الكريم قاسم وهو يستعرض رهطا من عساكره بالقرب من البلاط الملكي في حي الكسرة بالأعظمية بجانب الرصافة من بغداد بمناسبة الاحتفال بذكرى تتويج الملك فيصل الثاني، في هذه اللقطة يحيّي قاسم الملك وينظر نحوه نظرة قاسية، ولو حلّل وقتذاك أي خبير تلك النظرة لتأكد أن هذا الضابط ينطوي على خطط عدائية ضد قائده الشرعي.

لقد كان «من المفروض أن يتزوج الملك الشاب فيصل الثاني في تلك الفترة بفاضلة أو فضيلة التي كان والدها من العائلة المالكة بمصر وأمها من عائلة عثمانية، حفيدة السلطان العثماني عبد المجيد الذي لم يتبوأ السلطنة، بل منحوه لقب خليفة، وأخذت منه السلطنة. والقصر الجمهوري بُني على أساس أن يتزوج فيه الملك، وهو قصر ملكي ومجلس الأمة كان مخصصا للبرلمان الملكي».

إن ما حدث صبيحة 14 يونيو (حزيران) 1958 كان فاجعا لكل العراقيين، فقد تم قتل العائلة المالكة، بدءا بالعاهل العراقي وأفراد أسرته من نساء وأطفال وخدم، واستباح الغوغاء قصر الرحاب الذي كانت تقيم به العائلة المالكة في الحارثية بجانب الكرخ من بغداد. يقول الباجه جي: «كان بين الضباط الأحرار الذين قادوا الانقلاب العسكري اختلاف في الآراء حول مصير الملك فيصل الثاني، فقِسم منهم كان مع قتله كي لا يتحول إلى رمز للمقاومة ضد الجمهورية الحديثة، وقسم آخر قال إن الملك لا علاقة له بما جرى وإنه لم يكن صاحب قرار، أما العائلة المالكة من نساء وأطفال فبالتأكيد لم يكن هناك أي قرار للمسّ بهم، هكذا عرفتُ بعد الثورة، فالعائلة المالكة استسلمت بلا أدنى مقاومة، لكن عبد الستار العبوسي الذي هجم على قصر الرحاب، حيث كان يقيم الملك وعائلته، فجأة فتح النار على العائلة وأمطرهم بالرصاص، ويقال إنه لم يكن سويا أو طبيعيا من الناحية النفسية حتى إنه انتحر بعد هذه الحادثة، ونجت الزوجة الأخيرة للأمير عبد الإله، ابنة أمير ربيعة، إذ جُرحت في ساقها وأنقذها شخص من مدينة الكوت (محافظة واسط اليوم)، وكان على معرفة بعائلتها، كما نجت الأميرة بديعة خالة الملك فيصل الثاني لأنها لم تكن في قصر الرحاب بل كانت في بيتها بحي الأميرات بالمنصور على مقربة من قصر الرحاب، ولجأت مع عائلتها إلى السفارة السعودية ببغداد التي تقع في حي المنصور. وقُتل الملك فيصل الثاني وجدته لأمه الملكة نفيسة والدة عبد الإله والملكة عالية (زوجة الملك غازي وأم الملك فيصل الثاني التي كانت قد توُفّيت عام 1950 بالسرطان)، وابنتها الكبيرة الأميرة عابدية وبعض الخدم».

يصمت الباجه جي قليلا وقد تسلل إليه الحزن جراء تذكُّر هذه الحادثة المأساوية، ثم يقول: «لقد تألمت كثيرا لمقتل الملك فيصل الثاني والعائلة المالكة ورئيس الوزراء نوري السعيد وما جرى من تمثيل لجثته وابنه صباح. السعيد كان رجلا وطنيا بمعنى الكلمة ووحدوي الأفكار وعربي الانتماء، وهو من عمل على تأسيس العراق وشارك في بنائه، وجل خطئه مثلما ذكرت هو تحالفه مع البريطانيين وعلاقاته مع أميركا، ولو كان قد انسحب من حلف بغداد بعد العدوان الثلاثي على مصر لكان حصل على تأييد شعبي كبير، فالبقاء في معاهدة مع بريطانيا بعد هذا العدوان كان فيه استفزاز لمشاعر العراقيين القومية ولكل العرب، وسبب بقائه في هذا الحلف هو خوفه المبالَغ فيه من الشيوعيين، فالحزب الشيوعي العراقي لم يكن يشكل خطرا حقيقيا على الحكومة أو البلاط، أنا أفهم مخاوف تركيا أو إيران مثلا من الشيوعيين لكونهم قريبين من الاتحاد السوفياتي، لكن العراق بعيد عن الخطر الشيوعي جغرافيا، ومع ذلك فالسعيد رجل وطني لم يكن يستحق ما جرى له. لقد كان مقررا قتله خلال ثورة (يوليو) تموز وكذلك قُتل الأمير عبد الإله».

لقد فعل ما فعل العسكر والغوغاء من مداهمات واعتقالات وإعدامات انتقامية يومذاك، وحسب الباجه جي فقد «اعتقلوا بعض الوزراء وصدرت أوامر باعتقال البعض الآخر، مثلا صدرت مذكرة بمصادرة أموال علي جودة الأيوبي، والد زوجتي باعتباره رئيس وزراء في العهد الملكي، بينما لم يتعرضوا لوالدي لأنهم كانوا يعتبرونه ضمن المعارضة للبلاط والحكومة آنذاك، وهو فعلا كان معارضا، وعلى العموم والدي والأيوبي كانا في سويسرا وقتذاك». وفي حمأة احتدام هذه الذكرى في ضمير الباجه جي فإنه يتذكر هذه القصة: «كان وزير الدولة لشؤون الدفاع في حكومة الاتحاد العربي (بين العراق والأردن) اللواء الطيار العسكري سامي فتاح، وهو من مدينة الموصل، في زيارة لوزير الدفاع ونائب رئيس الوزراء الأردنيين، إبراهيم هاشم وسليمان طوقان، اللذين كانا يقيمان في فندق بغداد (في شارع السعدون)، فهجم الجنود والناس الهائجة على الفندق وقتلوا كلا من هاشم وطوقان، وتعرض فتاح للضرب، وفي اللحظة التي أرادوا فيها قتله تَعرّفه عريف في الجيش فسحبه وأنقذه من الموت، لكنهم أخذوه إلى المعتقل، وهناك قال له الضباط الذين كانوا يحققون مع المعتقلين متشفين به: (ها سامي فتاح وصلت إلى هنا)، فأجاب قائلا بلهجته المصلاوية: (كنت اقشعتوا الشعب العراقي في عنفوان نجابته)، أي (كنت قد شاهدت الشعب العراقي في عنفوان شهامته)».

ولا يخفي الباجه جي تأثره بالشعارات التي جاءت بها ثورة يوليو (تموز)، فيقول معترفا: «كنت في عمر الشباب وكانت الشعارات المطروحة تتحدث عن الحرية والاستقلال من النفوذ الأجنبي وتحقيق الديمقراطية، وكان يهمني كثيرا التخلص من الاستعمار البريطاني، وبالفعل تحقق ذلك، أعني تخليص العراق من السيطرة البريطانية، ففي العهد الملكي كان السفير البريطاني يتدخل في تأليف الوزارة ورفض هذا وقبول ذاك، وهناك وثيقة بريطانية صادرة سنة 1947، في عهد حكومة صالح جبر، يقول فيها السفير البريطاني لوزير خارجيته: (لقد نبهت الوصي عبد الإله بأن الوزارة الحالية، باستثناء رئيسها ووزير الخارجية فاضل الجمالي، هي وزارة هزيلة وضعيفة، وقد أشرت على الوصي بتغيير بعض الوجوه في الوزارة)، ثم يعدد الوزراء الذين لا يرغب بهم ويضع أوصافه عنهم، مثلا جمال بابان رجل فاسد، وشاكر الوادي لا فائدة منه، وتوفيق وهبي شخصية كردية محترمة لكنه كبير في السن، واقترح السفير البريطاني أن يأتوا بعناصر جديدة مثل علي ممتاز وبعض الشباب المعارض. وفي وثيقة أخرى يقول: (أخبرني الوصي بأنه سوف يكلف مزاحم الباجه جي بتأليف الوزارة، وهو شخصية سياسية وكان خارج العراق لأكثر من 12 سنة ولا ندري ما اتجاهاته، فقلت له (للوصي): لا مانع، لنجربه ونرَ ماذا سيفعل)».

ويقول مؤكدا: «نعم، كان البريطانيون يتدخلون في كل شيء، وأتذكر أنه في الحفلات التي كانت تقام ببغداد ويحضرها الملك، كانت سيارة السفير البريطاني فقط تقف إلى جانب سيارة الملك حتى لا يتعب نفسه ويتمشى قليلا عندما يخرج من الحفلة. كانت هذه التصرفات وهذا التدخل يستفزان العراقيين، وهذا السفير ذاته، جاء إلى وزارة الخارجية العراقية بعد ثورة تموز خائفا ومتنكرا، بينما كان قبل الثورة (نافش ريشة) مثل الديك الرومي، وذات مرة دعاني مع زوجتي إلى حفلة (بلاك تاي)، حفلة يجب أن يرتدي الرجال فيها ربطة عنق سوداء وبدلات سوداء، في مبنى السفارة البريطانية ببغداد، وكان يتصرف بتباهٍ. والبريطانيون كانوا قد اختاروا أفضل موقع ببغداد، على الضفة الغربية (الكرخ) لنهر دجلة، وفي منطقة تسمى الشواكة، قريبا من بيت توفيق السويدي، وبنوا على مساحة كبيرة جدا سفارتهم، وعلى الرغم من أن السفارة البريطانية اليوم ومنذ 2003 تقع في المنطقة الخضراء فإنهم ما زالوا يحتفظون بالبناية القديمة ولهم فيها مكتب».

بعد الثورة مباشرة بعث الأميركان قواتهم إلى لبنان والبريطانيين إلى الأردن مما دفع الاتحاد السوفياتي ومصر إلى الاحتجاج واعتبار هذا العمل غير مشروع، فرفعت القضية في مجلس الأمن، ولم يتوصلوا في مجلس الأمن إلى نتيجة فتقرر إحالة الموضوع إلى دورة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة.يشرح الباجه جي: «العراق شارك في هذه الدورة بوفد برئاسة وزير الخارجية عبد الجبار جومرد الذي طلب مني أن أكون ضمن الوفد المسافر إلى نيويورك. أنا في سري فرحت كثيرا، وقلت له: (أنا لا أستطيع أن أترك عائلتي وحدها في هذه الظروف)، فقد كان السفر ممنوعا وقتذاك، لهذا اتصلت بالحاكم العسكري العام أحمد صالح العابدي، إذ كانت لعائلة العابدي علاقة مع عائلتنا الباجه جي، ويُعتبرون من المريدين للباجه جيّة، وعم الحاكم العسكري العام كان سكرتيرا لعبد الله الباجه جي في إسطنبول، وعمه الآخر كان يعمل مديرا لمزرعة شاكر الباجه جي، فقلت لأحمد العابدي إني مسافر ضمن وفد حكومي إلى نيويورك ولا أستطيع ترك زوجتي وبناتي ببغداد، فمنحهم موافقة السفر خارج العراق، إذ ذهبوا إلى جنيف حيث كان والدي ووالد زوجتي الأيوبي هناك، بينما سافرت أنا إلى نيويورك، وأتذكر السعادة التي شعرنا بها عندما غادرنا بغداد مباشرة إلى كوبنهاغن. تصور بعد شهر من حرارة صيف بغداد، والأخبار المزعجة، فقد كنا نسمع كل يوم أخبار القتل والتصفيات، ثم نسافر إلى أوروبا، وكان تاريخ مغادرتنا في 12 أغسطس (آب) 1958، ومَن يعرف العراق يعرف معنى حرارة أغسطس (يسمونه في العراق آب اللّهّاب الذي يذيب المسمار في الباب)، لنجد أنفسنا نجلس في أحد مقاهي العاصمة الدانمركية والناس سعداء ويقودون دراجاتهم الهوائية ويمرحون. حقيقة كان شعورا كمن انتقل من الجحيم إلى الجنة».

ويذكر تفاصيل هذه السفرة المثيرة بتاريخه العائلي قائلا: «كنا قد سافرنا من مطار بغداد القديم، وقتذاك كان هو المطار الوحيد (يقع في جانب الكرخ مقابل محطة القطارات الكبرى، سمي في ما بعد بمطار المثنى، قبل أن يقرر الرئيس العراقي السابق صدام حسين إلغاءه كمطار وبناء أكبر مسجد على أرضه، لكن البناء لم يُنجَز حتى اليوم)، وغادرنا على متن طائرة من الخطوط الإسكندنافية (سويس إير) إذ كانت السلطات العراقية تسمح ببعض الرحلات إلى ومن بغداد للسماح للوفود والمراسلين الصحافيين بالوصول إلى العاصمة العراقية أو مغادرتها، وكانت رحلتنا خاصة ومعنا بعض العراقيين الحاصلين على موافقة سفر من السلطات الأمنية».

ولدى وصول الباجه جي مع وزير الخارجية جومرد إلى نيويورك «قال جومرد (أنا سألقي خطابي باللغة الفرنسية) لكونه درس في باريس، والعربية لم تكن لغة رسمية في الأمم المتحدة آنذاك، واقترح الدبلوماسي العراقي البارز عصمت كتاني (رحمه الله) وأنا أن نكتب له خطابه الفرنسية والإنجليزية، قلنا طيب باللغة الإنجليزية معقول، ولم أكن وقتذاك متمكنا من اللغة الفرنسية، فقال: (لا علاقة لي)، وبالفعل كتبنا الخطاب بالإنجليزية وطلبنا من مندوب الجزائر ترجمته إلى الفرنسية، وكان ضمن الوفد هاشم جواد الذي صار في ما بعد وزيرا للخارجية ثم ممثل العراق في مجلس الأمن، وإسماعيل عارف الذي كان ملحقا عسكريا في السفارة العراقية في واشنطن حيث تم استدعاؤه للالتحاق بالوفد، وعصمت كتاني الذي كان موظفا في بعثة العراق في نيويورك، وبعد انتهاء الاجتماعات غادر وزير الخارجية ومعه جواد وطلب مني البقاء لتمثيل العراق في اجتماعات الجمعية العامة التي كانت ستُعقد بعد أسبوعين، وكانت هذه مناسبة سعيدة جدا بالنسبة إليّ».

لكن هذه السعادة لم تدم، خصوصا في ظل حكومة عسكرية ثورية يتدخل فيها الكثير من الأمزجة والصراعات، يقول الباجه جي: «بقيت في نيويورك وشاركت في الاجتماعات وعملت بجهد في ملف المستعمرات الأفريقية مثل الكاميرون، حتى منتصف ديسمبر (كانون الأول) 1958، حيث انتهت أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعدها تسلمت برقية تقول: (بناء على طلب السفير عبد الوهاب محمود تقرر نقلكم مستشارا في السفارة العراقية في موسكو)، وكانت هذه البرقية قد شكلت لي مفاجأة غير سارة على الإطلاق، عندها فكرت في نقطتين مهمتين: الأولى أني سأذهب إلى هناك شخصا ثانيا في السفارة مع أني بعد خدمة كفأة بالعمل الدبلوماسي لأكثر من 14 عاما أستحق أن أكون رئيس بعثة (سفيرا)، أما النقطة الثانية فتتعلق بتنامي المد الشيوعي في العراق، وكان المد الشيوعي موجها بصورة خاصة ضد العناصر القومية العربية، وكان اتجاهي، ولا يزال، قوميا، وهذا على ما أعتقد ما جعلهم ينقلونني إلى موسكو. ومن الأمور الغريبة أنه بينما كان ممثل الاتحاد السوفياتي وممثلو الدول الشيوعية في الأمم المتحدة متحمسين لعملي ويثنون عليه لأني كنت في لجنة الاستعمار وأعمل من أجل تحرير الشعوب المستعمَرة، وهذا يعني أني كنت ضمنا ضد إنجلترا وفرنسا لكونهما الدولتين الأكثر استعمارا للدول والشعوب الأخرى، فإن الشيوعيين العراقيين لم يكونوا راضين عني».

لم يعرف الباجه جي يوما الخضوع لقرار ضد اتجاهاته وتوجهاته، فهو العراقي المخلص لدولته لا لحزب أو لجهة، ويخدم العراق باعتباره بلده، وعندما تأتي توجهات الحكومة لتحرمه أو لتقلل من وطنيته فإنه لا يساوم أو يهادن، ومثلما واجه السويدي، وزير خارجية الاتحاد الهاشمي يوم شطبوا اسمه من قائمة الدبلوماسيين الذين سيعملون في الخارجية الاتحادية يوم 13 يونيو (حزيران) 1958 ولوّح باستقالته، فإنه هنا أمام موقف مشابه، بل أكثر قسوة، يقول: «بدلا من ذهابي إلى موسكو قدمت استقالتي وسافرنا أنا وعائلتي إلى بيروت ثم إلى جنيف لزيارة والدي، ولم أسمع من الخارجية العراقية أي شيء بخصوص قبول أو رفض الاستقالة، لكن فجأة حدث تغيير وزاري في بغداد وأصبح هاشم جواد وزيرا للخارجية، وكان يعرفني جيدا ويعرف كفاءتي في العمل في الأمم المتحدة، فعندما كان يحضر إلى نيويورك كان يسمع من وفود بقية الدول الكثير من كلام الثناء والإعجاب بعملي والإشادة بكفاءتي، فاتصل بي وقال: (استقالتك لم تُقبل، ارجع إلى نيويورك ومثّل العراق في اجتماعات الجمعية العامة)».

ومع أن الباجه جي كان محسوبا على العهد الملكي وباعتباره ابن رئيس حكومة في ذلك العهد، فقد حصل على اهتمام من حكومة قاسم الجمهورية فاق ما حصل عليه كثيرا في حكومات العهد السابق. يقول: «كانت عائلتي في واشنطن منذ أن جئت إلى نيويورك، حيث استأجرنا شقة هناك وبناتي صرن في المدارس. وبعد ثلاثة أسابيع انتهت اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ووصلتني من الخارجية العراقية برقية تفيد بأنني عُيّنت رئيسا لبعثة العراق والممثل الدائم وكالة لبلدي في الأمم المتحدة في نيويورك، فانتقلت عائلتي معي إلى نيويورك، بعدها ببضعة أشهر تم تعييني وزير مفوضا وممثلا دائما في نيويورك، وبعدها بسنة تم تعييني بدرجة سفير هناك، وكان هذا خبرا سعيدا جدا بالنسبة إليّ، ذلك أن نيويورك مدينة رائعة، كما أني أحب العمل في الأمم المتحدة. وبعد عام واحد تم ترشيحي لرئاسة اللجنة الرابعة المسؤولة عن شؤون الوصاية والمستعمرات في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد اعترضت بريطانيا على هذا الترشيح، ثم أثنوا على عملي رئيسا لهذه اللجنة».

عندما يتحدث عدنان الباجه جي عن الأمم المتحدة وسنوات عمله فيها تراه متألقا، مستعيدا سنوات نشاطه ومبادراته وحضوره شخصيةً دبلوماسيةً بارزةً بين أروقة وقاعات هذه المنظمة الدولية. وهو يعتبر «الدورة التي عُقدت عام 1960 تاريخية بحق، إذ حضرها خروشوف، وجمال عبد الناصر، وجواهر لال نهرو، وأحمد سوكارنو، وفيديل كاسترو، وتيتو. وحضور هذا الحشد من القادة كان بمبادرة من خروشوف الذي طلب من رؤساء دول عدم الانحياز التي لا تسير في الفلك الأميركي الحضور في هذه الدورة لكونه سيحضر بنفسه، وكانت فرصة للقاء والتباحث، فاستجابوا لدعوته هذه. بينما كان إيزنهاور، رئيس الولايات المتحدة، قد ألقى خطابه وعاد إلى واشنطن، بينما لم يحضر الرئيس الفرنسي ديغول لأنه لم يكن معجبا بالأمم المتحدة. تَرأّس الوفدَ العراقي هاشم جواد وزير الخارجية وأنا رئيس البعثة الدائمة في الجمعية. كان يُفترض أن يمثل العراقَ رئيسُ الوزراء، لكن عبد الكريم قاسم لم يسافر خارج العراق على الإطلاق، لم يغادر البلد قط خلال رئاسته للحكومة».

وبمهنية عالية عمل الباجه جي مع الحكومات ووزراء الخارجية العراقيين المتعاقبين، سواء كانوا في العهد الملكي أو الجمهوري، بذات الإخلاص، لكونه يعمل من أجل العراق لا من أجل أشخاص، وبهذه المبادئ تعاون مع جواد «الذي كان منشغلا في هذه الدورة بمعالجة قضية الجزائر، بينما كنت أنا أهيئ له الوثائق وأجمع ممثلي الدول للقاء به، وكانت تربطني علاقات جيدة مع الجزائريين، ومع ممثلي الدول العربية والغربية، وفي هذه الدورة نظمنا دعوة في دار ممثلية العراق في الجمعية العامة على شرف الجزائر وكان رئيس وفد الجزائر كريم بلقاسم، وهو أيضا كان وزير الدفاع في الحكومة المؤقتة، فجأة حضر إلى الدعوة خروشوف، إذ شكّل حضوره مفاجأة للجميع».