نهى الزيني.. سيدة القضاء المصري

تعلمت من والدها أن «استقالتها في جيبها» أهم سلاح للحق.. ولم تنكر أن مسؤولين في السلطة وقفوا إلى جوارها ودعموا نزاهتها

TT

عقب انتخابات البرلمان في مصر عام 2005 استيقظت مصر على صوت قاضية، قلبت الأجواء رأسا على عقب، أودعت شهادتها على سير الانتخابات في دائرة دمنهور بشمال غرب مصر، حيث كانت تشرف على لجنة فرعية هناك.

كتبت في تقريرها «إن الانتخابات تم تزويرها في تلك الدائرة»، التي تنافس فيها دبلوماسي بارز هو الدكتور مصطفى الفقي، مرشح الحزب الوطني الحاكم، مع مرشح جماعة الإخوان المسلمين الدكتور جمال حشمت».

ووصلت أنباء التقرير إلى الصحف، فاحتل صدر الصفحات الأولى في الصحف المحلية المستقلة، فيما تجاهلته الصحف المقربة من الحكومة.

القاضي العام للجنة الفرز أعلن فوز الفقي في الانتخابات. فلم تمض ساعات إلا وذاع النبأ، لتتحول بعدها القاضية نهى الزيني صاحبة التقرير إلى حديث مصر كلها، وموضوع رئيسي في وسائل الإعلام. المصريون رأوا القاضية الزيني «تميمة للحق والضمير»، ورمزا لمواجهة التزوير، لأنها لم تخش سطوة الحزب الحاكم، ولا مصالح ضيقة، حتى أن مسؤولين في السلطة وقفوا إلى جوارها ودعموا نزاهتها.

وقيل وقتها إن الزيني تجرأت و«وضعت الجرس على عنق التزوير» في وقت خشي كثيرون من إعلان الحقيقة. ألهم تصرفها أقلام الشعراء، فكتب الشاعر المعروف جمال بخيت مادحا إياها: «مدد يا ست نهى الزينى/ يا فجر صبح على عيني/ صالح ما بين نفسي وبيني/ وقاللى دي ست القاضية/ كشفت عن الألوان زيفها/ وخلت الوردة الزاهية/ تعيش على وش خريفها». بينما كتب عنها الشاعر جمال النهري قصيدة يقول مطلعها: «من فضلكم لا تنسوا هذا الاسم أبدا.. انقشوه في حنايا قلوبكم.. اجدلوه وردة تاجا فوق رؤوس أطفالكم». في حين قال عنها الوزير السابق يحيى الجمل عقب شهادتها: «أحسست بالأمل يتجدد في أعماقي، وأدركت أن مصر ستظل دائما تفرز خيرا، وتأتي بطلع مثمر مبشر».

نهى الزيني نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية قالت كلمتها ومضت، لكن الحراك السياسي لم يتوقف. أكدت أنها اتخذت قرارها فورا بفضح التزوير، وقالت لزميليها القاضيين وهم على رصيف محطة القطار الذي سيعيدهم إلى القاهرة: «لو سكتنا على ما حدث نبقى مش رجالة». تحملت تحرشات سياسية عديدة وصفتها بالتهويش، ومنها إطلاق شائعة تربط بينها وبين الإخوان المسلمين، قالت عنها إنها «عبيطة» لم تؤثر في شيء. ولم تنكر أن مسؤولين في السلطة وقفوا إلى جوارها ودعموا نزاهتها. كانت مصممة على إعلان الشهادة، بل لم تتراجع عندما أخبرها رئيس تحرير الصحيفة التي نشرت شهادتها حول التجاوزات التي حدثت في تلك الدائرة أنه كرئيس تحرير يرى في شهادتها «سبقا صحافيا»، لكنه كإنسان يرى فيها «خطورة على مستقبلها».

من بين سطور شهادتها قالت الزيني: «هذه شهادتي أدلي بها أمام الرأي العام، وأنا أعلم تماما ما سوف تسببه لي من متاعب. ولكن ماذا لو كسب الإنسان العالم وخسر نفسه؟ ولكي لا يزايد علي أحد أبادر بالقول صادقة: إنني أخالف الإخوان المسلمين في الكثير جدا من آرائهم وتوجهاتهم».

وفي موضع آخر تقول: «إنني، ومن خلال هذا المنبر، أدلي بشهادتي، وما علمته في واقعة تزوير نتيجة انتخابات الدائرة الأولى بدمنهور. وأوجه نداء إلى من شهد الواقعة، وشارك فيها بالإدلاء بشهادته أيضا. قال لي أحدهم لاحقا: إنه لا يستطيع أن ينام بعد ما حدث، وأستصرخ همة القضاة الأحرار أن يتوقفوا عن المشاركة على الإشراف على الانتخابات؛ حتى ينالوا استقلالا حقيقيا يمكنهم من السيطرة الحقيقية والكاملة على العملية من أولها لآخرها، ولأن ينسب التزوير إلى غيرهم خير من أن ينسب إليهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكني لن أستغفره للذين فعلوها وشاركوا فيها وحضروها، حتى يثوبوا إلى رشدهم، ويقولوا قولة الحق، ويعلموا أنه لن يصيبني ولن يصيبهم إلا ما كتب الله لنا».

ولدت الزيني لعائلة مصرية عريقة، على رأسها قاض وصل إلى أعلى مراتب القضاء، هو المستشار عثمان الزيني، رأت فيه ما شكل شخصيتها على النحو البادي للعيان. تقول عنه لـ«الشرق الأوسط»: «كان والدي قاضيا عادلا في كل لحظات حياته. علمنا كيف نستغني عن الناس، فلا تضعفنا حاجة، أو تكسرنا أمام الحق. لم يكن يفرق بين ولد وبنت، فتح أمامي كل السبل بلا حجر على شخصيتي. فسافرت للخارج والتحقت بالسوربون، الجامعة الفرنسية العريقة، وتلقيت دراساتي التمهيدية قبيل الدكتوراه، كما تمكنت من الحصول على درجة الدكتوراه في القانون الدستوري، بفعل تشجيعه ودعمه لي».

وتضيف: «أحببت القضاء من والدي، وتعلمت منه أنه مهنة إرجاع الحقوق لأصحابها، عندما رأيت لأول مرة متهمين في قفص المحكمة، قلت له وأنا متأثرة: لماذا تودعون هؤلاء الناس في الأقفاص؟ فقال لي: إننا نحاكمهم بالعدل، نبحث عن الحق، وكما يعاقب المدانون يخرج الأبرياء إلى الحرية. كان دائما يوصينا بالحق وإظهاره، كأنه يمسك ميزانا في يديه طوال اليوم، لن أنسى أن كلمته الأثيرة لنا كانت: لا تضعفوا أمام منصب، استقالتكم لا بد أن تكون جاهزة في جيوبكم على الدوام، فهي أفضل سلاح لمناصرة الحق».

وحدها من بين إخوتها سلكت طريق القضاء، التحقوا جميعا بوظائف مرموقة، بينما أكملت هي طريق والدها، لم يكن أمامها سوى هيئة النيابة الإدارية، وهي الهيئة القضائية الوحيدة وقتها التي تسمح بتعيين البنات، تدرجت فيها وظيفيا حتى وصلت لدرجة نائب الرئيس، وخلال رحلتها القضائية سعت جاهدة لتحقيق حلمين، الأول: ضمان نزاهة القضاء واستقلاله، فلم تكن شهادتها على تزوير الانتخابات هي أول مواقفها تجاه نزاهة القضاء، فكانت المرأة الوحيدة التي اشتركت في مؤتمر العدالة الذي عقد عام 1986، وحضره الرئيس حسني مبارك لعرض مطالب القضاة التي تضمن كفالة استقلالهم ونزاهتهم. أما الهدف الثاني: فكان الجهاد من أجل اعتلاء المرأة منصة العدالة، اشتركت في حلقات نقاشية، ودبجت مئات المقالات، وطالبت بوضوح بحق المرأة في الحكم بين الناس، كان السبيل الأمثل لبلوغ غايتها العمل والعمل الجاد، وإثبات أنها لا تقل عن الرجال. انتدبها الوزير الأسبق فاروق سيف النصر للعمل في مقر الوزارة، كانت تسمع كلمات الإشادة من الرجال ذاتهم الذين يرفضون تولي المرأة للقضاء.

تحققت بعض أحلام الزيني بشأن المرأة والعدالة، فقد دخلت حواء المحكمة الدستورية العليا في مصر منذ عام 2003، ثم إلى المحاكم الابتدائية، ومحاكم الأسرة منذ عام 2003. وبقيت الخطوة الأخيرة، وهي دخولها محاكم الاستئناف والنقض ومجلس الدولة، والأخير اشتعلت بشأن دخول النساء إلى عتباته معركة كبرى، خلال الأسبوع الماضي، على إثر قرار الجمعية العمومية لقضاة مجلس الدولة في مصر بأغلبية بلغت 89% رفض دخول النساء إلى هيئتهم، وعدم استكمال إجراءات تعيين قاضيات وافقت الهيئة على تعيينهن منذ أشهر، ثم الصدام مع رئيس الهيئة والجمعيات الحقوقية التي رأت في الأمر تمييزا ضد النساء. ترى الزيني أن دخول المرأة تلك الهيئات سيتحقق يوما ما بضغط مجتمعي، ولا تتمنى أن يكون ذلك عبر ضغط سياسي، لأنه سيزيد الأمر سوءا. وترى الزيني في التراث الإسلامي ما يدعم حق المرأة في تولي القضاء، فكانت هناك «قاضية حسبة» في عهد عمر بن الخطاب، اسمها الشفاء.

وقد عكس الجدل الحاد الذي تشهده مصر حول تعيين المرأة قاضية في مجلس الدولة «خلافا» لا يزال عميقا حول دورها في المجتمع وإمكانية توليها المناصب العليا. وكان رئيس مجلس الدولة، المستشار محمد الحسيني، قرر التغاضي عن قرار اتخذته الجمعية العمومية لهذه الهيئة القضائية التي رفضت الغالبية العظمى من أعضائها الأسبوع الماضي تعيين المرأة قاضية في مجلس الدولة الذي يضم المحكمة الإدارية والمحكمة الإدارية العليا. وقال الحسيني: إنه يستند في قراره عدم الالتزام بقرار الجمعية العمومية إلى أنه لا يمكن التصويت على أمور تخالف الدستور الذي يكفل المساواة التامة بين الرجل والمرأة، ولكنه واجه انتقادات عنيفة من زملائه الذين دعوا إلى عقد اجتماع عاجل لمواجهة قراره، بل إن بعضهم يفكر في اتخاذ إجراء قانوني لإقالته من منصبه.

وأكدت نهى الزيني، وهي واحدة من 42 قاضية في مصر، وتعمل في هيئة النيابة الإدارية: إن منع المرأة من اعتلاء منصة المحاكم الإدارية مناقض لـ«الدستور». وقالت الزيني إنها «مصدومة» من نتيجة الاقتراع الذي جرى في الجمعية العمومية لمجلس الدولية رغم أنها تقر بأنه يعكس أزمة مجتمع لا يزال يرفض تولي المرأة مناصب المسؤولية العليا. واعتبرت الزيني أن نتيجة هذا الاقتراع «تؤكد رفض المجتمع للتقدم الذي أحرزته المرأة وتسلب النساء حقوقهم».

ورغم الإجراءات التي تتخذ من أجل ضمان المساواة بين المرأة والرجل، فإن النظرة العامة في المجتمع لا تزال ترى أن المرأة مكانها المنزل. وقال نائب رئيس محكمة النقض السابق محمود الخضيري، الذي استقال من وظيفته العام الماضي احتجاجا على عدم استقلال القضاء، إن «الظروف الحالية ليست مواتية لكي تصبح المرأة قاضية». وأضاف: «إنها مهنة صعبة، ونحن نعمل في ظروف شاقة» مشيرا إلى أن القضاة غير مسموح لهم بالعمل في أماكن إقامتهم باستثناء القاهرة والإسكندرية، وحتى في الحالتين الأخيرتين لا يحق للقاضي أن يبقى في مكان واحد أكثر من خمس سنوات. ويتساءل الخضيري: «هل يتعين على المرأة أن تترك زوجها وأبناءها لكي تعمل في مكان آخر؟ إن الأمومة مقدسة في مجتمعنا، ولا يمكن تجاهلها».

ودانت منظمة «هيومن رايتس ووتش» قرار الجمعية العمومية لمجلس الدولة، ودعت الحكومة المصرية إلى إنهاء التمييز ضد المرأة في هذا المجال، معتبرة أن قرار رفض تعيينها «يعد إهانة لمصريات كثيرات مؤهلات تماما لأن يصبحن قاضيات». واليوم، هناك ثلاث وزيرات فقط في مصر، في حين يبلغ إجمالي عدد أعضاء الحكومة 27 وزيرا. وصدر عام 2009 قانون يقضي بأن تخصص 12% على الأقل (64) من مقاعد مجلس الشعب للمرأة. ولكن الخضيري يعتقد أنه لا بد من إعادة ترتيب الأولويات. ويقول: «الموقف سيئ بالنسبة للقضاة عموما الآن، فلنعمل أولا من أجل تحقيق استقلال القضاء، وبعدها يمكننا بحث وضع المرأة». غير أن نهى الزيني تعتقد أنه «ليس هناك أي تعارض بين إصلاح السلطة القضائية وتعيين المرأة قاضية». وترى أن مفهوم «حقوق المرأة» ينظر إليه في مصر بشكل عام على أنه مفهوم «مستورد» من الخارج. وتتابع أن «القضاة برفضهم لحقوق المرأة يظنون أنهم يحافظون على استقلالهم». وحتى عام 2007، لم يكن هناك سوى قاضية واحدة في مصر هي تهاني الجبالي، التي تعمل في المحكمة الدستورية العليا، غير أنه في هذا العام تم تعيين 36 قاضية، ثم عينت ست أخريات بعد ذلك.

وكما تحارب الزيني من أجل المرأة وحقها في اعتلاء منصة العدالة، تتفانى من أجل وقف ما سمته «تجريف التربة القضائية الخصبة في مصر» وهي تربة تكونت عبر 100 عام من الخبرات المتراكمة والقيم المتوارثة، تخشى عليها الزيني من التخويف والإغراء، وهما عمليتان تبتعدان بالقاضي عن العدالة.

ومثل زهرة الياسمين التي يتوحد على عبيرها الناس فتنسيهم آلامهم ومصائبهم، كان اسم الزيني موضع ثقة المكلومين والضحايا، فأثناء أزمة نجع حمادي الطائفية الأخيرة التي راح ضحية أحداثها 7 قتلى و9 مصابين، أثناء قداس عيد الميلاد، تسلحت الزيني بضمير القاضي، وذهبت تتقصى الحقيقة بنفسها هناك. قابلت المكلومين، والكهنة والمسؤولين، عايشت الأمر على الطبيعة، ثم أعلنت شهادتها بلا ديكور أو «تزاويق» فقالت: «إنها جريمة طائفية وجنائية ناتجة عن تحريض مؤكد، وتورط فيها رجال حركتهم شهوة النفوذ والمال».

بعد شهادتها تلقت الزيني مكالمات عديدة، واحتفت بها أصوات قبطية عديدة، وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «بسطاء الأقباط حدثوني مرارا على الهاتف.. كانوا يثقون بي. وهم أناس لا علاقة لهم بالسياسية، أو بأقباط المهجر، أو أي من الأجندات المتطرفة في الخارج، هم أبرياء يعيشون في سلام تعرضوا لمأساة. كانوا يحدثونني، كطوق نجاة». ومثلما دفعها ضميرها إلى السفر إلى صعيد مصر لتقصي حقيقة جريمة الاعتداء على الأقباط، سافرت أيضا بوحي منه إلى غزة تقابل المحاصرين، ابتداء من رفح جنوبا، ثم تصعد إلى جباليا وبيت حانون شمالا.

وإذا كانت الزيني لم تتردد في مدح من تراه يستحق مدحها، فإنها لم تتوان عن مهاجمة شيخ الأزهر في مصر، وانتقدته بعنف إثر مهاجمته لفتاة منتقبة في معهد أزهري أثناء إحدى زياراته. قالت له الزيني: «إنك فظ القلب»، بل هاجمت الوفد المرافق له لأنه «ليس بينهم رجل رشيد يرد عليه».

شهادة الزيني التي كشفت التزوير في دائرة دمنهور كانت خطوة في انتفاضة القضاة في مصر على أوضاع كثيرة، ترجمت في هيئة طلبات محددة؛ منها «تخفيف قبضة السلطة التنفيذية على القضاء»، و«إلغاء انتدابات القضاء إلى الوزارات الحكومية»، وأن يكون ناديهم هو السلطة الأعلى لهم، وليس وزارة العدل.

وقد ترتب على تحركات القضاة مظاهر اعتراضية عديدة، من بينها تظاهرهم بالأوشحة أمام مقر ناديهم بوسط القاهرة قبل أن يحال اثنان منهم، وهما المستشار أحمد مكي والمستشار هشام البسطويسي، إلى مجلس تأديب، بعدما تحولت مطالب القضاة الفئوية إلى مطالب تفاعلت معها الحركات الاعتراضية في مصر، مثل حركة كفاية، إضافة إلى منظمات المجتمع المدني.

وللزيني وجه آخر تخفيه طلتها المباشرة كقاضية، فهي محبة وقارئة نهمة للأدب، درست الأدب الفرنسي في جامعة السوربون، وهى مبدعة، لها عدة روايات ومجموعة قصصية منشورة اسمها «اغتسال» لا تخلو من الهم السياسي، إضافة إلى عدة روايات وقصص غير منشورة.

وتقول الزيني: «أعشق أعمال نجيب محفوظ ويحيى حقي.. وأميل كثيرا لقراءة المسرح الشعري، أكتب بانتظام منذ مشارف المراهقة، بدأت بقصص الأطفال، ثم القصص القصيرة والروايات، لا أهتم كثيرا بالنشر، فقط أكتب وأشبع موهبتي».

تعيش الزيني صراعا بين اللغة القضائية الدقيقة والرصينة، وبين لغة الأدب المتحررة من كل القيود. وتظل لغتها الإبداعية أثيرة لديها تحنو إليها بين الحين والآخر، إلا أنها تنتصر للغتها القضائية كثيرا بحكم العمل.