ساعات الساحات العامة في سورية.. أوابد معمارية تراثية جميلة

ما زال بعضها قائما

ساعة باب الفرج التراثية في حلب بنيت عام 1898
TT

على الرغم من انتشار الساعات الشخصية ومنبهات الأجهزة الخليوية بمختلف أنواعها لدى السوريين، فإن سكان الكثير من المدن السورية يفتخرون ويتباهون بوجود أبراج أو نصب معمارية تحمل ساعات تراثية لا تزال تعمل وبشكل منتظم. ولقد خصّصت بلديات المدن المعنية عمالا مكلفين بالإشراف على هذه الساعات وصيانتها ومراقبة أي تغيّر أو خلل يطرأ عليها. وعند اكتشاف أي خلل أو عطب في الأداء أو اختلال في إعطاء التوقيت الصحيح يباشر هؤلاء عمليات الإصلاح على جناح السرعة.

كل هذه الساعات، بطبيعة الحال، مضبوطة على التوقيت المحلي السوري. وهي تعمل وبدقة شديدة في بداية التوقيتين الصيفي والشتوي، ذلك أن الحكومة السورية، على غرار باقي حكومات العالم، تعتمد التوقيت الصيفي اعتبارا من بداية شهر أبريل (نيسان) من كل عام تطلب من الناس تقديم ساعاتهم ساعة واحدة وهو (التوقيت الصيفي) يزيد 3 ساعات عن التوقيت العالمي توقيت غرينتش، وتعتمد التوقيت الشتوي (يزيد ساعتين عن توقيت غرينتش) في بداية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام فتطلب تأخير الساعة ساعة واحدة. والطريف هنا أن الكثير من السوريين يعتمدون في تعيير ساعاتهم الشخصية على ساعات ساحات مدنهم لأنهم يعتبرونها دقيقة جدا رغم وجود مصادر متنوعة كالتلفزيون والهاتف الأرضي وغيره كمراجع موثوقة لتعيير التوقيت.

الساعات العامة في المدن السورية تحولت في الواقع، بمرور السنين، إلى أوابد معمارية جميلة تزين هذه المدن، ولا سيما تلك التي أنشئت مع نُصب معماري خاص بها منذ عشرات السنين. ولعلّ الساعة الأبرز والأشهر والأقدم بين ساعات المدن السورية هي «ساعة باب الفرج» التي تتوسط مدينة حلب، عاصمة الشمال السوري والمدينة الاقتصادية الأولى في سورية. وجاءت شهرة هذه الساعة من حميمية المكان التي أنشئت فيه وقيمته التراثية. فهي أنشئت عام 1898م، أي قبل 112 سنة في ميدان باب الفرج، أحد أبواب حلب التاريخية، وحيث الساحة العامة التي كانت تضج بالحيوية قبل توسّع المدينة. وكانت هذه الساحة تشكل السوق التجاري الأول للمدينة خارج الأسواق الحلبية الأثرية المسقوفة، وقد بناها والي حلب العثماني رائف باشا على أنقاض قسطل السلطان، وجعلها في برج معماري جميل مع ثلاثة أحواض وزيّنت بلوحة مرمرية نقش عليها بالخط الكوفي واعتبرت الساعة منارة مركز المدينة.

أيضا من الساعات العامة السورية الشهيرة التي ما زالت قائمة تعطي التوقيت بدقة متناهية ساعة مدينة حمص، ثالث كبرى المدن السورية، التي يعتز بها «الحماصنة» كثيرا ويطلقون عليها تحببا لقب «بيغ بن حمص» - في إشارة مباشرة إلى ساعة «بيغ بن» الشهيرة في لندن -، أو «ساعة كرجيّة» نسبة إلى السيدة كرجيّة حدّاد التي تبرعت بها. وكانت هذه الساعة قد نصبت بادئ ذي بدء في ساحة حمص الرئيسية قبل نحو 70 سنة، وكانت تتوسط الأسواق القديمة وشارع القوتلي الذي ينطلق منها. غير أنها أزيلت ونصبت ساعة جديدة في آخر شارع القوتلي ومع بداية سوق الدبلان الراقي، وتبرّعت ببنائها قبل نحو نصف قرن المغتربة الحمصية كرجيّة حدّاد. وجاءت الساعة في موقعها الجديد آية معمارية جميلة في أعلى برج شيّد من الحجر الأبيض والأسود الرخامي كما زيّن في أسفله بالأقواس الحجرية التراثية. وعلى قمته قبة صغيرة وضعت الساعة بأربعة وجوه في الاتجاهات الأربعة بحيث يمكن للمرء أن يعلم التوقيت منها إن كان في سوق الدبلان أو شارع القوتلي أو آتيا من جورة الشياح أو من مبنى المحافظة. ولا يزال «الحماصنة» يحافظون على موقع الساعة القديم يطلقون على المكان «الساعة القديمة» لتمييزه عن موقع الساعة الجديدة، كما يطلقون النكت الظريفة عنها ومنها طرفة حقيقية يذكرها «الحماصنة» عندما تعطلت ساعتهم بين عامي 1978 و1989، وهي «أن وفدا سياحيا جاء لزيارة حمص وكان برنامج هذا الوفد يقضي بأن يمرّ بجانب ساعة كرجيّة حدّاد، وقد أعيت الحيلة المشرفين على الساعة وعجزوا عن إصلاحها قبل مجيء الوفد. فجيء بساعاتي وأجلس داخل الساعة وظل يحرّك عقاربها كل دقيقة لمدة تتجاوز نصف اليوم حتى مرّ الوفد فابتهج أفراده بالساعة من دون أن يدروا ما خبئ بداخلها». وليس بعيدا عن حمص، في مدينة حماة «جارة حمص الأبدية» في المنطقة الشمالية الوسطى من سورية، ورابع كبرى مدن البلاد، توجد أيضا ساعة شهيرة تزين ساحتها الرئيسية هي «ساحة المحافظة» أو «الساعة العامة» التي أنشئت عام 1950، ورممت قبل بضع سنوات. وهي تتوضع على برج معماري جميل بني من الحجر الرخامي الملون ويرتفع نحو 12 مترا ومن قنطرة ترتفع حتى 16 مترا، وتعتمد على نظام معايرة إلكتروني وتتألف من ساعة أم وأربع ساعات مقامة على أربع اتجاهات بحيث يمكن مشاهدتها أيضا من أربعة شوارع.

أما العاصمة السورية دمشق فقد وجدت الساعات العامة فيها منذ مئات السنين، وكان من أشهرها ساعة ساحة المرجة، أقدم ساحات دمشق، في القرن التاسع عشر. غير أن هذه الساعة أزيلت وغدت من الماضي. وهناك ساعتا الجامع الأموي الشهير اللتان وضعتا على بابين من أبواب الجامع الأربعة وهما «الباب القبلي» الذي وصف ساعته المؤرخ ابن عساكر، و«الباب الشرقي» (باب جيرون) وقد وصف ساعته الرحالة ابن جبير كما تحدث عنها الرحالة ابن بطوطة. وقال عنها ابن جبير إنها ساعة كبيرة وتحفة صناعية، ووضعت في غرفة عن يمين الخارج من باب جيرون ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه فتحات صفر من النحاس، وقد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار، ودبّرت تدبيرا هندسيا وصفه ابن جبير بشكل علمي، شارحا كيف كانت تعمل وتعطي التوقيت من النهار، وأن الذي كان يدير شؤونها عالم الفلك أبو عبد الله محمد بن القيسراني.

ومن ساعات دمشق التراثية أيضا، ساعة المدرسة القيمرية التي أنشئت قبل 700 سنة، ويتباهى الدمشقيون بأن صناعة الساعات كانت مزدهرة في مدينتهم وأن العالم الرياضي والمهندس النابغة ابن الشاطر الدمشقي هو أول من أخرج صناعة الساعات إلى دائرة الميكانيك البحت، وهو العالم الذي يعتبر مخترع الساعات الحقيقي، إذ اعتمد الأوروبيون على تراثه وابتكاراته في صناعة الساعات لإطلاق الساعات العصرية، وكان ابن الشاطر الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي قد وضع أيضا نظرية النظام الشمسي.