تكنولوجيا النانو تسهم في بناء مساكن فريدة بميزات عديدة

في حل لمشكلات الإسكان العالمية المتزايدة

تتمكن مساكن «النانو» من مقاومة درجات الحرارة العالية والإشعاعات الضارة والحماية من الحرائق والقدرة على التنظيف الذاتي، كما ستتمكن المباني من صيانة ومعالجة أي تشققات وتصدعات مبكرا، وإصلاحها بنفسها بصورة مباشرة وتلقائية
TT

تخيل مسكنا صحيا نظيفا منخفض التكاليف يريحك من عناء التنظيف اليومي، وينظف نفسه ذاتيا، ويتحكم في درجات حرارة ورطوبة الغرفة تبعا للظروف المناخية، ويراقب الأعطال والأضرار ويقاوم التصدعات والتشققات التي يمكن أن تحدث للمبنى ويصلحها بنفسه. مع تكنولوجيا النانو سوف يتحول هذا الخيال إلى حقيقة واقعة في المستقبل القريب.

لا تزال تكنولوجيا النانو (التقنيات المتناهية في الصغر)، تحمل إلينا يوميا الكثير من المفاجآت المذهلة في مجالات الحياة كافة، فمع الزيادة السكانية العالمية المتزايدة، وتفاقم مشكلة الإسكان، ومع التوجهات العالمية نحو ترشيد الطاقة، واستخدام الطاقات المتجددة، وإنتاج مواد صديقة للبيئة، بدأ الكثير من المراكز البحثية العلمية العالمية في التوصل إلى مواد بناء منخفضة التكاليف بتكنولوجيا النانو، وبمواصفات وميزات خاصة فريدة وكثيرة، تسهم في بناء «مساكن النانو»، لنقول وداعا لاستخدام الخرسانة المسلحة ومواد البناء المكلفة.

فمجال التشييد والبناء، يعد أحد أهم التطبيقات الحديثة المشرقة لهذه التكنولوجيا الواعدة، حيث تسهم هذه التكنولوجيا في إنتاج مواد بناء ذات ميزات وخصائص حرارية وكهربائية وفيزيائية وكيميائية وميكانيكية فريدة، فسوف تتمكن مساكن «النانو» من مقاومة درجات الحرارة العالية، والإشعاعات الضارة، والحماية من الحرائق، والقدرة على التنظيف الذاتي، كما ستتمكن المباني من صيانة ومعالجة أي تشققات وتصدعات مبكرا، وإصلاحها بنفسها بصورة مباشرة وتلقائية. وسوف تدخل تكنولوجيا النانو في إنتاج مواد البناء لتحسين خصائصها ووظائفها، مثل المواد المستخدمة في الدهانات (الطلاءات) والمواد المضافة للخلطات الخراسانية (الكونكريت)، مثل السيليكا (رمال السيليكا أو ثاني أكسيد السيليكون)، والمواد الإسمنتية، والجبسية، والبلاط، والسيراميك، وتحسين صناعة الزجاج وصناعة الأخشاب وصناعة الحديد الصلب، ورفع كفاءة الطاقة في المباني وغيرها، لتجعلها خفيفة الوزن وأكثر قوة ومتانة ومقاومة للتصدعات والتشققات والتآكل، ولتفيد في حماية الأسطح والجدران من التصاق الغبار والملوثات، والمحافظة على ثبات درجات الألوان، والعزل الحراري، ومقاومة الأشعة فوق البنفسجية، ومقاومة الرطوبة، وتكوّن الضباب على الزجاج، كما ستتمكن من تنظيف الأسطح بصورة ذاتية وتلقائية، هذا بالإضافة إلى الخصائص البيئية، متمثلة في مساعدة مواد البناء في التقليل من كمية انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في البيئة، وبالتالي المحافظة على سلامة النظام البيئي.

على سبيل المثال، الخلطة الخراسانية التقليدية مصنوعة جزئيا من «السيليكا»، ولكن لو استخدمنا جزيئات السيليكا على مقياس النانو في خليط الخراسانة، ستكون تركيبة الخليط أكثر قوة وأقل نفاذية، وهذا يعني أنها أكثر تحملا ومتانة، وأفضل في العزل المائي، وكذلك استعمال أنابيب الكربون النانوية (النانوتيوب)، أو الطفلة على مقياس النانو، يمكن أن يساعد أيضا في إنتاج مواد جديدة وقوية وخفيفة وأطول عمرا، من السهل العمل بها، وكذلك تكون أكثر قدرة على مقاومة الصدمات والهزات الأرضية، مثل الزلازل، كما أن الخشب المغلف بطبقة من جزيئات النانو يصبح طاردا فائقا للماء أو «سوبر هايدروفوبيك»، وتصبح الأسطح التي تعالج بهذه الطريقة ذاتية التنظيف. ومن الخصائص أيضا التي تقدمها تكنولوجيا النانو لمواد البناء، خاصية الإحساس بالأعطال والأضرار التي يمكن أن تحدث للمبنى، فإنتاج مواد حساسة بتكنولوجيا النانو تدخل في مواد المباني، سيفيد في الإحساس مبكرا بالأعطال والأضرار والتصدعات والضغوط التي تحدث للمبنى، وكذلك في مراقبة التغيرات في درجات الحرارة وتأثيرها على المبنى.

في سلسلة من أربع محاضرات عن مستقبل الخلطة الخراسانية، نظمتها أخيرا، خلال شهر يونيو (حزيران) الماضي، جمعية كونكريت (الخلطة الخراسانية) البريطانية، وألقتها البروفسورة كارين سكريفينير، أستاذة ومديرة معمل مواد البناء في سويسرا، أشارت فيها إلى أن دراسة سلوك المواد على مقياس النانو سوف يمكن صناعة البناء من تطوير مواد جديدة بخصائص فريدة، وسيساعد في التقليل من التأثيرات البيئية لإنتاج الأسمنت والخلطة الخراسانية، كما سيفيد في التخفيض من حجم انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في صناعة مواد البناء وفي المباني، وكذلك في أنظمة إعادة تدوير النفايات وأهميتها البيئية، وهو ما يدخل ضمن التوجهات العالمية الحديثة حاليا نحو مشاريع إنشاء المباني الخضراء، التي تهدف إلى التوفير في استهلاك الكهرباء والطاقة المستخدمة في التبريد والإضاءة وتسخين المياه، وكذلك في ترشيد استهلاك المياه، الأمر الذي يقلل من الانبعاثات الكربونية الضارة، ويحسن من جودة البيئة المنزلية، ويحافظ على سلامة النظام البيئي، ويؤدي بالتالي إلى إطالة عمر المبنى.

لهذا فقد بدأت سوق تكنولوجيا النانو في البناء بالازدهار، لتبشر بآفاق واعدة في المستقبل القريب في صناعة البناء والتشييد في العالم، فطبقا لتقرير أميركي صادر عام 2007، عن سوق «تكنولوجيا النانو في البناء»، أشار إلى أن الطلب الأميركي على تطبيقات المواد النانوية في البناء، سوف يصل إلى 100 مليون دولار في عام 2011، ويقفز إلى 1.75 بليون دولار بحلول العام 2025، وسيكون أكثر التطبيقات طلبا على مواد الدهانات (الطلاءات)، يليها مركبات النانو (النانو كمبوزيت)، ثم إضافات الخلطات الخراسانية، وقد تنبأ التقرير بأن السوق الأميركية للمواد النانوية في البناء ستكون خلال الأعوام 2011، 2016، 2025، كما يلي: في المنتجات: «السيليكا، والألومينا، وثاني أكسيد التيتانيوم، ومعادن الطفلة، وأنابيب الكربون النانوية (النانوتيوب)»، وفي التطبيقات: «الطلاءات، ومركبات النانو، وإضافات الخلطات الخراسانية والإسمنت، ومواد البناء اللاصقة»، وفي السوق: «الدهانات، والنوافذ والأبواب، والأرضيات، والأسقف والإضاءة، وأنابيب المياه في المباني، والطرق والكباري».

وقد بدأت بالفعل منتجات تكنولوجيا النانو في البناء بالدخول إلى الأسواق، مثل: الخلطات الخراسانية ذاتية الدمج، وطلاءات زجاج المباني، وتمتاز بشكلها الرفيع والصحي والشفافية العالية والحماية الزائدة، والتقليل من تكاليف الصيانة، وكذلك مواد العزل الحراري، مثل «الإيروجيل»، وهي مادة هلامية شفافة صلبة ذات وزن خفيف جدا، مصنوعة من السيليكا والكربون، وتوصف بأنها مادة ذات مقاومة حرارية عالية، تفيد في وقاية المنزل من الحريق، وهناك أيضا أفلام النانوسيراميك للعزل الحراري للزجاج، من إنتاج شركة «جيوشيلد» الأميركية، التي تم صنعها بعد دراسات وأبحاث من قبل مركز أبحاث لويزيانا للتكنولوجيا والتجارة بجامعة ولاية لويزيانا الأميركية، وقد تمت صناعة أفلام «النانوسيراميك» من مادة السيراميك المصقول، المعالج بتكنولوجيا النانو، مما يضفي عليه خصائص كثيرة وفريدة، مثل المتانة وطول العمر والأداء العالي.

ولا تزال الكثير من المراكز البحثية العلمية العالمية تستثمر وتبحث في إنتاج مواد بناء بتكنولوجيا النانو، بمواصفات عدة، لتسهم في بناء مساكن النانو الفريدة، فعلى سبيل المثال يشترك حاليا «معهد التقنية على مقياس النانو» بجامعة سيدني للتكنولوجيا في أستراليا، في مشروع «مبادرة مساكن النانو»، ويقول الباحثون في هذا المشروع بأن تكنولوجيا النانو ستقدم لصناعة البناء لوحة جديدة كاملة لمواد تستطيع بكفاءة عالية إدخال تأثيرات عميقة على تصميم المباني، ففي المستقبل القريب وباستخدام تكنولوجيا النانو، سيتمكن الزجاج من تنظيف نفسه ذاتيا، وعزل الحرارة والأشعة فوق البنفسجية، وبالتالي فإن مساكن النانو المستقبلية ستكون مزودة بالكثير من النوافذ الكبيرة، الأمر الذي سيقلل من الحاجة للتبريد باستخدام مكيفات الهواء، وبالتالي التوفير في استخدام الكهرباء وترشيد الطاقة، كما أن الأسطح الخارجية للمبنى، والمطلية بدهانات بتكنولوجيا النانو، سيكون بإمكانها حماية المباني من الرطوبة والحرارة والتأكسد والتكلس والتلوث.

وقد بدأت بالفعل شركة «سيجما» العالمية للدهانات في عرض منتجاتها بتقنية النانو في مجال التشييد والبناء، حيث تعمل أنظمة دهانات النانو، وبسبب خواصها الفريدة، على الحد من تراكم والتصاق الغبار والملوثات على الأسطح الخارجية للمباني، وكذلك العمل كمواد مضادة للرطوبة والحرارة والتأكسد والتشقق والأشعة فوق البنفسجية، والتغير المستمر في درجات الألوان، والتقليل من نسبة ما يعرف في مجال البناء بـالترسبات أو التكلسات، أو «الطفح التكلسي»، وبالتالي يتكيف المبنى مع الظروف المناخية المتغيرة، الأمر الذي يطيل عمر المباني والأسطح، وباستخدام دهانات ذات تكلفة أقل وجودة أعلى من أنواع الدهانات الأخرى، التي قد لا تراعي المواصفات والشروط البيئية.

كما أن شركة «نانوفوز» اليونانية تقوم حاليا بإنتاج مواد بتكنولوجيا النانو ذات عزل مائي وحراري كاملين، مثل مادة «SurfaPore C»، وهي مادة عزل مائي كامل لجميع مواد البناء، مثل الخراسانة والسيراميك والبلاط والرخام وجميع أرضيات الحمامات والخشب والمطابخ. وكذلك مادة «SurfaPore ThermoDry»، وهي مادة عزل حراري تقوم بخفض درجة حرارة الجدران، دون التأثير على لون الدهانات أو شكلها الظاهري، كما تعمل كعازل مائي أيضا لحماية الدهان والجدران من مياه الأمطار وتسربات المياه.

وعلى صعيد آخر بدأت شركة «تاتا» الهندية لصناعة السيارات، التي أذهلت العالم بسيارة «تاتا نانو» الأرخص في العالم، في اقتحام مشروع «مساكن النانو»، لتلبية الطلب المتزايد على المنازل في الهند، فقد أعلنت الشركة خلال شهر مايو (أيار) الماضي عن خطتها لبناء ألف وحدة سكنية خارج مدينة مومباي الهندية، يبلغ سعر الوحدة من 7.800 إلى 13.400 ألف دولار.