سوق واقف في قطر.. «سوليدير» الدوحة

السوق الشعبية التي يزيد عمرها على 250 سنة وتمثل حاضنة للتراث الشعبي

تتميز سوق واقف بطرازها المعماري الذي يتشبع بروح الماضي ويتشرب من التراث المحلي («الشرق الأوسط»)
TT

يشبه سوق «واقف» في وسط العاصمة القطرية الدوحة، شارع سوليدير في قلب العاصمة اللبنانية بيروت، ثمة مقاربة بين المكانين، تجعل كليهما متنفسا لآلاف المواطنين والسياح، وملتقى في نهاية يوم عمل طويل.

يعود تاريخ سوق «واقف» إلى أكثر من 250 سنة، ولا تزال الذاكرة الشعبية القطرية تختزل تاريخ المسمى الذي ظل باقيا حتى اليوم، فالأهالي ومعظمهم كانوا من القادمين من ضواحي الدوحة القديمة، دأبوا على جلب أمتعتهم من مؤونة الطعام كالدهن والسمن والشعير، بالإضافة إلى الخشب والأمتعة الأخرى لبيعها في الدوحة، وهي الأخرى كانت مقسمة إلى قسمين بسبب اختراق وادي مشيرب لها، وكانت السوق وقتها تطل على البحر حيث لم يكن أحد يمنحه الثقة، فكثيرا ما غافلت البائعين موجة أتت على محصولاتهم، ولذلك يبقون واقفين وأعينهم تراقب البحر، ومنذ ذلك الوقت حمل السوق اسم «سوق واقف».

محمد السالم، شاب قطري، يشغل اليوم منصب مدير عام سوق واقف، راقب والده قبل ربع قرن وهو يتاجر في السوق، كان والده يتاجر في العباءات القطرية المعروفة، وقد ورث عن أبيه حب المهنة الأكثر شعبية في الخليج، وهي تجارة البشوت.

السالم اصطحب «الشرق الأوسط» في جولة في أرجاء السوق خلال إحدى أمسيات شهر يونيو (حزيران) الماضي، كان المناخ يميل للحرارة ولكن المقاهي المتناثرة في أرجاء السوق كانت تغص بمئات السياح ومعظمهم من الموظفين العاملين في الشركات القطرية، يقول السالم إن عمر السوق يربو على 250 سنة، وإنها مرت بالعديد من المراحل قبل أن تندثر وتتلاشى المهن الشعبية التي كانت تحتضنها.

تقع السوق على مساحة 20 ألف متر مربع، وتضم بين جنباتها 1200 محل ودكان، في صفوف ملتوية تشبه شكل الأسواق الشعبية التقليدية في الدول العربية. تضم السوق ثلاثة فنادق، أشهرها فندق بني في العام 1950 وعرف باسم فندق «بسم الله» وكان يضم 6 غرف فقط، وكان يوفر ملجأ للزوار القادمين للدوحة والمراجعين الدوائر الحكومية والأجانب.

اليوم، يقول السالم، هناك تطلع لبناء عشرة فنادق في توسعة هذه السوق، كجزء من عملية تعزيز التراث الشعبي الذي توليه حكومة قطر أهمية بالغة.

يعود الاهتمام بهذه السوق، إلى عام 2004 في ذلك الوقت أنشأ المكتب الهندسي برئاسة السيد حمد بن خليفة العطية، ويتبع مباشرة أمير قطر، ووضعت خطة طموحة لإحياء السوق وإعادة بنائه من مواد البناء التي كانت معروفة سابقا، وعلى ذات الطراز المعماري، وإضفاء مسحة عصرية عليه.

يقول السالم: «حاولنا إرجاع المهن الشعبية التي كانت معروفة في السوق، وواجهنا صعوبة بالغة فالكثير من تلك المهن اندثرت ولم يعد أحد يعتاش منها. اليوم هناك عشرات المحلات التي ترمز للتراث المحلي المعروف في قطر، وأهمها المهن التي تتعلق بالبحر، والصيد، والبر، بالإضافة لمهن كالحجامة والخرازة وغيرهما».

يضيف السالم، من أجل ملء الشواغر، قامت إدارة السوق بتوفير المحلات مجانا للراغبين من المواطنين لإعادة إحياء التراث الشعبي عبر المهن أو الحرف أو المقتنيات أو التحف، كما التزمت الإدارة بفرش وتصميم الديكور مجانا، وكذلك بالنسبة لفواتير الماء والكهرباء، من أجل إنجاح التجربة.

من بين الأماكن الشعبية في السوق، مقر الجمعية القطرية للدامة، كأول جمعية خليجية تعنى بهذه اللعبة الشعبية، حيث أقيم لها مقر يجمع عشاق هذه اللعبة الشعبية في واحد من أبرز محاضن التراث القطري، سوق «واقف»، حيث افتتحت في 18 ديسمبر (كانون الثاني) 2009 وجرى تخصيص مقر لها حيث تحولت إلى ناد اجتماعي يجمع لاعبي الدامة، والكيرم، ويوفر لهم مكانا يتجمعون فيه، ويتواصلون من خلاله.

زائر السوق يجد بين جنباتها العديد من المطاعم والمقاهي والجلسات في الممرات، يأتي الزوار إلى السوق غالبا لارتياد المطاعم، وهي خليط من الأكل الشعبي الذي تعده نساء عرفن على مرّ الزمان بأطباقهن الشعبية المميزة، وسط جلسات شعبية وتراثية، وبين مطاعم عربية من المغرب حتى لبنان والشام، إلى المطاعم الإيرانية التي تلاقي رواجا، وجلسات احتساء الشاي والقهوة والمثلجات، وكذلك تدخين الشيشة التي غدت إحدى العلامات الفارقة في هذا السوق.

يقول السالم، مجيبا على سؤال لـ«الشرق الأوسط»: «كان هدفنا أن نحافظ على التراث المحلي، هناك قيمة كبيرة لهذا التراث، وكنا نتجه لإيجاد مكان يضم التراث ويمثل ملاذا للناس، وسط التنمية العمرانية السريعة التي تزخر بها العاصمة».

ويضيف: «رغب المسؤولون أن لا تحجب السوق أي بناء آخر، فتمت إزالة العديد من الأبنية، حتى يصبح لهذه السوق إطلالة على الشارع الرئيسي وعلى الواجهة البحرية».

يزور السوق ما بين 6 - 7 آلاف زائر يوميا، وخلال عطلة نهاية الأسبوع يقفز العدد إلى ما بين 15 - 20 ألف زائر. وهو أحد الأماكن التي يلتقي فيها السياح والموظفون وأهل العاصمة، حيث يجلس الجميع في مقاه متجانبة يتبادلون الحديث، ويتسم القطريون بروح التسامح، ولا توجد فواصل تمنع اندماج الأجانب في الحياة العامة، كما أن ظهور النساء ومشاركتهن لا ينظر إليه بالريبة.

وتعج المحلات بالبضائع بعضها ما زال من المصنوعات اليدوية التقليدية، كالتحف والمشغولات، والنسيج، والعباءات (البشوت) والمصنوعات الجلدية، وبعضها يجري استيراده من الخارج. وفي أحد أزقة السوق تتناثر دكاكين صغيرة لا تزيد على المتر المربع يقبع داخلها عمال أجانب يمارسون مهنة (العرضحالجي) حيث يصوغون الخطابات ويملأون استمارات الطلبات، وفي مكان آخر، تتناثر مقاهي تدخين التبغ القديمة (القدو) التي ألفها كبار السن في الخليج. وفي زقاق آخر ينتشر باعة الطيور والحيوانات الأليفة، وفي آخر يحتشد الناس لشراء الأطعمة الشعبية كالهريسة والمعجنات، وبجوار المسجد يفد الزوار لشراء التكا والمشويات الإيرانية.

ويشعر الزوار بالأمن خاصة أن رجال الأمن ينتشرون في أرجاء السوق وهم يرتدون الزي القديم الذي عرفوا به هناك قبل ربع قرن من الزمان.

وبالإضافة للسياح العاديين، فإن السوق أصبحت مقصدا لكبار ضيوف دولة قطر من الرسميين والحكوميين وأعضاء البعثات الدولية، ومديري الشركات، والأندية الرياضية والفنانين.

أبرز ما يلفت الانتباه في سوق «واقف» تصميمها، حيث تكتسي طرازا معماريا يتشبع بروح الماضي ويتشرب من التراث المحلي هناك، كما أن مصممي السوق لم ينغلقوا على هويتها التجارية، كمكان لتحصيل الرزق وتوفير لقمة العيش لآلاف العاملين، بل برعوا في جعله متنفسا في أمسيات الدوحة الدافئة.

ووسط غابة العمارات التي تتناثر على ضفاف الدوحة، يجد زائر العاصمة القطرية شغفا متزايدا بالتراث الشعبي، يقول حمد المهندي، مدير إدارة التراث في قطر، إن «التراث الشعبي يمكنه أن يخلق التميز»، ويكمل: «الناس تحمل في داخلها روح التراث».

، ويضيف: «رسالتنا هي التعامل مع التراث بمسؤولية من أجل المحافظة عليه»، مضيفا: «نسعى لتشريع قانوني لحماية التراث الشعبي».