حكاية اسمها: توثيق التراث في مصر

ما بين جهود فردية انتقائية وخطط حكومية لا تبرح العتبات

هناك حاجة ملحة إلى توثيق التراث المصري للحفاظ على الهوية في ظل المتغيرات وطغيان العولمة والاستفادة منه اقتصاديا («الشرق الأوسط»)
TT

تظهر بين الحين والآخر محاولات لتوثيق التراث المصري، سواء من قبل الجهات الحكومية أو مؤسسات المجتمع المدني، لكنها لا تلبث أن تتوارى أمام ضيق الرؤية وعدم الدقة، أو تفقد جدواها لافتقارها إلى التنسيق في ما بينها، ما يجعلها تتعرض للانهيار والتعثر أمام البيروقراطية والتعقيدات الإدارية. الأرشيف يفضح لأنه يوثق الماضي ويضيء الحاضر بلا رتوش وأصباغ، ويفتح باب المساءلة والمقارنة التي قد لا تناسب كثيرين. ألهذا تبقى الأرشفة مجرد محاولات بائسة لا تفضي إلى شيء؟ وما الوسيلة للخروج من هذا النفق؟

يمكن أن ننظر إلى محاولات توثيق التراث المصري تحت حزمة من المسميات مثل: «إحياء التراث المصري»، «توثيق الموروث الشعبي»، «حفظ الفولكلور من الضياع»، والتي تتحول في النهاية إلى مصطلحات طريفة تتناقلها وسائل الإعلام بشكل شبه يومي، يعكس حالة من الرغبة المؤجلة في الحفاظ على تراث ضخم في جميع ميادين النشاط الإنساني.

هناك حاجة ملحّة إلى توثيق التراث المصري للحفاظ على الهوية في ظل المتغيرات وطغيان العولمة. وخلال السنوات الماضية ظهرت بعض المحاولات الناجحة التي تعد حجرا في الماء الراكد، منها على سبيل المثال جهود الحكومة المصرية في «مركز توثيق التراث الطبيعي والحضاري» التابع لمكتبة الإسكندرية، الذي يعد مركزا فريدا يهدف إلى رفع الوعي بتراث مصر عبر تطويع أدوات تكنولوجيا المعلومات لتوثيق هذا الكنز الثري. ويعد مشروع موقع «مصر الخالدة» على شبكة الإنترنت واحدا من عشرة برامج متميزة يقوم المركز بإدارتها، حيث حصل المشروع في عام 2005 على جائزة القمة العالمية للمعلومات في تونس نظرا لكونه بمثابة سجل حي يوثق لتاريخ مصر. أما البرامج الأخرى التي يعمل عليها فهي خريطة مصر الأثرية، وذاكرة مصر الفوتوغرافية، والتراث العلمي للمخطوطات، وبانوراما التراث، إلى جانب المشروعات الدولية المشتركة.

أما وزارة الثقافة المصرية فاهتمت بإقامة أول قاعدة بيانات ممثلة في ما يسمى «أطلس الفولكلور المصري»، الذي يعنى بجمع وتصنيف وأرشفة المأثور الشعبي. وبالفعل تم تنفيذ بعض الأعداد من الأطلس وصدرت، مثل أطلس الخبز، وأطلس آلات الموسيقى الشعبية، وقريبا أطلس الفخار، وأطلس الأزياء.

وهناك محاولات تقوم بها مؤسسات مدنية وأخرى فردية، منها «الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية» التي أنشئت في عام 2001، ووضعت هدفا أساسيا هو العمل على إنشاء أرشيف قومي للفنون الشعبية المصرية. أما فرقة «ومضة للأراجوز وخيال الظل» فتنطلق من التراث المصري للتأكيد على «أن لدينا ما يستطيع أن يعبر عنا»، وتطرح في أسلوبها ومضمون ما تقدمه منهجا يمكن أن نطلق عليه «فنون الضد»، برز في إحياء التراث الشعبي لخيال الظل، الأراجوز، الراوي، صندوق الدنيا، الموسيقى الشعبية، الرقص الشعبي... وغيرها. تبرز في الميدان أيضا «جمعية أصالة لرعاية الفنون التراثية والمعاصرة»، التي تسعى للحفاظ على التراث في مجالات العمل الحرفي والفني المختلفة، وقدمت موسوعة الحرف التقليدية للحفاظ على الحرف والفنون التراثية وتنميتها والتقصي عن أسباب تدهور بعض الحرف واندثار البعض الآخر.

أما المحاولات الفردية فيبرز منها قيام الشاعر عبد الرحمن الأبنودي بتوثيق «السيرة الهلالية»، وجمع فصولها من أفواه منشديها بمفرده.

لكن رغم تلك المحاولات هناك تراث مصري ضخم ضائع في انتظار التوثيق، مثل التراث الغنائي والسينمائي، خصوصا بعد بيع التراث الغنائي المملوك لاتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري إلى إحدى القنوات الفضائية العربية، والذي يقدر بنحو 11 ألف دقيقة من الحفلات الغنائية لكبار المطربين المصريين والعرب، وهو ما دعا وزير الإعلام المصري، أنس الفقي، إلى مطالبة النائب العام بالتحقيق في مخالفات بيع هذا التراث. وفي استطلاع لـ«الشرق الأوسط» حول هذه القضية مع عدد من الباحثين والمختصين، يقول الباحث في التراث هشام عبد العزيز إن «مشكلات جمع التراث سببها العمل بمنطق (الكهنة)، كل يعمل في منطقة تخصه فقط دون العمل الجماعي والعلمي، رغم أن التراث العربي يحتاج إلى العمل الجماعي بشدة، وهذا التمزق سببه أن جهات التمويل لمشروعات توثيق التراث ليست واحدة، فهناك مثلا صندوق التنمية العربي بالكويت واليونيسكو، ولكل جهة تصورات مختلفة عن الجهات الأخرى».

ويضيف عبد العزيز: «رغم ذلك تم خلال العشرين عاما الأخيرة الاهتمام بالتراث وتوثيقه من خلال عدة محاولات، فبالنسبة إلى التراث المدون يبرز المشروع الذي تبنته قرينة الرئيس، السيدة سوزان مبارك، في ترميم مخطوطات دار الكتب والوثائق المصرية، الذي أتصور أنه من أهم المشروعات الثقافية، كذلك ما قام به مركز المعلومات التابع لرئاسة الوزراء من توثيق كل المخطوطات في دار الكتب المصرية بشكل علمي سهّل على الباحثين عملية البحث، ثم يأتي دور مركز التراث الطبيعي والحضاري الذي بصدد تصوير كل المخطوطات بدار الكتب بطريقة رقمية (ديجيتال)».

وفي ما يتعلق بالتراث الشفهي، فأبرز المحاولات - بحسب عبد العزيز - كانت ولا تزال لـ«مركز دراسات الفنون الشعبية» الذي بدأ منذ عام 1957، والذي عمل على توثيق التراث المصري لمدة 15 سنة، لكن يعيب هذا الجهد حالة الأرشفة السيئة، «فهناك حالة من اللامبالاة في التعامل معها حاليا مما يجعلها عرضة للضياع، كذلك هناك (الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية)، التي تهتم بجمع التراث اللامادي في مصر كلها، منها توثيق السيرة الهلالية، حيث تم جمع 400 ساعة، وهو ما لم يتم في تاريخ الجمع الميداني في مصر، إلى جانب بعض المحاولات الفردية».

وفي رأي الشاعر مسعود شومان، مدير عام «أطلس المأثورات الشعبية المصرية» بالهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، أن «المشكلة تكمن في توزع الجهود، فهناك مواد يتم جمعها لأكثر من مرة ومن نفس المصدر مما يؤدي إلى إهدار الطاقة والجهد. كما أن الإبداع يتطلب أن يكون في وسط متجانس، حيث تتميز عناصر المأثورات الشعبية بأنها شديدة الارتباط بعضها ببعض. وبالتالي هناك حاجة إلى دراسة الظاهرة في كليتها»، مبينا أن «الفترة القادمة ستشهد توحيدا للجهود بين أطلس المأثورات الشعبية ومركز توثيق التراث الطبيعي والحضاري بما يصب في النهاية في خدمة حركة توثيق التراث المصري».

ويعيب شومان على المؤسسات والجمعيات العاملة على جمع التراث سواء رسمية أو أهلية أنها لا تلتفت إلى البعد الأعمق في عملية توثيق التراث، وهو كيفية الاستفادة من هذا التراث، «فالجمع الميداني ليس هدفا في حد ذاته، والغرض من جمع التراث وتوثيقه ليس لتكوين متحف لمواد التراث الشعبي، بل في توظيفه على مستويات متعددة، على سبيل المثال التراث يفيد في دراسة أبعاد مشكلات اجتماعية تعاني منها مصر مثل النسل والأمراض والعادات والتقاليد، فدراسة عقلية الإنسان الشعبي مفيدة لما يملكه من تصورات وخبرات، كذلك فالتراث أداة هامة للفنان والموسيقي لاستلهام الروح الفنية واستيعاب المأثورات في فنه، كما أنه مهم لاكتشاف المناطق الشاغرة في التاريخ، سواء على مستوى الرؤى التي لم تكتب أو المناطق التي توارت مثل التاريخ القبلي وتاريخ الأماكن وتاريخ الحوادث، وبالتالي يصب توثيق التراث في خدمة علم التاريخ».

الدكتور نبيل بهجت، أستاذ المسرح بجامعة القاهرة وأكاديمية الفنون، رئيس فرقة «ومضة» للأراجوز وخيال الظل، والذي انتهى مؤخرا من مشروع توثيق التراث الشفاهي للأراجوز وخيال الظل في كتاب و20 فيلما وثائقيا، يوضح أن «هذا المشروع جاء في إطار الحفاظ على المسرح الشعبي المصري من الانقراض، والتأكيد على الهوية المصرية حيث يعتبر الأراجوز من أشهر الدمى الشعبية في مصر على الإطلاق، رغم انحساره في الآونة الأخيرة لقلّة عدد فنّانيه ولسطوة وسائل الإعلام الحديثة، إلاّ أن شهرته ما زالت كما هي، بل إن الكثيرين يستخدمون لفظة أراجوز للدلالة على معانٍ مختلفة في معجم الحياة اليومية للمصريين».

ويطرح بهجت رؤية مخالفة عن أهمية توثيق التراث المصري، قائلا: «الشيء الذي أراه هاما ويغيب عن محاولات توثيق التراث الحالية، هو كيفية استخدم مفردات التراث المصري من خلال تفعيلها اقتصاديا، بمعنى استثمار هذا التراث والاعتداد به كمصدر اقتصادي. فلكل دولة ثقافتها ولكل دولة تراثها الشعبي، وهذا هو الأساس الذي تقوم عليه فرقة ومضة، حيث تسعى الفرقة للاستفادة من التراث اقتصاديا بخلق فرص عمل وبالمحافظة على مقدمي هذه الفنون ككنوز بشرية. فمصر لا تمتلك منتجا بحجم الثقافة تستطيع أن تسوقه وتعتمد عليه، كما أن دول العالم تعيد الاهتمام بتراثها مرة أخرى حفاظا منها على الهوية، كما تهدف الفرقة إلى أن تصبح بمثابة مدرسة يلتحق بها الراغبون في تعلم هذه الفنون الشعبية ليتخرجوا منها وقد امتلكوا أدواتهم الفنية المنبثقة من التراث رغبة من الفرقة في خلق كوادر جديدة لإحياء هذه الفنون».

ولا يخفي رئيس «ومضة» أمنيته بأن يكون هناك استثمار عربي داخل الأفكار التراثية وإعادة استخدامها بشكل اقتصادي وربطها بآليات الاقتصاد في كل دولة عربية، فهذه الطريقة في توثيق التراث تفّعل التمسك بالهوية العربية وتحقق المقولة الشهيرة أن «الإغراق في المحلية هو الطريق إلى العالمية».

من جانبه ينتقد الدكتور صلاح الراوي، أستاذ الأدب الشعبي بأكاديمية الفنون، كل المحاولات التي تحاول إحياء التراث المصري، سواء كانت حكومية أو أهلية، واصفا إياها بـ«المحاولات غير الأمينة»، لأنها قائمة على رؤى هزيلة، ودون وجود خطة واضحة تنظم عملها، مما أدى إلى أن يظهر إنتاجها بشكل متناثر ومتفرق لا يخدم فكرة الأرشفة، موضحا أن الأرشفة فكرة عميقة تقوم بها الدول المتقدمة، حيث كل شيء فيها يتم في سياقه، ما يعكس منظومة عمل متكاملة. يضيف الراوي: «يجب أن نسأل أنفسنا أولا لماذا نضع أرشيفا، وبناء على إجاباتنا تحدد الكيفية التي يتم وفقها التعامل مع التراث».

ويشير الراوي إلى أن توثيق الثقافة الشعبية والتراث المصري في كل المجالات لا يمضي وفق دراسة واضحة أو استراتيجية محددة، فهذه الثقافة تعد منظومة مترابطة لا يمكن أن يقوم على توثيقها فرد واحد أيا كانت قدراته، بل تحتاج إلى رؤية جماعية منضبطة علميا، كما لا تقوم على المصادفات أو الانتقائية أو العشوائية، فذلك من شأنه أن لا ينتج عملا منضبطا.

ويرى الراوي أن «الجهة الوحيدة المؤهلة لتوثيق الثقافة الشعبية هو مركز دراسات الفنون الشعبية التابع لأكاديمية الفنون ولمعهد الفنون الشعبية، الذي يعمل على إحياء الثقافة الشعبية والاتجاه بها اتجاها قوميا يرعى تراث مصر وأصالته»، مطالبا بـ«أن يلقى المركز دعما حكوميا ينتشله مما يتعرض له حاليا من إهمال وتهميش وتراجع في دوره».