«العيش الشمسي».. طقس صعيدي معجون بملح الأجداد

يرمز إلى قرص الشمس عند الفراعنة

الخبز الشمسي أو «العيش» باللغة العامية المصرية واحد من 12 نوعا ما زال أهالي صعيد مصر يعتمدون عليها في غذائهم اليومي («الشرق الأوسط»)
TT

في مصر أكثر من مائة نوع من الخبز، لكن يظل من ألذها وأطعمها «العيش الشمسي» الذي تشتهر به محافظات الجنوب، ويعرف بـ«العيش الصعيدي» أو «الملتوت»، ويمتد مذاقه وطقوسه إلى عصور الفراعنة.

تتوافق معظم بيوت الصعيد على صنع الخبز الشمسي، الذي يتطلب مهارة وحساسية في عجنه وتخميره، بالإضافة إلى الصبر والقوة من السيدة أو مجموعة السيدات اللاتي يقمن بصنعه، لما يمر به من مراحل كثيرة لإخراجه في صورة ترضى عنها ربة البيت، وقد يؤدي التقصير في أي مرحلة من مراحل صنعه إلى فشل تجربة الخبيز نهائيا، وتستغرق عملية الخبيز يومين، بداية من خلط الدقيق بالماء ووصولا إلى خروجه في شكله النهائي.

الخبز الشمسي، أو العيش باللغة العامية المصرية، واحد من 12 نوعا ما زال أهالي صعيد مصر يعتمدون عليها في غذائهم اليومي، بل يصدرونها إلى باقي مدن مصر. في مقدمة هذه الأنواع (الخماريت وهو عبارة عن رقائق من الدقيق تم خلطها بالماء ووضعها داخل أفران الخبيز ليؤكل بعد ذلك بمفرده، أو يضاف إليه الحليب، بالإضافة إلى الملتوت، والجرجوش أو الفايش، والسناسم، والجروص، والنشابة، والأباريج، والمطبق، والكسرة، والبتاو، والقرص)، وجميع هذه الأنواع ورثها المصري القديم عن أجداده الفراعنة، لكن العيش الشمسي يعد من أكثرها شهرة لاعتماد معظم القبائل عليه بصفة يومية في الوجبات الغذائية.

وعن طريقة تصنيعه تقول اعتماد أبو حمد إحدى المشهورات بصناعته: «العيش الشمسي أو (الملتوت) يصنع من دقيق القمح البلدي، ويمر بست مراحل، حيث يتم عمل عجينة الخميرة في اليوم الأول من الخبيز، وتترك حتى تختمر، ثم تتم إضافتها إلى الدقيق الذي تم خلطه بالماء الدافئ، وقليل من ملح الطعام، لتبدأ بعدها عملية العجن التي تستغرق أكثر من ساعتين حتى تصبح العجينة سائلة، ثم تتم تغطية الإناء الذي شهد عملية العجن بغطاء محكم ويترك حتى اليوم التالي».

تتابع اعتماد «بعدها تبدأ عملية (تقريص) العجين أي تقطيعه إلى قرص صغيرة، ترص على أطباق أو (مقارص) تم صنعها خصيصا للعيش الشمسي بعد أن يتم فرشها بالردة، بعدها تتم عملية التجريح للتأكد من خمرة الخبز، ثم تبدأ مرحله التسليم على العيش أي فرده باليد بواسطة قطعة قماش، ويترك بعدها تحت أشعة الشمس حتى يختمر مع مراعاة تقلبيه على الوجهين، وبعد الشعور بأن ملمسه قد تغير تبدأ عملية (التشقيق) التي تأخذ شكل دائرة حول الرغيف بواسطة السكين، بعدها يتم إدخاله الفرن البلدي، رغيفا تلو الآخر، عن طريق المطرحة التي تشبه المضرب الخشبي، ويترك حتى يحمر وجهه، ثم يتم إخراجه».

وتوضح فاطمة صبرة، إحدى صانعات العيش الشمسي، أن «عملية العجين أهم مرحلة في صناعة العيش الشمسي، حيث تحتاج لقوة بدنية لمن تقوم بتقليبه، كما أن وجود الشمس عنصر أساسي لاختمار العيش ومن دونها لن يتخمر ويرتفع عن موضعه (ينتفش)، كما أن العجين عندما يغطي مكانه في القرض( اللوح الخشبي) الذي وضع عليه الرغيف يعني هذا أن عملية الخبيز نجحت، إضافة إلى أن عملية الخبيز تحتاج لأكثر من سيدة لتقوم كل واحدة بدورها. فهناك من تقطع وأخرى ترص وثالثة (تحمي) الفرن.. وعموما، جميع نساء العائلة الواحدة داخل البيوت الصعيدية يشاركن في عملية الخبيز، كما أن الأفران الطينية أفضل لنضج الرغيف الشمسي من الأفران الكهربائية الحديثة».

وعن الخلفية التاريخية لولع أهالي الصعيد بالعيش الشمسي يقول الباحث في التراث الشعبي بمحافظة أسوان، محمد سعد الدين: «معظم الأسر في جنوب مصر ما زالت تحتفظ بتراث الأجداد وتعتمد في غذائها على عيش الشمس أو العيش الصعيدي بشكل أساسي، وأصبح عيش الشمس أحد أهم موروثات أهل الصعيد عن أجدادهم الفراعنة، ولذلك تضم معظم البيوت خاصة في قرى الصعيد فرنا بلديا تم بناؤه من الطين خصيصا لصناعة العيش الشمسي».

وحول سر شهرة العيش الشمسي وإقبال المصريين عليه سواء في الجنوب أو الشمال يقول سعد الدين: «تكاليف صنع العيش الشمسي بسيطة، لذا فهو في متناول جميع الأسر، كما أن تخميره في الشمس، يعطيه مذاقا حلوا خاصا، كما يتميز بكبر حجمه عن العيش الذي يباع في الأسواق. وقلما تجد خبزا يتمتع بنظافة شاملة مثل العيش الشمسي، حيث إن سيدة المنزل هي من تقوم بصناعته سواء بمفردها أو بمعاونة أخريات، كما يحتوي على الكثير من العناصر الغذائية المهمة، ويشعر آكله بحالة جميلة من الإشباع، لذلك يعد وجوده في أي بيت صعيدي ضرورة اجتماعية، وخاصة أن أغلب بيوت الصعيد تتكون من ثلاث عائلات أو أكثر يأكلون جميعهم في مكان واحد».

ويذكر سعد الدين أن المصري القديم أول من عرف صناعة عيش الشمس، ولا تزال السيدات حتى الآن محتفظات بعمل خط دائري في منتصف الرغيف كمعتقد فرعوني يرمز إلى الإله (آمون رع) إله الشمس لدى المصريين القدماء، الذي حكم مصر في عهد الأسرة الخامسة، وكان يرمز إليه بقرص الشمس، وهو عبارة عن رجل يرتدي تاجا فرعونيا يحمل على رأسه قرص الشمس.

وبحسب سعد الدين، تمتع العيش الشمسي عند المصريين القدماء بنوع من القداسة، فكان يقدم قربانا إلى الآلهة التي تبعث الحياة للبشر مع مطلع كل يوم، كما أن فكرة إنضاجه تحت أشعة الشمس، تحمل دلالة على التجدد والعطاء، فالشمس منبع الحياة كل يوم.