«سفيانوبولو».. من مكتب بريد يوناني إلى «مطحن بن مصري»

عمره 102 سنة ومن عشاق قهوته أنور السادات وديميس روسوس

لقطة لمحل «سفيانوبولو» من الخارج حيث رائحة البن تفوح في المكان
TT

عبر ناصية متميزة لشارع سعد زغلول عند محطة الرمل في مدينة الإسكندرية المصرية، لا تزال رائحة القهوة المنعشة تعبق كما كانت منذ 102 سنة.

هنا مطحن بن «سفيانوبولو» الشهير الذي يعرفه السكندريون جيدا جيلا بعد جيل، ويكفي أن يمر المرء في الشارع الذي يمتلك ناصيته «سفيانوبولو» لتزيل عنه رائحة القهوة إجهاد يوم عمل شاق وتنعشه وسط زحام وسط المدينة، ودبيب البشر في «عروس المتوسط» من شتى أنحاء العالم.

بمجرد الدخول إلى عالم «سفيانوبولو» ستشعر بأنك دخلت إلى عالم القهوة السحري، حيث تتناثر أكياس البن في كل ركن من أركان المحل، كما ستجد هنا كل ما يتعلق بصناعة البن، حيث المطاحن العتيقة إلى جانب ماكينات صناعة القهوة الحديثة، والديكورات البنية اللون والصور التي تجسد مراحل صناعة القهوة.

حكايات كثيرة تحملها جدران المحل الذي احتفل بمئويته منذ نحو سنتين، يرويها لـ«الشرق الأوسط» أحد أصحابه، وهو من الجيل الثالث من عائلة طنطاوي التي تملكه. ويقول محمد طنطاوي، وهو يعمل على خدمه زبائن المحل بمنتهى السعادة: «(سفيانوبولو) كان في الأصل مكتب بريد يونانيا أسس عام 1908، وكان يملكه (خواجة) يوناني شهير هو سفيانوبولو الذي ورثه ابنه ميخائيلي الذي كان صديقا لجدي حسن علي الطنطاوي. وقد أسسا شراكة وحولاه إلى مطحن للبن عام 1932. يومذاك لم يكن فيه موظفون غير 4 يونانيين استمروا في العمل معنا. وعندما رغب ميخائيلي سفيانوبولو في العودة إلى اليونان، وقد هاجر عام 1937، فإنه باع عائلتنا نصيبه في المحل. لكن جدي قرر الاحتفاظ بالاسم اعتزازا بالصداقة التي جمعتهما وصورهما معا تملأ المحل، وهو ما كانت عليه حياة الإسكندرية في الماضي». وحقا ظلت ديكورات المحل كما كانت عليه في الماضي، ولا تزال صورته عندما كان مكتبا للبريد معلقة على الحائط منذ أكثر من مائة سنة.

ومن بين الحكايات الكثيرة عن تاريخ سفيانوبولو، يتذكر محمد كلام أبيه عن أهمية المحل، قائلا: «محلنا من أعظم المحلات في مصر، وكان يأتي إلينا الرئيس (أنور) السادات الذي اعتاد أن يأخذ قهوته هنا، وكانت تأتي معه 3 سيارات؛ اثنتان للحراسة وثالثة للأطباء ليتأكدوا من سلامة القهوة».

ويضيف: «أيضا أبي كان يقول إن بعض أهم الشخصيات اليونانية المقيمة في الإسكندرية كانت تشتري احتياجاتها من البن من هنا، ومن بينهم عمدة أثينا.. والمغني اليوناني (السكندري) ديميس روسوس، الذي كان والده أيضا يأتي للمحل، ولا يزال أبي على اتصال بعدد كبير من اليونانيين المصريين الذين هاجروا إلى اليونان». ويتابع طنطاوي أنه «في السنوات الثلاث الأخيرة بدأت الرحلات تعود مجددا إلى الإسكندرية بكثرة وتأتي أوتوبيسات محملة باليونانيين الذين يسعدون بوجود أشياء أو محال يونانية وتحمل أسماء أشخاص من وطنهم، وهم يشعرون بحنين بالغ وسعادة غامرة لوجودهم مرة أخرى في الإسكندرية»، مشيرا إلى أنهم يحرصون على التقاط صور تذكارية مع أحفادهم في أرجاء المحل. ويكمل محمد، مع متابعة طلبات زبائن المحل: «منذ 30 سنة، حين قرر أبي وعمي تقسيم المحل، قرر عمي فتح مقهى يخدم زبائن (سفيانوبولو)، وهو سبب وجود مدخلين منفصلين للمحل».

تزين غرة المحل العريق قطعتان فنيتان نادرتان تشدان انتباه الزوار هما تمثالان غاية في الإبداع من العاج لفتاتين أفريقيتين، يقول عنهما محمد طنطاوي: «لا تقدر قيمة هذين التمثالين بثمن لأنه لا يوجد مثلهما سوى 6 تماثيل في العالم، ونحن نملكهما ولدينا شهادة بذلك معلقة على حائط في المحل. وقد تهافت كثيرون من محبي المنحوتات على شرائهما منا. كما سعت وزارة الثقافة المصرية لوضعهما في أحد متاحف القاهرة، لكن أبي رفض. ورفض كذلك عروضا بمبالغ طائلة من آثاريين يونانيين لشرائهما ووضعهما في متحف باليونان، لاعتزازه بهما. وهو يحتفظ أيضا بكل ما يتعلق بـ(سفيانوبولو) عندما كان مكتبا للبريد، ومنها كتاب بخط اليد باللغة اليونانية».

إلى ذلك، يرفع «سفيانوبولو» شعار «أصل القهوة»، ويوزع البن على جميع المحلات التجارية في المدينة بعدما ظل اسمه علامة للجودة والتميز في عالم القهوة، وتجد عبوات البن بشعار «سفيانوبولو» في جميع المحال الصغيرة وحتى «الهايبر ماركتس» الكبيرة.

من ناحية أخرى، رغم المنافسة الشديدة بين مقاهي الإسكندرية اليونانية القديمة والمقاهي الحديثة فإن «سفيانوبولو» ليس مجرد محل لبيع البن، بل يمكنك احتساء بعض القهوة المنعشة في ركن المقهى الصغير. وهو يقدم القهوة بمذاقات متنوعة سواء بالفانيليا أو البندق أو الشوكولاته، كما يمكنك الحصول على أفخر «الإسبريسو» و«الموكا» و«الكابوتشينو» بأنواعها. ثم إن معظم زبائن «سفيانوبولو» من كبار السن يأتون إليه كما اعتادوا منذ عشرات السنين للحصول على أفخر أنواع البن العالمية وأجودها، لا سيما أنه يقدم القهوة التركية ذات المذاق الخاص من توليفة البن البرازيلي والبن الكولومبي والبن الحبشي والبن اليمني، كما يقدم البن الغامق والمحروق من توليفة بن هندي خاص درجة أولى، أما لعشاق القهوة العربية فيقدم مذاقاته اللذيذة بتحويجات الحبهان (الهيال أو الهال) أو زر الورد أو المستكة أو جوزة الطيب، فضلا عن مختلف أنواع القهوة الغربية، لا سيما الإيطالية والأميركية. وإلى جانب القهوة يجد الزبائن أيضا غاياتهم من منتجات الكاكاو والشاي بأنواعهما.

أحد الزبائن، مراد سليم (60 سنة) يقول: «أحرص على المجيء إلى (سفيانوبولو) كل أسبوعين تقريبا لاحتساء القهوة وشراء مخزوني من البن المحروق الذي أعشقه، وطوال سنوات عملي كنت أحرص على شراء كمية تكفيني في العمل لأحتسي منها قهوتي الصباحية، وأجلس هنا لأتذكر أيام شبابي وكفاحي أثناء ذهابي وإيابي للعمل في المنشية. كذلك أولادي اعتادوا على مذاق بن (سفيانوبولو)، لكنهم يعشقون البن العربي المحوج بالحبهان، لذا آتي لشراء ما يلزمني ويلزمهم».

وتروي ماريا كرياكوس، اليونانية المصرية (72 سنة): «مجرد جلوسي هنا يذكرني بأيام طفولتي عندما كان أبي يصطحبني لشراء البن من (سفيانوبولو)، وكنا بعدها نتجول في أرجاء محطة الرمل ورائحة البن تغمر أي مكان ندخله». سنوات وسنوات مرت على «سفيانوبولو» لم يعد خلالها مجرد مطحن للبن، بل غدا «مَعلما» من معالم الإسكندرية الكوزموبوليتانية التي تتحدى الزمن، ومزارا سياحيا يأتي إليه الزوار من جميع أنحاء العالم، وبالأخص من الجنسيات التي كانت تعيش في الإسكندرية في عصرها الذهبي.