مقابر الكومنولث بالإسماعيلية تجمِّل كوارث حروب البشر

تحفة معمارية تزينها الحدائق وتزورها أسر الضحايا سنويا

جانب من مقابر الكومنولث بالإسماعيلية («الشرق الأوسط»)
TT

للوهلة الأولى قد تتصور هذا التناسق البديع في أشكال هندسية متجاورة في قلب مساحة من الحدائق الخضراء تفوح منها روائح الورود والأزهار بأنه متنزه رومانسي، لكنك حين تقترب قليلا ستشعر بنوع من الوقار والهيبة، وتكتشف أنها مقابر، تحوي بداخلها حكايات بشر، وأسرار حروب، وصراعات قوى، لم تحصد في النهاية سوى حفنة من التراب.. إنها مقابر الكومنولث الدولية بمدينة فايد القابعة على شاطئ البحيرات المرة بمحافظة الإسماعيلية بمصر. وهي نموذج من 40 ألف مقبرة انتشرت على مستوى العالم تخضع لرعاية خاصة يقوم عليها العاملون بالهيئة الدولية التي اختصت بالإشراف ورعاية تلك المقابر.

أنشئت هيئة الكومنولث لمقابر الحرب بموجب الميثاق الملكي الذي أصدر عام 1917 لتخليد ذكرى ضحايا الحروب والذين بلغ عددهم نحو مليون و700 ألف رجل وامرأة ينتمون لقوات الكومنولث والذين قتلوا خلال الحرب العالمية الأولى والثانية.

والهيئة عبارة عن منظمة لا تهدف إلى الربح وقام بإنشائها سير «فابيان وار»، ومنذ وجودها قامت الهيئة بإنشاء 2.500 مقبرة وكذلك إنشاء شواهد أضرحة لكثير من المقابر ونصب تذكارية لوضع أسماء بعض الأشخاص المفقودين خلال هذه الحروب.

تقع مقابر فايد على مساحة 6 أفدنة ونصف تقريبا من المسطح الأخضر امتدت عليها نحو 1199 مقبرة تراصت بترتيب محدد كل على حسب تاريخ الوفاة وطبقا للديانات ما بين مسلمين ويهود ومسيحيين وهندوس وسطرت على حائط كل مقبرة تاريخ ميلاد ووفاة كل جثمان وديانته وجنسيته.

تستقبلك المقابر بواجهة أمامية تتوسطها بوابة قصيرة الطول من الخشب الأرو تواجه نصبا تذكاريا على شكل بوابة من الرخام يقام على عرض نحو عشرة أمتار بارتفاع نحو سبعة أمتار يمتد أمامها مسطح أخضر مترامي الأطراف على شكل مستطيل؛ وبين ارتفاعات ومنخفضات تمتد على طول المسطح الأخضر أقيمت مئات المقابر. ويتوسط المقابر نصب تذكاري سطر عليه أسماء نحو 256 جنديا كان يستحيل نقل رفاتهم إلى المقبرة وهم جميعا من ضحايا الحروب.

يقول جابر عبد الرازق رئيس العمال بمقابر الكومنولث بمدينة فايد: جميع المقابر داخل الضريح هنا لأجانب وقليل منهم عرب وأفارقة جميعهم لقوا حتفهم في الحربين العالمية الأولى والثانية، وفي معارك وعمليات عسكرية قام بها الفدائيون المصريين ضد قوات الاحتلال، والبعض منهم لقوا حتفهم بشكل طبيعي أما في حوادث أو أمراض وغيرها.

ويضيف: نحن ستة عمال نتبع هيئة الكومنولث نعمل هنا بالمقبرة ويشرف عليها مباشرة المكتب الرئيسي بالقاهرة والذي يترأسه أحد قدماء الحرب الإنجليز. مشيرا إلى أن المقبرة يصرف عليها سنويا آلاف الجنيهات، ما بين معدات وآلات وتنسيق للحدائق والزهور وأعمال نظافة ومرتبات للعاملين. كما أن المقابر تستقبل سنويا على فوجين خلال شهري نوفمبر (تشرين الثاني) وفبراير (شباط) من كل عام ما يقرب من 100 من أسر الضحايا؛ حيث تنظم الهيئة الدولية للأسر الأجانب من جنسيات مختلفة أغلبهم من الإنجليز والإيطاليين والألمان زيارات دورية لزيارة جثث ذويهم.

ويذكر جابر أن أقدم مقبرة هنا ترجع لعام 1915 وهي عدة مقابر لضحايا الحرب العالمية الأولى من الإنجليز والألمان والذين لقوا حتفهم في معارك متفرقة قرب المنطقة. مضيفا أن الهيئة الدولية تحرص على الاعتناء بالمقابر وزراعتها وتنسيقها بشكل هندسي وتستحوذ المقبرة على إعجاب الزائرين من الأجانب ودائما نسمع منهم كلمات الإطراء والإعجاب بالنسق والشكل.

وحول مهمته يوضح جابر أنها هنا تتركز في قص النجيل وتنسيق الأزهار ونزع الحشائش وتسوية المسطح الأخضر ليصبح متساوي الشكل تتوسطه رخامات المقابر المحاطة بالأزهار والورد الأحمر والبنفسجي اللون. ويتابع أن المدير العام لمقابر الكومنولث وهو إنجليزي الجنسية يزور شهريا المقبرة ويتابع أعمال النظافة والتنسيق داخلها.

ويقول جلال فرغلي أمين المقابر، أقدم من عمل بها منذ عام 1938: أعمل في هذه المقابر منذ أن كان عمري 13 عاما؛ وكانت هذه المنطقة صحراء وكان يتم دفن جثامين الأجانب بها من ضحايا الحروب وكانت المقابر عليها علامات ولافتات تشير لكل مقبرة ويدون عليها اسم صاحبها.

ويضيف أنه رغم أن المنطقة كانت شبه مهجورة إلا من بعض كتائب ومعسكرات الجيش الإنجليزي فإن المقابر كانت منظمة. وهنا مقابر للمسلمين وهم من الجنود في الجيش البريطاني وهؤلاء يدون على رخامات الإرشاد الخاصة بهم أسماء الله الحسنى وتكتب عليها أنهم مسلمون.

ويتابع أن أغلبية المقابر خاصة بالإنجليز وعددها 477 من الجنود والضباط والعاملين بالمنطقة خلال الفترة من 1914 وحتى 1957، وهناك 269 مقبرة للألمان من ضحايا الحرب العالمية الأولى؛ و27 مقبرة للهنود الهندوس، و137 مقبرة للبلجيكيين و103 من غرب أفريقيا وهناك أعداد متناثرة من دول كنيوزيلندا وشرق وجنوب أفريقيا ولبنان والسودان ويوغسلافيا واستراليا وبولندا واليونان وكندا واستراليا.

ويوضح فرغلي أن دفن الموتى في هذه المقابر كان يخضع لطقوس خاصة تبدأ بوصول السيارة التي تحمل جثمان الفقيد وفور وصولها ونزول الصندوق من السيارة يحمله 6 من الجنود الأجانب، وتطلق 36 طلقة من الذخيرة الحية في الهواء كتشريفة لوصول لجثمان. ويتقدم الجنازة التي تدخل من البوابة الرئيسة قس وضابط برتبة صول وقبل وضع الجثمان في القبر يقرأ القس ترتيل وكلمات ثم يقوم الجنود برفع الصندوق وهو مربوط بثلاثة حبال لوضعه في القبر ثم يتم الردم عليه وتوضع على المقبرة باقات من الورد والزهور.

يواصل فرغلي: بمرور عدة أشهر يأتي خطاط إلى مقر المقابر لنقل أسماء المدفونين الجدد من الدفاتر؛ ثم يأتي بعدها بالأحجار الرخامية التي توضع على رأس كل مقبرة ؛ ويدون على الحجر بالحفر اسم الفقيد وسنة وفاته وجنسيته وديانته.

ويتذكر فرغلي كنيسة كانت مقامة بجوار المقابر كانت تقام بها الصلوات ويدق فيها الأحجار الرخامية لكن تغير حالها الآن. ويضيف: في عام 1954 وقبيل مغادرة القوات البريطانية لمنطقة القناة تم إقامة الحدائق وتنسيقها بالشكل الهندسي الحالي تحت إشراف هيئة الكومنولث الدولية التي تهتم بالإشراف على مقابر الأجانب في دول العالم. وعقب خروج الإنجليز من مصر تعاقد الإنجليز مع أحد المقاولين للقيام بأعمال تهذيب وتنسيق المقابر؛ كما أن هيئة الكومنولث تتحمل تكلفة متابعة المقابر وتم صنع الرخام المدون عليه أسماء المتوفين في إيطاليا وجلب خصيصا لها. ويلفت فرغلي إلى ميزانية ضخمة تقدر بما يقرب من مليون جنيه تصرف سنويا على مقابر الكومنولث التسعة في مصر للحفاظ على هذا الشكل ذي الرونق الجذاب.

ويتذكر فرغلي: كانت هناك طقوس غريبة تقام أثناء دفن الموتى من الهنود الهندوس والسيخ، حيث كان يتم حفر المقبرة على عمق نحو مترين تحت الأرض ويتم وضع صفوف متراصة من الأخشاب ثم يوضع فوقها الجثمان وبعدها يتم تفريغ عبوتين من السمن المستخدم للطهي على الجثمان ويتم وضع عبوات سجائر وعلبة ثقاب، ويتم فوق ذلك وضع صف آخر من الأخشاب ثم تشعل النار بالمقبرة لساعات قد تمتد ليومين وأثناء ذلك كنا نسمع صوت طرقعة يهز المكان، وهذا دليل على انفجار جمجمة المتوفى ثم بعدها بساعات تخمد النيران إلى أن تنطفئ تماما. ثم يأتي مجموعة من هذه الطائفة ويقومون بعدها بطحن ما تبقى داخل المقبرة من رماد ثم يتم نشره في الهواء وأحيانا في البحر.

يشار إلى أن هيئة الكومنولث تشرف على نحو 23 ألف موقع لهذه المقابر تنتشر في 150 دولة في العالم. وتقوم الهيئة بالحفاظ عليها وصيانتها؛ كما أن أسماء جميع الجنود التي تحتويهم هذه المقابر موجودة بسجلات الهيئة.

وتشرف الهيئة كذلك على 40 ألف مقبرة من جنسيات أخرى إضافة إلى 25 ألف مقبرة مدنية غير حربية.