عندما حقق المخرج بول فرهوفن «روبوكوب» سنة 1987 كان ورد حديثا من بلاده هولندا. مثل كثيرين سواه من مخرجي أوروبا، توخى فرهوفن لنفسه مكانة أفضل في رحى هوليوود مدركا أن الشهرة الحقيقية موجودة فيها وبسببها.
آنذاك، وبعد نحو خمسة أعمال سينمائية حققها في موطنه الأول، وبضعة إنتاجات تلفزيونية، كان لا يزال المخرج قادرا على تحقيق ذاته وأحلامه في عاصمة السينما على عكس ما هو الحال عليه اليوم اختفى فيها، أو يكاد، التوقيع الخاص بمخرج معيّن. ذلك التوقيع الذي كان بمثابة دلالة على أن شهرته إنما تتجاوز، أو في أضعف الأحوال، تتساوى وشهرة نجوم السينما.
«روبوكوب» الذي يُعاد صنعه وطرحه هذه الأيام، لم يكن فيلم فرهوفن الأول لحساب هوليوود. قبله بعامين قام بتحقيق فيلم من المغامرات المرمية في التاريخ البعيد بعنوان «لحم + دم» أسند بطولته لمواطنه روتغر هاور الذي كان سبق فرهوفن إلى أميركا. جنيفر جاسون لي وتوم برلنسون وجاك تومسون جاهدوا في سبيل استرداد ما يعتبرونه حقا من زعيم مقاطعة في أوروبا عام 1501 ساعدوه على استعادة ملكه لكنه تنكر لهم بعد فوزه وحاربهم.
«روبوكوب» كان نقلة بالغة الأهمية لفرهوفن الذي اعتبر نفسه فنانا سينمائيا قادرا على صنع أعمال تختلف عن معظم ما تنتجه هوليوود من دون أن تتنكر لها. وهو كان البداية الفعلية للشق الهوليوودي من مهنته، فمن ناحية لم يكن «لحم + دم» سوى «أوراق اعتماد» ومن ناحية أخرى هذا الفيلم الثاني هذا الفيلم كان من النوع المفضّل أميركيا وهو الخيال - العلمي وحمل فكرة جديدة من نوعها: شرطي من مدينة دترويت (في مستقبل قريب لكنه غير محدد) يجري إنقاذ حياته بتحويله (نصفيا على الأقل) إلى روبوت.
ليس فقط أن الفيلم حقق نجاحا مدويا حينها دفع لتحقيق أجزاء أخرى (لم يكن من بينها ما هو أفضل من هذا الجزء الأول)، بل أوجد لمخرجه مكانة لائقة في هوليوود كمخرج أكشن موهوب. بعده حقق «توتال ريكول» ثم مال إلى البوليسي في «حاسة أساسية» ثم عاد إلى الخيال العلمي في «ستارشيب تروبرز» ثم صنع فيلما غرائبيا ذا أحجية بوليسية في «رجل الفراغ» وكل ذلك قبل أن يجد أن الطريقة التي بات مطالبا منه أن يعمل بمقتضاها ليست ما جاء إلى هوليوود لأجله.
* فيلم ضد فيلم
* 26 سنة مرّت على «روبوكوب» قبل أن نرى الآن نسخة من نوع «إعادة صنع» (Remake) تقتحم الصالات واعدة بفيلم أفضل من سابقه بضرورة التقدّم التقني الذي خطا خطوات واسعة منذ ذلك الحين. المخرج الجديد هو البرازيلي جو باديّا الذي سبق وأن قدّم أفلام أكشن برازيلية أعجبت هوليوود وحين فكّرت في تحقيق معالجة جديدة لـ«روبوكوب» كان باديلا أحد من تواصلت معهم تمهيدا لاختياره.
باديلا (الذي يتردد أن أصله من آل «بديعة» من لبنان) بدا اختيارا جيدا. هذا مخرج يفهم ما تقوم عليه أفلام الأكشن الجيدة: مونتاج حاد. تصوير شوارعي بكاميرا نطناطة والكثير من القتل والقتل المضاد. في فيلمه الأشهر «فريق النخبة» صوّر ما في واقع أمره نسخة من الفكرة التي يقوم عليها «روبوكوب» من دون الجانب العلمي والتقني له. الحكاية هناك هي مساع وتضحيات نخبة متميزة من رجال البوليس البرازيلي في مقارعة الجريمة وتجارة المخدّرات ومحاربة عصابات ساو باولو. الكثير من الكر والفر والصراخ ورصاص حروب الشوارع وقذائفها والمنتصر في النهاية هم رجال البوليس أنفسهم.
حين خروج الفيلم إلى صالات السينما اتهمه المثقفون البرازيليون ثم النقاد حول العالم بأنه فيلم فاشي. إن المخرج يمنح البوليس الحق في استخدام كل القوّة وتأكيد سلطاته من دون الاهتمام بحقوق الإنسان.
هذا الاتهام سيق أيضا في مطلع السبعينات عندما قام كلينت إيستوود، وتحت إدارة المخرج الراحل دون سيغال، بتحقيق «ديرتي هاري»، ما دفع إيستوود بعد ذلك لإنتاج (وبطولة) «قوّة الماغنوم» من إخراج الراحل (أيضا) تد بوست. في ذلك الفيلم المنتج سنة 1973 صوّر إيستوود حال فريق من رجال البوليس آلوا على أنفسهم تطبيق القانون متحوّلين إلى القوّة الكاملة، فهم ينفذون حكم الإعدام فيمن يعتقدون أنه مذنب إما لم تثبت عليه التهمة أو ليبرالي يؤمن بمنوال آخر من العمل. بذلك ردّ إيستوود التهمة بأنه يميني متطرّف يؤمن بسُلطة فاشية لاعبا هنا دور الشرطي هاري الذي يتصدّى لفاشيين فعليين في السلك البوليسي.
طريقة جوزيه باديلا في درء التهمة المذكورة عنه كانت في تحقيق فيلم يحمل على الفساد داخل دائرة البوليس سمّاه «فرقة النخبة: العدو الداخلي»، وفيه يصفّي البوليس بعضه بعضا والغلبة بالطبع للمعتدلين منهم.
في «روبوكوب» يعود باديلا إلى موقعه الأسبق: هنا في دترويت المستقبل (لا بد أنه مستقبل أبعد من ذاك الذي فكّر فيه فرهوفن) شركة لصنع الروبوت (يديرها مايكل كيتون) تنوي نشر اختراعها من رجال القانون المسلحين بصواريخ فتّاكة لمجابهة كل نوع من الاعتداءات. هؤلاء ليسوا بشرا بل «روبوتس» تم تغذيتهم ببرامج كومبيوتر تتفاعل ضد أي خطر محتمل وتجابهه قبل فوات الأوان.
بطل الفيلم هو أليكس مورفي (جويل كينامان) شرطي عادي إلى أن سقط برصاص عصابة قوية تركته بين الحياة والموت ولم ينقذ حياته سوى العالم (غاري أولمان) الذي منح أليكس حياة مزدوجة نصفها آلي بالكامل ونصفها أو ربما أقل من ذلك، بشري.
إذ ينطلق أليكس مجددا لتثبيت الأمن حسب نظام عمل رجال القانون إنما بعزيمة أكبر، تحاول المؤسسة دفع الإدارة الأميركية لتبني برنامجها المتطرّف مروّجة لكافة منتوجاتها الميكانيكية.
وفي مطلع الفيلم طورة عن هذه المنتجات. المعلق التلفزيوني بات نوفاك (صامويل ل. جاكسون) يقدّم حلقة من برنامج إعلامي تخص الوضع الأمني في إيران. لقد تم احتلال إيران من قبل الجيش الأميركي وبمساعدة طائرات من دون طيّارين (نماذج جديدة أصغر حجما وأكثر مهارة ونجاحا في التصويب) وجيش من الروبوتس. بات يشرح في مطلع حديثه أن هذا النظام الأميركي بات معمولا به في كل مكان في العالم ما عدا الولايات المتحدة. وفي نهاية حديثه يقترح أن يعيد الكونغرس النظر فيما رفضه سابقا من اقتراح باستخدام هذه الأسلحة والآليات العسكرية لحماية المدن الأميركية نفسها.
في نهاية الفيلم يطل جاكسون من جديد ليسأل مشاهدي برنامجه التلفزيوني (ومنهم مشاهدو الفيلم) إذا ما كانوا يقبلون بالجريمة من دون عقاب.
* تعليق ساخر
* في طي المقدّمة والنهاية كل تلك العلامات السياسية التي تربط الفيلم بسياسة اليمين المتطرّف. لكن فحوى الحكاية لا يزال غير ثابت، لأن أشرار الفيلم متمثلون في رئيس وأفراد المؤسسة التي تريد تطويع كل شيء لحساب برنامجها الأمني ليس بهدف حماية الأرواح البريئة أساسا، بل جنيا لمليارات الدولارات التي ستغدق عليها إذا ما تبنت الحكومة برنامجها ذاك.
لولا النهاية لوقف الفيلم عند منتصف الطريق بين يمين ويسار. من ناحية يدعو للبطش في محاربة الجريمة، ومن ناحية أخرى يكشف حقيقة هذه الدعوة. لكنه أراد أن ينجز في الواقع موقفا يضعه أقرب إلى تخليد العنف في حل معضلات الحياة المعاصرة واعتمد ذلك عبر تأييده لاستخدامه كسلاح في القضايا الأمنية عالميا، ثم لتصوير المشكلة، ضمن النطاق الأمني الداخلي، على أساس أن التطبيق له غايات مادية لكنه مقبول من حيث المبدأ. روبوكوب نفسه موجود ليؤكد هذه النظرية.
«روبوكوب» الجديد فوضوي وضوضائي كما أفلام باديلا السابقة. لكن علاوة على ذلك هو فيلم رديء الصنعة فنيا. وبالمقارنة مع «روبوكوب» السابق فإن المسافة النوعية بينهما كبيرة جدّا.
ما هو غائب عن هذا الفيلم هو عنصر المشاغبة التي عُرف بها بول فرهوفن في أفلامه. المخرج الهولندي كان مع عنف للتسلية مع قليل من خدش الحياء. العنف في نسخة باديلا جدي وخال من الألم الإنساني، بينما في نسخة فرهوفن هو العكس.. هازل وساخر ولا يزال مؤلما.
في الواقع كل فيلم فرهوفن يحمل ذلك القدر من الهزؤ والسخرية. إنه تعليق اجتماعي يتمحور حول ما رآه منتشرا في مجتمع استهلاكي بالكامل. الفكرة الماديّة لا تقف وراء محاولة المؤسسة صنع ترويج وبيع الروبوتس كحل للأمن الفالت، بل وراء ما يبثّه التلفزيون من برامج. فرهوفن علق على الطريقة التي رأى بها أميركا وهو المقبل من الغرب الأوروبي، في حين لم يشأ باديلا ممارسة أي تعليق اجتماعي من هذا النوع.
وثابر فيلم فرهوفن على الربط بين تلك المصالح السياسية والاقتصادية وبين عصابات الشوارع. بل وتشجيع المستثمرين لتجار المخدّرات ليجنوا ما شاءوا وذلك في مشهد دال نرى فيه نائب المؤسسة النافذ يخبر رئيس العصابة بأنه إذا ما ساعده سيستطيع الوصول إلى مليوني موظّف في العالم الجديد الذي يريد بناءه حيث تنتظره كل أنواع الجرائم من دعارة إلى تجارة المخدّرات.
في النهاية، ولمن يستعيد الفيلم السابق مباشرة قبل مشاهدة الفيلم الجديد، كما فعل هذا الناقد، فإن الفروق شاسعة والخطّين السياسيين يتعارضان فيهما حتى يصطدما كل ضد الآخر.