رغم أنه لا توجد قصيدة يومية وأخرى غير يومية في نظرية الأجناس الأدبية الا أن الناقد العراقي عبد الجبار داود البصري يجد في كتابه «البلح المر»، الصادر حديثاً في بغداد عن دار الشؤون الثقافية العامة، أن هذا النوع من القصائد وجد ليروي ما هو غير مألوف من الحوادث والمواقف، وليكتب عن جمال ما كان يعد غير جميل ثم صار انحيازاً للحاضر ضد الماضي وللآني ضد ما هو كوني وانتهى في بيان لشعراء سبعينيين عراقيين الى رؤية توفيقية بين الآني والكوني والفردي والجماعي.
ويرى من الناحية التطبيقية أنه منذ العصر الجاهلي حتى اليوم والشعراء يكتبون القصيدة اليومية باستمرار. ففي الشعر الجاهلي شعر لا بأس به يدور عن تجارب فردية عاناها الشاعر لا كعضو في قبيلته بل كفرد له مشاكله الخاصة المستقلة ومثال ذلك بائية الجميح التي تدور حول «خناقة» بين الشاعر وزوجته.
ومن يقرأ شعر الصعاليك يجدهم يعبرون عن الحوادث الجارية أولاً بأول ومثل ذلك عند كثير من شعر المفضليات والأصمعيات، وحين ننتقل الى العصر الأموي ونقرأ شعر عمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة وشعر ذي الرمة ونقائض جرير والفرزدق نجد الموضوع اليومي والتجربة المعايشة هي التي تلهمهم شعرهم.
وقد كان أبو نواس في العصر العباسي منحازاً لعصره وللحياة التي يحياها، ومن يقرأ ديوانه يجد سجلاً لما كان يقوم به في النهار وما يقترفه في الليل وكأنه كان يوثق سيرته.. وما أن يجيء القرن الرابع للهجرة حتى نجد ابن الحجاج وابن سكرة يقودان اتجاهاً في كتابة القصيدة اليومية.
ولم يكن شعراء المهجر الا كتاب قصيدة يومية لم يدعوا تجربة من تجاربهم اليومية ولا مشهداً أو فكرة مرت بهم الا ودونوها حتى كانت بعض قصائدهم صدى لنشرة الأخبار اليومية في أجهزة الاعلام.
ويخصص العقاد ديوانه «عابر سبيل» للقصيدة اليومية نظرية وتطبيقاً، ويسرف أحمد الصافي النجفي في كتابة هذا النوع من الشعر بشكل قصائد ومقطعات حيناً وهواجس حيناً آخر.
ان جميع العصور والأجيال الأدبية عرفت القصيدة اليومية، وقد اختلف دارسو القصيدة اليومية حول شعريتها واتفقوا على جوهرها المشترك، فوردزورث يراه في التكامل بين الحدث المألوف والمظهر الخلاب، وكتاب الواقعية الجديدة يرونه في التكامل بين الرؤية البصرية والشعور، والسبعينيون يعتقدون أنه يكمن في التكامل بين الفردي والجماعي والجزئي والكوني. ان القصيدة اليومية فاكهة موسمية، حسب تعبير الكاتب، وشعريتها ليس في ما تحققه من تكاملات فردية وانما في ما تختزنه من تكاملات عديدة بحيث تجد الأجيال اللاحقة تكاملها المفضل فيها والا أصابها العطب كما يصيب اي فاكهة موسمية طازجة.
ويعرض البصري الى القصيدة المدورة حيث عرف الشاعر العربي القديم البيت المدور ولم يعرف القصيدة المدورة.
ان التدوير ظاهرة عروضية تعني ارتباط الصدر والعجز بلفظة واحدة يقتسمانها بحيث يكون شطرها الأول تتمة للصدر وشطرها الثاني بداية للعجز، وبعد تطور القصيدة العربية وولادة الشعر الحر تعددت فيه صور التدوير من ناحية واختفت صورته الأولى من ناحية أخرى.
أما اختفاء الصورة القديمة فمرده الى أن الشعر الحر تخلى عن مفهوم الشطرين وباختفائهما اختفت الرابطة اللفظية الجائزة بينهما.
أما الصور الجديدة فمنها التدوير بين أكثر من بيت واحد كما هو عند البياتي حيث دور البيت الأول مع الثاني والرابع مع الخامس والسادس مع السابع.
والصورة الثانية هي تدفق البيت واستطالته أكثر من البعد المقرر وكأنه يبحث عن مصبه ليستقر فيه ويطمئن اليه، في حين ان الصورة الثالثة هي القصيدة المدورة الشبيهة بالبند ولعل أدونيس رائدها في قصيدته «هذا هو اسمي».
ويعتبر البصري أن أول محاولة لتقنين ظاهرة التدوير ما ذهبت اليه نازك الملائكة. وخلاصة رأيها ان التدوير ليس ضرورة عروضية فقط ولكنه ذو وظيفة موسيقية تسبغ على البيت غنائية وليونة لأنه يمده ويطيل نغماته وهو لون من الحرية يلتمسه الملتزم بالشطرين للتخفيف من سطوة القسمة الحادة بينهما.
الا أن شعراء الستينات لم يأبهوا بما ذكرته نازك وتلقف أكثر من شاعر منهم ظاهرة القصيدة المدورة وحاول ان يطورها ويخرج بها عن نطاق الشكلية اللفظية وفي مقدمتهم حسب الشيخ جعفر. والقصيدة المدورة تفقد مبررها اذا فقدت هذا التدوير الداخلي في بنائها الداخلي لأن التدوير اللفظي لا قيمة له ولعله يسيء الى موسيقية القصيدة أكثر مما يخدمها.
ويتحدث البصري عن القيمة المهيمنة في القصيدة ويرى أن جاكوبسون حلل العملية الابداعية الى ستة عناصر هي المرسل أو المبدع، والمتلقي او المرسل اليه أو القارئ، والرسالة أو المضمون، والشفرة او لغة النص والسياق او الظروف المحيطة بعملية الابداع او التراسل، وغرض الاتصال.
والتركيز، حسب جاكوبسون، قد يقع على واحد من هذه العناصر فيكون هو العنصر المهيمن. فاذا وقع التركيز على المبدع قيل ان العاطفة هي الصفة المهيمنة، واذا وقع التركيز على شفرات النص كانت اللغة هي الصفة المهيمنة وهكذا بالنسبة لبقية العناصر.
ان السلامة الفكرية والذوق السليم يقتضيان توازن عناصر النص وتكافؤ الشكل والمحتوى وتكاملها ويظل النص مهما قيل فيه متعدد الوجوه ثري الدلالة ومادة لأكثر من منهج نقدي.