حي سيدي الهواري في وهران وأزمة مراكز المدن التاريخية

TT

د. علي الثويني مدينة وهران الواقعة في غرب الجزائر على شواطئ البحر المتوسط، تعتبر من أجمل المدن العربية وهي ثاني اكبر مدينة في الجزائر بعد العاصمة ويبلغ عدد سكانها المليون ونيف من هجين اجتماعي بين البداة والحضر. وقد كنيت بـ«الباهية» دلالا، فهي نفحة من الفردوس شكلت على هيئة ما يشبه ليث رابض على ربوة فاقتبست اسمها منه الذي يعنى بالأمازيغية الأسد. نسمع عن تاريخها القليل بالرغم من أهميته فقد كانت في الماضي القريب فلسطين أخرى بكيناها، ثم حررت لتهبنا الأمل في الاسترداد، وهي من اجمل قصص استرجاع الحق الضائع ولو بعد حين.

هي عربية المولد منذ العام 906 م حيث نشأت كمرسى للصيد ومركز للمبادلة التجارية بين البدو والزراع والصيادين والبحارة الأندلسيين الذين كانوا على صلة مستمرة بهذا الشاطئ القريب منهم. فقد خطت كعادة كل الحواضر الإسلامية من مسجد وأسواق وأرباض على فسحة أرض ممتدة من الشاطئ باتجاه الداخل وبانحدار تدريجي نحو نبع وجدول ماء يمدها والسهل الزراعي المتاخم بحاجتها منه. ولم يبق من بنايات تلك الحقبة شيء سوى مسجد واحد، ويمكن أن يكون حاملا طراز العمارة الأندلسية المغربية الأول. ولقد أطلق على هذه المنطقة في الماضي القريب اسم حي سيدي الهواري الذي اكتسب اسمه من ضريح الصوفي ابن عروس الهواري (1376-1463) الذي يكتنفه، ويؤمه اليوم الفقراء والمجاذيب ويعتبر المركز التاريخي للمدينة، التي يحدها من الغرب جبل ارتفاعه 550م يدعى جبل (المرجاجو) تغطيه غابة صنوبر أما من الشرق فيحدها جرف هضبة كانت قد امتدت أرباض المدينة إليها بعد توسع لاحق. ولم يكن اختيار موقعها صدفة فهي على مرمى حجر من الثغر الروماني ((Portos Magnos الذي عرب حرفيا بعد الفتح الى (المرسى الكبير) ذائع الصيت الذي لم يكن يتمتع بإمكانية التوسع نظرا لشغله شريطا سهليا ضيقا بمحاذاة خليج له، أما ذكر وهران فقد ورد بغير ذي أهمية استثنائية في تواريخ الرحالة والمؤرخين، فقد جاء في وصف الرحالة أبو عبيد البكري في كتابه (المسالك والممالك) في حديثه عن توأمة المراسي بين الأندلس وأفريقيا حين ذكر (ان جبل وهران مربوط مع مرسى اشكوبرش الأندلسي قرب مدينة المرية وهو المرسى القديم الذي نزله أهل بجاية قبل رحيلهم لها وبينهما مجريان ونصف (كمقياس بحري للمسافة). واستمر حالها على منوال رتيب وسكن محدود فكان يكفيها ما يردها من غلال البر والبحر، حتى انقلبت احوالها حين بدأ يتوافد عليها زرافات اللاجئين الأندلسيين الهاربين من ديارهم التي سقطت بيد الأسبان هربا من محاكم التفتيش سيئة الصيت وفشل ثورتهم في جبال البشرات المحيطة بغرناطة واستمر الحال على هذا المنوال حتى عام 1504 حين بدأت مرحلة انتقام هؤلاء اللاجئين لانفسهم بما يسمى في الغرب «حروب القراصنة» التي استمرت ثلاثة قرون كما وصفها كتاب احمد توفيق المدني (حرب الثلاثمائة عام بين الجزائر واسبانيا). أما رد فعل سلطة اسبانيا الجديدة فقد جاء بغزو المرسى الكبير واحتلاله عام 1505، ثم تبعه احتلال وهران عام 1508 بحجة اللحاق بالعرب الهاربين وبهدف التوسع في أفريقيا العربية. وقد اشرف قس إسبانيا الشهير خمينيس صاحب المثالب الدموية على احتلال البلدة وقتل جل سكانها المسلمين وإخلائها منهم والشروع ببناء القلاع على منحدرات جبل المرجاجو وهي باقية حتى يومنا هذا باسم «قلعة السانتا ـ كروس»، الذي تبعه تغيير جوهري في ملامح المدينة الإسلامية استمر لأمد ثلاثة قرون حينما شهدت حروب كر وفر بين الجانبين، وكتب الشعراء خلالها اجمل القصائد الباكية على وهران السليبة حتى حان الخلاص بخروج الأسبان عام 1792، ودخول قوات «الداي» التركي محمد عثمان الكبير لها بعد أن عانت من الإهمال وغضب الزلازل التي ضربتها تكرارا. ثم اعتبرت بعد ذلك (بايلك) تركي حتى سقوطها ثانية بيد الفرنسيين عام 1831 ومن أجمل معالم المدينة خلال حقبة الاسترداد بيوت وقصر الداي وكذلك مسجد جامع يمتاز بباحته المدورة. وقد توسع الفرنسيون بعد العام 1848 بالمدينة باتجاه الهضبة الشرقية تماشيا مع اهتمامهم بالمدن الساحلية.

وظل هذا الوادي يحتفظ بالمدينة القديمة تحت منحدرات الجبل بتخطيط شريطي يمتد متناغما مع سجية التضاريس. ولقد دار عليه الزمن دورته وأهمل ولاسيما بعد الاستقلال عام 1962، ثم كانت الطامة التي تفتقت عنها قريحة والي وهران م. مرازي المتخرج من الإدارات الاستعمارية بان يهدمه عن بكرة أبيه وذلك في بداية عقد الثمانينيات من القرن العشرين متعذرا بحركة التربة وانحدارها من تحته باتجاه البحر، بالرغم من عدم وجود ما يثبت ذلك فأصبح تلا من المهملات والخرائب تحز في النفس مشاهدتها. ثم ادعى اقامة مساكن حديثة بمحل الخرائب أوكل بها لمكتب الدراسات للولاية حيث أعد العمل معماريون من بولونيا يساعدهم لفيف من المعماريين الجزائريين، الذين لم يتخذوا أي خطة تعيد للتاريخ روحه ولهذا الحي الحياة بحيث أقاموا مشروعهم على طراز العمارة العالمية، بعمارات خرسانية باسقة تمتد شريطيا مع خطوط الأرض الكونتورية. ومن دواعي الألم كذلك بأن هذا المشروع لم ير النور بسبب بداية الأزمة الاقتصادية في البلاد، منذ أواسط الثمانينات، بالرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها هذا الإداري لإيواء المقربين إليه في تلك العمارات. وبذلك بقيت المدينة التاريخية أنقاضا لا يجرؤ أحد على ازالتها ويسكن في جحورها وثنايا حيطانها وأطلالها كل من لم يجد له مأوى وهم كثر ولاسيما في خضم أزمة المساكن الخانقة التي تعاني منها الجزائر عموما ووهران على الخصوص اليوم.

ونجد في هذا الحي هجينا من العمائر لا نجده في غيرها وقد يشكل الطراز الأندلسي المغربي أقدمها متجسدا في مسجدها الذي سلم من الهدم وبعض البيوت على طراز الباروك الاسباني ثم مجموعة من المساكن على الطراز التركي ولاسيما قصر الداي الذي يقبع فوق هضبة مقابلة لجرف بحري ويمتاز بمفردات من العمارة التركية والتوسكانية وهجين المعالجات الزخرفية في القاشاني بين الأزنيقي والأندلسي، مما يعتبر باكورة الخصوصية الجزائرية بالمعالجات الزخرفية عن تونس والمغرب. وتعاني هذه الدار اليوم من أسوأ إهمال بعد أن أقيم في نطاقها فندق حديث يرتفع عشرين طابقا وأصبحت حجرات القصر مأوى للعمال ومخزنا لأدواتهم. ومن أكثر معالمها شهرة بناية الادارة المحلية القديم على الطراز الاستعماري الذي يطبع جانبي شارعها الرئيسي. وكانت قد وردت اليها بعض الملامح الإسبانية على الطراز (المضرب) ذات الجذور العربية والتي وفقها بعض من سكنها من الاسبان الذين هربوا من بلدهم بعد الحرب الاهلية عام 1937 وعادوا اليها بعد التغييرات في بلادهم عام 1975. ومنهم السياسي الاشتراكي فيليبي غونزاليس. وسكنها كذلك الأديب الفرنسي البير كامو، وكان قد سكن هذا الحي الأمير عبد القادر الجزائري عام 1828، الذي مازالت داره على الطراز العربي قائمة حتى اليوم وتعاني من الإهمال.

يمكن أن تكون تجربة معاملة المركز التاريخي لمدينة وهران (حي سيدي الهواري) من أكثر التجارب إيلاما بما اتسم من تعنيف امتدت يد الجهل بالتراث خلالها الى محيا مدننا العربية الجميلة، بما يكون حالة شاملة تكررت في جل أقطارها، مما يدعو الى وقفة تحذير توجه الى السلطات الإدارية ومدعاة لوضع آليات وقوانين ضابطة لحفظ ذلك التراث الذي يجب مراعاة حرمته. =