ان شئت ان تعرف كيف تتم صناعة المعارضة السياسية الزائفة، فاذهب الى فيلم «خياط بنما» المأخوذ عن رواية بالاسم ذاته للكاتب البوليسي لوكارييه، ففي ذلك الفيلم الجديد ومع كل المآسي الفردية والجماعية ستضحك الى ان تستلقي على قفاك وذاك هو الضحك الموزون المقفى الذي لا يصادفك كثيرا في افلام الجاسوسية.
لأن الفيلم عن بنما فإن الراوي يخبرك منذ الدقائق الاولى ان جورج بوش هو الذي صنع نورييغا حين كان رئيسا للاستخبارات الاميركية ثم أزاحه حين اصبح رئيسا، والاصح حين لم يعد نورييغا يلتزم بتنفيذ تعليمات الجماعة الذين رقوه ودعموه ليركبوا من خلاله البلد، وينهبوه.
وقصة الجنرال معروفة وهي حكاية مكررة لصناعة الحاكم، اما صناعة المعارضة في الفيلم فتبدأ بكذبة وتنتهي بغزو الجزيرة لان المعارضة الافتراضية المكونة من سكير ومساعدة خياط عجزت عن تسلم الحكم من الحكومة الرسمية التي تود بيع القناة لليابانيين او الصينيين حسب الكذبة التي جرت تلك المشاكل كلها.
واطرف لقطات الفيلم تأتي مع انتحار السكير او الزعيم المفترض للمعارضة الشرسة، فعندها تبدأ الفبركات على كل الجبهات، فالنصابون الذين اقنعوا الاميركيين بوجود معارضة قوية ومستعدة لتسلم الحكم لا يرون تلك النهاية لائقة فيقترحون ان يقال ان الزعيم المعارض مات تحت التعذيب في سجون البوليس، وتسارع اميركا الى المزاودة عليهم، فتعلن رسميا ان فرق الموت الحكومية اعدمت الزعيم المعارض للقضاء على نفوذه المتزايد في أوساط الشعب.
والحقيقة ان الزعيم الافتراضي المنتحر لم يكن له نفوذ حتى في الخمارات، فقد كان يطرد من كل حانة يدخلها، وفي الوقت الذي كانت فيه الاستخبارات المركزية الاميركية تعلن عن عملياته الشجاعة وعمليات مساعدة الخياط التي توصف بأنها جان دارك بنما، كنا نشاهد زعيم المعارضة الذي لا يقوى على معارضة نملة يتطوح بالشوارع، وبيديه عدة زجاجات كحول هي كل عدته في تسلم الحكم.
وغير هذا الخط السياسي الساخر الذي يجيده لوكارييه هناك الخط الانساني في الفيلم، فسبب كل هذه الورطات المتلاحقة خياط «قام بدوره جيفري راش» يوشك على الافلاس وعلى بيع المزرعة التي اشتراها بميراث امرأته، وقبل ان يبلغ حدود اليأس يصل عميل (M16) جهاز الاستخبارات البريطانية، ويدفعه للعمل لحسابه مقابل دفعات متلاحقة من المال تنقذ تجارته ومزرعته، وتوقظ شيطان الطمع في شخصيته المتواضعة.
وتبدأ الرواية من بيت الخياط في بنما، اما الفيلم، فينطلق، مشهده الأول من مبنى الاستخبارات البريطانية بالقرب من محطة فوكسهول على نهر التيمز حيث نشاهد انتداب المخبر النصاب «بيرس بروسنان» الى بنما عقوبة له لانه افسد علاقة وزير الخارجية بعشيقته ثم تنتقل الكاميرا الى بنما وتظل هناك باستثناء مشاهد متفرقة من مبنى وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية، وذلك اثناء متابعة نشاطات السكير المعارض الذي تم تحطيمه نفسيا في السجن والذي دفعت الوكالة خمسة عشر مليونا من الدولارات لايصاله الى حكم بنما ليحافظ على مصالحها من الاعداء الوهميين.
وفكرة المعارضة الصامتة جاءت بالصدفة على لسان الخياط الذي اراد التخلص من المخبر البريطاني ليعود الى حياته الطبيعية، فأخبره ذات يوم انه يريد تركهم لان هناك من سيدفع له عشرة ملايين، ومع وصول مساعد المخبر النصاب الى مبنى الاستخبارات الاميركية طالب بعشرين مليونا ثم رست الصفقة على 15 مليونا نصيب السفير البريطاني في بنما منها مليون وربع المليون، وما ذاك إلا ليريك المخرج والمؤلف ان كل شيء في تلك البلاد للبيع، فالتخلف الكامل يغري الجميع بخراب الضمائر ولا يظل محصنا إلا من رحم ربك، وعدوى الفساد المحلي تنتقل بالضرورة للاجانب، فالمال السايب كما نقول في امثالنا يعلم الحرام.
وعقدة الفيلم الاساسية على الصعيد الانساني ان الخياط من اصحاب السوابق لكنه لم يخبر زوجته انه دخل السجن كي لا يفقدها ومن نقطة الضعف هذه التي ضخمها الافلاس دخل المخبر حياة الخياط ليفسد كل شيء ليس في حياة الخياط وحده انما في حياة البلد الذي جاءه الغزو الاميركي إثر كذبة كبرت، واشتراها الاغبياء سياسيا الذين ظنوا انهم يمولون معارضة حقيقية كما يحصل معهم على جبهات أخرى هذه الايام.
انه فيلم ممتع على اكثر من صعيد فإن لم تضحك مع المعارضة المزيفة وقادتها السكارى وجدت قصة حب انيقة بين رجل بسيط وامرأة قوية وخلفهما ذلك الماضي المريب لرجل لم يجد الشجاعة ليصارح اميرة قلبه ببعض اخطاء صباه، فوضعها مع طفليه منها في مهب الريح والاخطار في مدينة تنخرها قبل الاطماع الخارجية سوسة الفساد الداخلي التي حولت طبقتها الحاكمة الى فئات، متناحرة من اللصوص والمرتشين.