رواية مصرية تعيد مساءلة سؤال الهوية والذات

سمية رمضان في روايتها «أوراق النرجس» تقاوم الموت بالحلم والجنون

TT

نقد جمال القصاص شهادة مرة في المقاومة والتشبث بالحلم والحياة تجسدها «كيمي» بطلة رواية سمية رمضان «أوراق النرجس» الصادرة حديثاً عن دار شرقيات بالقاهرة.

تتناسل خيوط هذه الشهادة في كثافة لغوية وروحية، وتوترات درامية حادة بين عالمي الظاهر والباطن، وصراع البطلة المرير في فك شفرات كينونتها الملتبسة، غريبة الرؤى والأطوار، والمحاصرة دوماً بهواجس الخوف والموت والجنون، وتعري الكاتبة مساحات شائكة من طفولة بطلتها وماضيها، وتنداح عشرات الأسئلة والمشاهد الممضة، شديدة القسوة، عبر عشر سنوات قضتها في الغربة، ما بين انجلترا وايرلندا للدراسة وتحصيل العلم، ثم العودة بعد ذلك الى بيت الأسرة ومحاولة استعادة مفرداته وأشيائه، وكأنها صدى ذكرى بعيدة، خاصة بعد موت الأب، وتغير الكثير من الأحوال.

في هذا المناخ يتشكل فضاء الرواية بصفحاتها المائة والعشرين وبطلتها الوحيدة «كيمي» ومربيتها الرؤم «آمنة» التي تهيئ لها كل شيء: ترتيب الفراش واعداد الطعام والشراب، وتنظيم مكتبها وأوقات فراغها ومذاكرتها، حتى أصبحت تشكل دائماً وعي البطلة الهارب، العفوي الساذج الذي لم يلوثه صراع المتناقضات العقيم، وأسئلة الوجود والعدم بظلالها الكابوسية المرعبة. ومن المفارقات المفجعة في الرواية ان «آمنة» بطيبتها وحنانها البازخ تكاد تلغي صورة الأم هذه الصورة الهامشية في الرواية، وذات الحضور الذهني المجرد والمشغولة دائماً باصدار الأوامر ورعاية الهوية الكلاسيكية للبيت، وفي لحظات انقسام البطلة على ذاتها، واندياحها في متاهة اللاوعي، يحدث نوع من التوحد الروحي مع «آمنة» فهي ترتدي قناعها وتتبادل الأدوار معها، وتوهم نفسها بأنها هي، وحينما تشتط بها هذه المتاهة يخايلها حس الانتقام من «آمنة» وتتوهم أنها لا بد ان تقتلها لكي تتخلص من هذه الازدواجية الروحية المقنَّعة، لكن شجاعتها تخونها، ويظل الأمر محض هاجس عابر.

مخايلة الانتقام اللاوعية من «آمنة» صاحبة الوعي البدائي الفطري تضعنا ـ في تصوري- أمام صورة للصراع ملتبسة متعددة الدلالة، فالانتقام من آمنة، على الرغم من انه يظل محض وهم، وعلى الرغم من حب البطلة الشديد لها إلا انه يشكل عتبة مهمة لفكرة أساسية أرى انها بذرة الصراع الاساسي في نسيج الرواية كلها، هذه الفكرة يمكن ان اسميها «موت الحكاية» يعضد ذلك ان حالة المطاردة المستمرة لهواجس الخوف والجنون والاحساس الدائم بالوحدة والفقد وعدم الأمان، تكسب البطلة مقدرة عفوية على معايشة الموت بل تصبح هذه المعايشة وكأنها قانون خفي تستمد منه وعيها بذاتها وبحقائق الوجود والأشياء حولها، لكن هذه القدرة على معايشة الموت تتعرض في أحيان كثيرة لهزات قاسية، وتصبح مربكة غير قابلة للادراك والاستيعاب خاصة في اللحظات التي تسقط فيها الذات في مغارة اللاوعي، وتتلقى صوراً ناقصة ومبتورة عن طفولتها وماضيها وعلاقتها بالأشياء والعناصر والعالم الذي تعيشه، فتحت سطوة اللاوعي ليس ثمة محددات منطقية لأي شيء، بل الانفلات والنزق والشطح هو القانون السيد والحاكم لكل التعارضات الفجة في ثنائية الروح والجسد، أو الحلم والواقع، وغيرهما من الثنائيات التي تفضحها الرواية، وتعري وحداتها وعلائقها السرية، وتنتهك ما يكمن وراءها من زيف وخداع.. «استجمع كل شجاعتي، وأتقبل هول الخطر، أضع حياتي ذاتها رهناً للموت أو البقاء، لا حامي، ولا صديق اليوم.. عالم فقد كل انحيازاته، وقف يشاهدنا أنا وهي »آمنة/كيمي« نتصارع، وهي قد تكون احداهما أو الأخرى، وقد تتحول تحولاتها المعهودة، لتراوغني فنصبح الاثنين في آن، قاتلة أو مقتولة».

إختلاط الوعي باللاوعي إن البطلة «كيمي» تدرك وهي تصارع هذا الموت، انها لا تروي الحكاية أو تكررها لكي تدوم الحكاية نفسها، وتتجدد في الزمان والمكان، بل تصنعها وترويها لكي تعايش موتها فيها، بل موت الاشياء أيضاً، ويبلغ هذا الانقسام والتمزق ذروتيهما، حين تتأرجح البطلة تارة بين معايشة هذا الموت بمنطق الحكاية نفسها، وحين تتمرد عليه لأنه يفضي الى خطين محددين، فإما الاذعان والاستسلام لهذا المنطق الذي يتحول الى غواية للذات، وبصرف النظر عن مدى صدقه أو كذبه، ففي كل الاحوال لا بد ان تستمع الى الحكاية، وإما ان تتمرد على الحكاية وترفضها وتعلن موتها تحت وطأة شعور حاد برثاثة التكرار ورتابته، واصطناع الحكاية نفسها، ولذلك تدرك البطلة أو الكاتبة نفسها ان الحكاية -أية حكاية- حين تروى تتجرد من شخصانيتها، وتصبح مشاعاً للآخرين.

وعلى المستوى الفني فإن موت الحكاية يعني ـ ضمن ما يعني ـ انتفاء لعبة الصراع بحبكاته الدرامية التقليدية المعروفة، وانه لم يعد صراع السطح الذي يمكن أن نتوقعه، أو نتدبر مراميه ومظاهره، لذلك، وفي فصل بعنوان «الحكايا» تقول: «الحكايا لا تروى مرتين، حتى الكابوسي منها، لكن الاشياء التي نفقدها روحها نصفها، ولا نرويها، تكرر نفسها وتضمن الاطمئنان التام، كل مرة هناك في المتحف».

لكن وسط هذا المزيج المرعب لا تصدق «كيمي» حكايتها، وتتوهم انها تمحوها حين تكتبها أو ترويها، أو تخلع عليها نوعاً من الاطمئنان الزائف، وهي تضعها فوق رف التاريخ، أو تدسها في طوايا ذاكرة انطمست فيها الألوان والصور والرؤى، ذاكرة اختلط فيها وعي الذات بلا وعيها، وتحت وطأة صراع مميت، معلق دائماً بين ارادتي الجبر والاختيار، لذلك يطاردها احساس دائم بأنها أسيء فهمها، وافترى عليها.. فمنذ طفولتها صوروا لها العالم على انه شيء واضح سهل، غير مستعص على الفهم، وان المسافة بين الحياة والموت، هي المسافة نفسها بين الحلم والجنون، بين الحكاية وموت البطل، وان جوهر الحقيقة يكمن في المحافظة علي درجة ثابتة من الوقاية والاتزان، حتى يمكن العيش وسط هذا المزيج المرعب، الذي يسمونه الوجود والحياة.

لذلك يتماثل دائماً منطق الحكاية مع منطق لحظة ما قبل الاستسلام، ويصبحان في أحيان كثيرة وجهين لعملة واحدة.. تجسم هذه اللحظة بكل ثقلها ومرارتها على معظم التوترات الدرامية في الرواية، وتطالعنا بقوة منذ الصفحات الأولى، فلحظة التقاط البطلة لقرص الدواء تتحول الى لحظة كابوسية، ومؤامرة للتخلص منها بقوانين الحكاية نفسها، بل انها تصور هذه اللحظة وكأنها نوع من التماثل الحي مع لحظات ما قبل الاستسلام ومثلما يحدث لمن يساقون الى حبل المشنقة، لكنها تتمرد على هذا التماثل بمراودة الخوف، ففي فصل بعنوان «الخوف» تخلص «كيمي» الى حقيقة مرة لهذا التماثل «اذا امتثلت للعقاب تموتين، واذا لم تمتثلي يموت أحباؤك، في النهاية أمتثل، أنفض عن نفسي تراكمات الصور، ولا تبقى مني سوى القشرة ما قبل الأخيرة».

وفي فضاء التماثل مع لحظة ما قبل الاستسلام، أو بمعنى آخر ما قبل «موت الحكاية» يتبدى نوع من الانفصام الحاذق، المدمر، فـ«كيمي» تملك حق الاختيار ولا تملكه في الوقت نفسه، فهو حق معلق ومعطل على المستويين المادي والروحي، حيث لم تتح لها الفرصة لكي تمارسه، وتعيشه من داخله، أو تستجلي ذاتها في مرآته، ومحاولة صيانتها من المحبة الفاسدة التي تستشعرها في نظرات الآخرين إليها، لكن كيف يتأتى لها ذلك وكل ما تملكه هو الدوران في هذا الفلك، بوعي تستوي فيه لحظات الاستيلاب والتيقظ، وعي الأسرة المهمومة بالمحافظة على هويتها وإرثها التقليدي الراسخ، والتي تحوطها بحنان بازخ مالح، مفرط في الرعاية الى حد التكلس.. «لم أتدرب، لم يعلمني أحد، لم يطلب مني مثل هذا من قبل في أي امتحان، لم أمتحن من الأصل، رخصة القيادة جاءوا بها اليّ حتى البيت، بطاقتي الشخصية وجواز السفر، كان كل المطلوب تحت كل الظروف هو الحرص الدائم على حساب النفس دون أن تكون هناك مادة كافية للحساب، ماذا يفعل العقل تحت هذه الظروف، يأكل نفسه، يتغذى على خلاياه الحية، يستعيد فرص الحساب المتاحة، يعد الأنفاس، ويسمح للوحش أن يتنامى في داخله».

وفي محاولة لتلمس ولو نوع من التصالح الزائف بين المتناقضات توهم «كيمي» نفسها بأنها قد تهيأت للتصالح مع الموت، وان هذا أملها الوحيد في الاتيان بالمعنى، لكن هذا الوهم يظل مجرد امكانية مضطربة ومذبذبة، لانها مقرونة دائماً بالخوف من فقدان المعنى ذاته.

في الطفولة تتحول الحكاية الى مرآة خادعة ورواغة، وحين تحاول أن تطل منها «كيمي» على ذاتها تواجه بحزمة من الأوامر والنواهي.. «ماتغنيش في الحمام ـ ماتبصيش لوشك كتير في المراية ـ نط الحبل في البيت يجلب النحس».. وحين حكوا لها حكاية الملك الاطلسي الذي رأته فتاة تنكرت في زي رجل، بعدما فشل الاطباء في علاجه من الداء العضال، حولوا هذه الحكاية الطيبة الى قناع للشر والخرافة، فالملك سوف يفاجئ الفتاة في بيتها بشكل غير تقليدي، سوف يخرج لها من بالوعة الحمام، وسوف تجهز عليه أختاها الكبريان بشظايا الزجاج المدقوق، بعدما يحشوانه في البالوعة، ويتحول جسد الملك الى كتلة من الدم، لكننا لا نعرف ماذا حدث بعد ذلك للملك، ولا للفتاة وأختيها، لقد أماتوا الحكاية عند هذا الحد لتظل رمزاً على الخوف والرعب.

خرائط المنفى في الغربة ما بين لندن ودبلن تتحول الحكاية الى مرآة متداخلة الزوايا وتنداح في ظلالها مئات الصور المطموسة الملامح ويطل الوطن من ثقوب خرائط المنفى كأمثولة مجردة، ربما في شكل صورة معلقة على الحائط، أو ذكرى عابرة، أو بطاقة بريدية لا تخلف سوى الألم والأسى، فالوطن لم يعد شيئاً معاشاً بل أصبح مجرد حزمة من حنين وحكايا تتبدل حسب الحاجة وطاقة الروح والجسد.

ووسط مناخات الثقافة الغربية من جويس الى ييتس الى اوسكار وايلد، وبيكيت، ونظم التعليم المختلفة تصطدم «كيمي» بسؤال الهوية وتعيد مساءلته بروح جديدة، بل تزود عنه ضد كل خرافات وافتراءات الغرب، فترفض بشدة صورة مصر المزيفة في إحدى محاضرات عالم متخصص في التاريخ.. ان سؤال الهوية لم يعد هو: أين أنا، وإنما أصبح: من أنا وكيف أسير، في قلب هذا الركام من الأقنعة والشراك، وتزييف التاريخ والرؤى والأفكار.. في تلك اللحظة فقط لا تعيش البطلة «موت الحكاية» بل تستنهضها، وتلملم شظاياها، وتعلو بها فوق عتامة الواقع والاحباطات المستمرة التي تواجهها على المستوى العاطفي والنفسي والمادي، لأنها تدرك انه لا فواصل بين وعي الهوية، ووعي الذات فكلاهما يصطرعان من أجل حرية واحدة، وبدونهما لن تصل الى شهوة ارادتها العميقة للحياة.

يتأكد هذا المعنى على نحو مفارق حين تسترجع البطلة تجربة دخولها إحدى المصحات العقلية والنفسية في ايرلندا لثلاثة أيام، ففي هذه التجربة تطفو كل مفردات حياتها على السطح، وتتفتح الذات على فراغ موحش في الداخل والخارج وتبلغ التناقضات ذروتها حين يصبح النسيان هو الضمانة الوحيدة على حضور الكينونة، لكنها تحول هذا المزيج المرعب الى شكل من اشكال الخلاص، والبحث عن زمن آخر، خالٍ من العقد والتشوهات، زمن لا يتم سرده أو تأمله أو القبض عليه في تراتب ما، وانما يظل هكذا حزمة من الخواطر والرؤى الشاردة تسبح في عباءة الطفولة والحلم، زمن ـ وكما تقول الكاتبة ـ يشبه الثقب المعتم الذي يضيء سحابات وعينا اللاارادي، زمن لا يستنسخ الحكاية، وإنما يبدؤها من نقطة أخرى بدم ولحم جديدين.

لقد قدمت سمية رمضان في روايتها الأولى هذه تكنيكاً روائياً يستحق أن يدرس بعناية فائقة، لعل من أبرز سماته الفنية ـ في رأيي ـ هذا التواشج بين فضاء الرواية على مستوى المضمون والرؤية، وفضائها على مستوى التكنيك والمعمار، معتمدة على بنية الافكار والخواطر والتأملات الشاردة في التحرر من منطق الزمنية في إطارها الواقعي المباشر، وعلى وحدة المشاهد المنفصلة/المتصلة لخلق مسافة أرحب من الحيوية لحوار الذات مع موضوعها ومع العالم والاشياء، وخلخلة المكان ككتلة ومساحة مؤطرة. ويتم ذلك في إهاب لغة مكثفة مفعمة بروح الشعر، تجنح الى الاستبطان والتأمل الفلسفي لتعميق طبقات الرؤية والمعنى التي يجسدها صراع بطلتها في الرواية، وفي الوقت نفسه، خلق مجال أعمق، يتقاطع فيه إغواء النهاية مع إغواء البداية في ثنائية المحو وإعادة الكتابة من جديد.

=