قلعة «مكونة» في المغرب بناها العرب وأستخدمها الأمازيغ ونهبها تجار السياحة

مهددة بالاندثار بعد خمسة قرون وقد تنقذها خبرة الصينيين

TT

تواجه القلعة التاريخية في وادي مكونة بجبال الأطلس الكبير خطر الزوال والاندثار، أمام أعين أهلها الذين ساهموا في تخريبها. أما السلطات المسؤولة فهي تكتفي بالمراقبة، وتحاول جاهدة تفادي أي خطر يهدد السكان، من دون أن تبذل أي محاولة لصيانة أثر ظل صامدا على امتداد خمسة قرون. محمد الراوي من مكتب الرباط زار القلعة التي ارتبط اسمها بالورود وبأشهر معتقل سري في المغرب في العقدين الأخيرين وخرج بهذا التحقيق.

يطلق اسم قلعة مكونة اليوم على مدينة جبلية صغيرة، وضعت أحجارها الأولى في العقد الثالث من القرن العشرين. ونشأت، مثل كثير من المدن الناشئة في الظل، كما شاءت لها الظروف والصدف، فجاءت لا هي على النمط المحلي ولا هي على النمط الوطني ولا هي على النمط الغربي.

ورغم هذه التسمية الرسمية، فإن سكان المنطقة، من أمازيغ وادي مكونة، ما زالوا يعتبرون هذا الموقع مجرد «تاسوقت» (السويقة)، ويطلق عليه بعضهم «السانتر» (المركز)، الذي يأوي اليه اليوم الوافدون من مختلف المناطق المغربية أكثر مما يأوي اليه أبناء البلدة. ولا غرابة أن يسمع الزائر أحد السكان وهو يغادر هذا المركز متوجها إلى القلعة. ذلك أن قلعة مكونة التاريخية، التي يختصرها السكان المكونيون في كلمة القلعة، هي اليوم مدشر بين المداشر المترامية على الضفة اليمنى للوادي.

* جزء من التاريخ

* تعايش العرب والأمازيغيين في بلاد المغرب، أعطى مزيجا من العنصرين، ليس في سكان المنطقة فقط، ولكن أيضا في مواقعها. فهناك مواقع تشترك في تسميتها العربية والأمازيغية، مثل «عين أسردون» (عين البغلة)، و«فم زكيط» (فم الثعبان)، وتدخل في هذا السياق قلعة مكونة. فهي تتكون من كلمة قلعة العربية المعروفة، مضافة إليها كلمة «مكونة»، نسبة لوادي «مكون»، وهي كلمة أمازيغية تعني (الجنين الراقد في بطن أمه).

تقع هذه القلعة في منطقة أمازيغية، فمن أين استمدت النصف العربي من تسميتها؟

تشير الدراسات التاريخية الى أن نشأة قلعة مكونة تعود إلى القرن الخامس عشر، على يد تجار شاميين اتخذوها محطة آمنة في طريق القوافل التي كانوا يقودونها إلى «تامبوكتو» (مالي)، حيث يبادلون السلع الأسيوية بنظيرتها الافريقية. وتفيد هذه المصادر أن أولئك التجار لم يخلفوا وراءهم كلمة قلعة فقط، وإنما خلفوا كذلك «الورد البلدي» الذي لا يزرع في أي موقع آخر في المغرب غير وادي مكونة وجاره وادي دادس. وهذا الورد بدوره يحتفظ بتسميته العربية، إذ ليست هناك كلمة في الأمازيغية تعني الورد. وقد أكدت أبحاث زراعية أن خصائص هذا «الورد البلدي» تختلف عن كل الورود المغروسة في المغرب، فيما تتشابه كثيرا مع ورود سورية وتركيا.

* نهاية قلعة

* على امتداد خمسة قرون، ظلت قلعة مكونة شامخة فوق تلة على ضفة وادي مكونة، أحد أكبر أودية السفح الجنوبي لجبال الأطلس الكبير. كما ظلت عاصمة لمنطقة شاسعة من المداشر الجبلية. يقطنها «أمغار» (شيخ القبيلة) وأقاربه، في زمن كانت مشيخة القبائل وراثية. وحتى مطلع القرن العشرين كانت الدور المعدودة المقامة في هذه القلعة محصورة على أسرة آيت الحاج التي تتوارث منصب «أمغار»، وقريبتها أسرة الحسيني. فيما كانت المساحات الخضراء المحيطة بساتين لمختلف الزراعات تفصل ما بينها سياجات «الورد البلدي» لتحديد نصيب كل واحد من أفرد الأسرتين.

ومع وصول سلطات الحماية الفرنسية إلى هذه المنطقة أواسط العشرينات، سعت إلى إقامة المركز القروي في قلعة مكونة، أو في البساتين المحيطة بها. وكانت مستعدة لانجاز قنطرة طويلة تربط القلعة بالطريق الرئيسية التي كانت تشقها في الضفة الأخرى. لكن «أمغار» استعمل سلطته المعنوية لابعاد «النصارى» عن قلعته، مما دفعهم إلى إقامة مشروعهم في مكان خلاء، يبعد حوالي كيلومترين عن القلعة التاريخية، وأطلقوا عليه التسمية الشائعة في المنطقة: قلعة مكونة.

ومع اتساع التجمع القروي الذي أحدثته سلطات الحماية في الموقع الخلاء، والذي تحول اليوم إلى مدينة صغيرة، بدأت الدوائر تدور على القلعة التاريخية. فقد اختار الجيل الجديد من أفراد الأسرتين أن يسكنوا مستقلين في دور بنوها وسط البساتين، بمن فيهم «أمغار» هذا الجيل الجديد. فلم يصل العقد السادس من القرن العشرين حتى كانت القلعة التاريخية قد خلت من سكانها. لكن الدور المقامة بها ظلت قائمة تشهد على عهد مضى.

ومع توالي الأعوام، وانعدام الصيانة، بدأت تلك الدور تتآكل، فيما تضاعف سكان المدشر بوافدين جدد أتوا من جهات مختلفة. وفي غفلة من الزمان، تعرضت القلعة لنوع من النهب الممنهج، على يد بعض من أهاليها. فتم قلع دفات الأبواب بأقفالها التقليدية، كما تم قلع اطارات (براويز) النوافذ، وسواها مما يمكن أن يثير اهتمام السياح الذين يتدفقون على المنطقة. وقد ساهم هذا النهب في تردي أحوال القلعة التي باتت مهددة بالزوال.

وساهمت عوامل التعرية الطبيعية في إحداث تشققات بارزة في التلة التي تقوم عليها أطلال القلعة. وأسفر ذلك قبل عامين عن سقوط قطعة تزن بضعة أطنان، أدت إلى هدم نصف إحدى الدور المبنية حديثا أسفل التلة. وهذا هو التهديد الذي بات يقض مضاجع السكان، على اعتبار أن تكرار هذه الحالة أصبح أمرا واردا، يهدد سكان مجموعة من المنازل المجاورة للتلة.

وقد صارت دراسة هذا الموضوع من المستعجلات الملحة، تفاديا لما لا تحمد عقباه. وتركزت الدراسات المنجزة في هذا الموضوع حول إمكانية التخلص من بعض أجزاء تلك التلة دون إحداث أضرار. لكن كيف ذلك؟ فوجود التلة وسط مدشر آهل بالسكان يجعل من الخطر الاعتماد على تفجير جزئها المشقوق. كما تبينت استحالة دعمها بصوار متينة لأن هذا الحل لا يمكن أن يكون إلا مؤقتا.

ويجري التفكير حاليا في الاستعانة بالخبرة الصينية القائمة على رش الأجزاء المهددة بمادة كيماوية لتفتيتها أجزاء صغيرة تتساقط بالتدريج، ولعلها الطريقة الأمثل التي يمكن أن تحمي المنازل المهددة. إن التركيز اليوم منصب على حماية بعض المنازل الحديثة التي أقيمت بمحاذاة التلة المشقوقة. وكأن الجميع متفق على التسليم بأمر واقع مفاده أن القلعة التاريخية مصيرها الزوال، فليس هناك أية محاولة لإنقاذها بأي شكل من الأشكال. وإذا سارت الأمور على ما هي عليه بضعة أعوام أخرى، فإن التلة ستعود عارية كما كانت قبل خمسة قرون.