«عود الريح».. الفيلم المغربي يدعو للتأمل في حياة أبطاله

TT

«عود الريح»، جديد المخرج المغربي داوود ولاد سيد ليس من النوع الذي يكثر انتاجه في العالم العربي. هذا العالم ايضا يريد الأفلام السريعة وذات الإيقاع المشوّق ويبتعد عن تلك التي تتطلب التركيز طويلا والمتابعة الذهنية المتمهلة والصور غير المتلاحقة بصرف النظر عن جمالياتها.. او هكذا يُقال.

لكن كل ذلك لا يثني داوود في رابع أفلامه الروائية عن تقديم الخامة ذاتها التي يتألف منها، على نحو او آخر، نسيج أعمال مخرجين كبار بينهم اليوناني ثيو انجيلوبولوس والايطالي مايكل أنجلو أنطونيوني. «عود الريح»، اذا ما نظرت اليه ممعنا في الأسلوب الذي اختاره المخرج داوود ولاد سيد لتقديمه يبهر من حيث أنه فيلم يستدعي الإنصراف كليا الى جوّه وإيقاعه. هذا الإنصراف هو الشرط الوحيد الذي يضعه الفيلم أمام مشاهديه ولأسباب مبررة.

انه فيلم طريق ما يُسمى بـ Road Movie مع شخصيتين أساسيتين. هناك العجوز طاهر (محمد مجد) والشاب إدريس (فوزي بنسعيدي). لا يعرفان بعضهما البعض لكنهما يلتقيان في حافلة عامة تشق طريقها وسط الطرق الريفية البعيدة عن العاصمة. طاهر، كما نتعرّف عليه في البداية، يعيش مع ابنه وزوجة ابنه ويقرر مغادرة بيتهما صبيحة أحد الأيام اذ لم يعد قادرا على تحمّل شعوره بأنه غير مرغوب. يترك قرية «صالة» الصغيرة قاصدا قرية أزمور حيث دفنت زوجته قبل سنوات بعيدة. إدريس يترك علاجه في المستشفى ويقصد نواحي العاصمة بعدما سمع أن أمه تموت وهي تريد رؤية اولادها قبل وفاتها. الحافلة تتعطل. يخرج منها ادريس ويقف على قارعة الطريق. طاهر يخرج منها ويبدأ المشي. يقنعه الشاب بأن الطريق طويل ومن الأفضل أن يقوما بها معا. هذه بداية صداقة وطيدة.

لاحقا يلجأ ادريس الى صديق له ويستعير دراجة نارية تتسع لراكبين (واحدة من تلك التي كانت منتشرة في اوروبا حيث هناك «مجلس» خاص لجانب السائق يتكوّم فيه الجالس كما لو كان متاعا). وهذه الدراجة هي ما يقصده الفيلم بعنوانه. الى جانب أن هناك مشهدا لاحقا نرى فيه ادريس يجلس الى الشاطئ في لحظات تأمل، بينما في الأفق وقريبا من الماء حصان أسود ما يجعل التفسير أكثر الحاحا. ادريس في تلك اللحظة هو مثل ذلك الحصان الأسود. يبدو كما لو كان روحا وثابة، طاقة كبيرة ورغبات وقادة، لكنها جميعا في جسد غير قادر على الإفلات حرا. ذلك الحصان ملجوم بحبل ومدرّب تماما كحال ادريس الملجوم بظروف تقيّده.

مثل كل فيلم طريق تتيح المفارقات القليلة التي يحتويها «عود الريح» لنمو الصداقة بين القائمين بالرحلة. الطاهر المتذمر والصامت غالبا يجد في ادريس ابنا ليس غريبا عنه. ادريس يجد في الطاهر ذلك الأب الذي حرم منه. حين يصل الطاهر الى مقصده ويجلس في المقبرة تقطع الكاميرا ذلك الحنان الذي يبديه تجاه ذكرى زوجته بلقطات لجدران ذات نوافذ مغلقة. جدران طويلة ملونة وباهتة كما لو أن داوود يرسم بالفرشاة العالم الذي بات طاهر يعيش فيه.

ادريس يصل الى مبتغاه لاحقا. يكتشف أن أمه لم تكتب تلك الرسالة، وأنها في الواقع، وكما يراها حين يلتقي بها، فقدت الذاكرة ولا تستطيع التعرّف عليه. هذه ليست نتاجات حزينة مجزأة او مفاجئة، فنبرة الفيلم كلها حزينة وهي مفترض بها أن تكون كأي بحث يقوم به الواحد منا في اعماق ذاته. في غضون ذلك، ما يبحث عنه الفيلم هو مشاهد يتعرّف ويلتقي مع مضمونه. داوود ليس في وارد تحقيق فيلم للتسلية وما يكشفه «عود الريح» هو أنه لا يكترث اساسا لذلك.

مثل فيلمه السابق «وداعا ايها المهرجون»، لدى المخرج القدرة على إثارة الاهتمام بشخصياته وعالمها الواقع في هامش أرضي بعيد. صوره الجمالية مناسبة لكن «عود الريح» هو أكثر نجاحا في توحيد بحث المخرج عن لغته المطلوبة. في ذات الوقت لا يزال يبدو كما لو كان حبيس اختيارات محدودة تبعا لسيناريوهات بحاجة الى مزيد من الحدة والأحداث. في 86 دقيقة روى داوود كل ما يمكن أن يرويه من مفارقات في قصة تحتاج الى حبكات وعقد أعلى من تلك الواردة فيه. الى خط ثان لكل شخصية من شخصيتيه تظهر أن ما تقوم به على الشاشة ليس فقط نتاج رغبة قد تلتقي او لا تلتقي معها في سعيها، بل ايضا نتاج طبيعة ذاتية لا يمكن أن تعيش حياة أخرى غير تلك التي تحياها.

م. ر