الحضور العربي في الأرجنتين منذ القرن التاسع عشر

حقق المهاجرون العرب نجاحا اقتصاديا وذاب قسم كبير منهم اجتماعيا

TT

لعل ما يميز كتاب «العرب في الارجنتين، النشوء والتطور» الصادر عن «مركز دراسات الوحدة العربية» للباحث المغربي الدكتور عبد الواحد إكمير، تزويده بملاحق ثلاثة تضم حوارات ميدانية تنقل تجربة بعض العامة والنخبة المثقفة والسياسيين العسكريين العرب في الارجنتين، اضافة الى جداول ووثائق واستمارات واستجوابات تتناول المراحل التي مر بها الحضور العربي في هذه البقعة من اميركا اللاتينية التي امّها المهاجرون العرب منذ سبعينيات القرن التاسع عشر.

ويعدد إكمير الاسباب التي كانت وراء نشوء الهجرة العربية الى العالم الجديد ابتداء من العامل الاقتصادي واعلان الدولة العثمانية عن افلاسها في العام 1878، مروراً بهجرة الموارنة العرب نتيجة الصراع الطائفي الذي كانت تؤججه الحكومة العثمانية، وصولاً الى معاناة المثقفين ذوي التطلعات السياسية والاصلاحية من استبداد السلطان عبد الحميد والتي جعلتهم يغادرون الى مصر، من ثم الى فرنسا فالبلدان الاميركية.

ولم تأخذ الهجرة العربية الى الارجنتين ـ يضيف الباحث ـ ابعاداً عددية هامة الا منذ مطلع القرن العشرين وتحديداً بين عامي 1900 و1930 ليصبح التزايد العددي بعد ذلك ناجماً عن الولادات التي سمحت بظهور جيل من المتحدرين الذين يشكلون في الوقت الحاضر السواد الأعظم من عرب الارجنتين.

وبخلاف الهجرة الاوروبية التي اشرفت عليها الوكالات التي وضعتها الحكومة الارجنتينية في أهم الموانىء الاوروبية يعتبر الكاتب ان الهجرة العربية تمت بشكل تلقائي وكان محركها الاساسي رسائل المهاجرين الى الاصدقاء والاقارب ودعاية سماسرة شركات الملاحة التي اجتذبت اشخاصاً يسعون الى الاعتناء السريع ما دفعهم الى ممارسة التجارة المتجولة وليس النشاط الفلاحي الذي كانت الحكومة الارجنتينية ترغب في توجيه حديثي العهد بالهجرة اليه.

من هنا، يؤكد إكمير ان الحضور الاقتصادي العربي في الارجنتين عرف تطوراً لولبياً بدأ بالتجارة المتجولة فتجارة التقسيط ثم الجملة منذ الحرب العالمية الاولى، وبعد ذلك الصناعة الخفيفة فالصناعة الثقيلة عقب الحرب العالمية الثانية، التي برز فيها المتحدرون من اصل عربي حيث اهَّلهم تكوينهم الجامعي لادراك عمق التحولات الاقتصادية التي كانت تعرفها البلاد.

ويعزي الباحث النجاح الاقتصادي الذي حققه العرب في الارجنتين الى السياسة الاقتصادية التي سنتها الحكومة الارجنتينية بعد الازمة الاقتصادية العالمية من خلال وضع عراقيل في وجه دخول النسيج المستورد وكذلك بعد الحرب العالمية الثانية عن طريق حماية وتشجيع الصناعة الوطنية الناشئة.

غير ان الاندماج الاجتماعي للعرب في الارجنتين لم يتحقق، كما يقول الكاتب، بسهولة كونهم عانوا في البداية من حالة تهميش كانت هي المسؤولة عن تكتلهم في احياء خاصة. ولم يعرف الحضور العربي في المجتمع الارجنتين تطوراً وديناميكية الا مع الجيل الثاني حيث أمكن الحديث عن الاندماج، ومع الجيل الثالث الذي شهد انصهاراً وذوباناً اصبحت معهما الهوية العربية مهددة بالاندثار، بحسب إكمير.

وعن الصحافة العربية في الارجنتين، يوضح الباحث أن اولى الصحف التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لم تؤسسها النخبة المثقفة واستمدت استمراريتها من تأجيجها للصراع الطائفي بين المهاجرين في حين ان الصحف التي ظهرت في ما بعد اشرفت عليها النخبة المثقفة الملتزمة وكانت في الكثير من الحالات تمثل الجالية امام السلطات الارجنتينية كما قامت مقام القنصليات في وقت لم يكن يوجد في الارجنتين تمثيل دبلوماسي عربي.

اما بالنسبة لانتشار التيار القومي العربي في الارجنتين، منذ بداية القرن العشرين، فيعزيه الكاتب الى الوضع السياسي والاحداث التي كان يعرضها الوطن والتنسيق الوثيق بين القوميين العرب في الارجنتين ونظرائهم في بقية بلدان المهجر لاسيما باريس والقاهرة فضلاً عن التأثر بالوسط الذي هاجروا اليه ان على مستوى الافكار القومية التي تستمد مشروعيتها من مبادىء المحرر سان مارتين او على الممارسة الديمقراطية التي تعرفها الارجنتين والتي سمحت لهم بنشر دعوتهم بين مواطنيهم بكل حرية.

وفي ما يتعلق بدرجة تأثر عرب الارجنتين بالصراع العربي الاسرائيلي فهي تختلف، برأي إكمير بحسب الاجيال اذ وصلت مع الجيل الاول الى حد ايقاف التعاون الاقتصادي وانسحاب اليهود السوريين واللبنانيين من مؤسسات الجالية التي ساهموا في تأسيسها في الماضي بينما يتصف الوضع بنوع من المرونة مع المتحدرين كون الصراع في الشرق الاوسط لا يمس بالمصالح الاقتصادية والسياسية المشتركة.

وعلى صعيد المشاركة في الحياة السياسية، يرى الباحث ان التسهيلات التي يقدمها الدستور الارجنتيني لعبت دوراً في تولي المهاجرين العرب مناصب سياسية بدأت ببعض المجالس القروية في بعض المناطق النائية لتصل الى مناصب سياسية هامة مع المتحدرين من اصل عربي ومنها وصول كارلوس منعم الى الحكم حيث يعتقد الكاتب ان تجربته لاقامة صناعة وطنية ثقيلة كان بامكانها لو كتبت لها الاستمرارية ان تساهم في جعل الارجنتين نمراً اقتصادياً شبيهاً بنمور جنوب شرقي آسيا.

اما غياب العرب عن المؤسسة العسكرية قبل العهد البيروني فيعود، بحسب إكمير، الى القيود التي كان يضعها العسكريون والارستقراطية التقليدية المتحالفة معهم في وجه دخول الاجانب للأكاديميات العسكرية.

* العرب في الارجنتين

* المؤلف: د. عبد الواحد إكمير

* الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية