انهيار الأغنية اللبنانية .. شركات الانتاج تراهن على تسطيح أذواق الجمهور والموسيقى لقيطة

TT

قيل الكثير في مرحلة «الانحطاط» الفنية التي تمر بها الاغنية العربية عموماً ولا سيما الاغنية اللبنانية، وتبارى الصحافيون في نقد فنان اقحم عبارات خاوية من اي مضمون في اغنية «نشاز» او فنانة راهنت على قدّها المتناسق وتمايلها المبتذل لتشبع عند الجمهور رغبة بعيدة عن اصول الغناء ومقاماته. لكننا اجمعنا ان هذه الفترة لا تعدو سحابة صيف وتمر، وان الاغنيات التي تبدأ بالغرام الممجوج وتنتهي بالسلام عليكم لن تدوم اكثر من اسابيع او شهور على ابعد تقدير وسرعان ما سيسقطها الجمهور من ذاكرته.

لكننا كنا مخطئين، فبالامس اطل «قمر» احدى شركات الانتاج في اسطوانة جديدة، هذا «القمر» هو احدى عارضات الازياء المنتقلات الى عالم الغناء او بتعبير ادق الى عالم «الفنون الشاملة» التي تبدأ بعرض مفاتن الجسد وهزّ الخصور وتنتهي بالغناء. وغداً سوف تطل مذيعة معروفة على الجمهور من خلال البوم قد يحقق رقماً قياسياً ويكرسها المغنية اللبنانية الاولى بينما يقصى آخرون تشبثوا بأنواع غنائية راقية ارادوا من خلالها رأب الصدع الذي يعمق يوماً بعد يوم.

ما هو موقع الاغنية اللبنانية الراقية في ظلّ ما يحصل حالياً على الساحة الفنية؟ وهل تحول الغناء الى فن بصري؟ وما هي الاسباب التي تحول دون وصول اصوات عديدة مشهود لها بالتميز الى الجمهور؟

وهل صحيح ان الحلف المعقود بين وسائل الاعلام وشركات الانتاج يراهن على تسطيح اذواق الجمهور لتصبح الاغنية عبارة عن وجبة سريعة يلتهمها المتلقي على عجل؟

وتجد الفنانة هبة القواص «ان وجود الاغاني الاستهلاكية ليس حديث العهد غير ان الفرق يكمن حالياً في حالة الاغتصاب اليومية التي تفرضها الوسائل الاعلامية علينا من جرّاء تكرار هذا النوع من الاغاني» مؤكدة «ان البعض يقوم بمحاولات جادة على مستوى الكتابة والتوزيع الاوركسترالي والكلمة في الاغنية من خلال بعض الانواع واعتماد على تحديث حتى في الانواع الكلاسيكية باعتماد نصوص شعرية نثرية وموزونة فضلاً عن الصوفية. ولا ضير في ان يرفق هذا الامر بالاخراج لكن يبقى على الصوت والموسيقى ان يظلا طاغيين وتصبح الغلبة للصورة المسيطرة على العمل».

عوامل عديدة تشرح عدم رواج الاغنية اللبنانية الراقية الموجودة مع اسماء لاحقة منها فيروز وماجدة الرومي وجوليا وغيرهن، وهذه العوامل تبدأ بموجة التقليد المسيطرة على اعمال الفنانين اللبنانيين، فضلاً عن اختلاف المعايير في الغناء وظهور لاعب رئيسي متمثل بمافيات الانتاج. هذه الامور مجتمعة تضاف اليها مسألة العولمة والترويج لنموذج موحد قد تساعدنا في فهم هذه الفوضى، غير انها تذكرنا باستمرار بما قاله ابن خلدون عن الغناء الذي ينهار عندما يصاب المجتمع بالتدهور والتخلف.

يبدأ الحديث عن الاغنية اللنبانية «الراقية» انطلاقاً من أزمة الانتاج وما يرافقها من ترجيح لفنانين على حساب آخرين كذلك اعطاء الغلبة للمظهر الخارجي على حساب الصوت واللحن والكلمة.

ففي الحين الذي تعلو فيه اصوات تدعي ان سرعة الحياة اليومية التي يفرضها هذا العصر لا تتناسب والوان غنائية تراثية، يطلعنا تاريخ الموسيقى على العديد من الاعمال اللبنانية العائدة الى القرن الماضي والحافلة بهذا الايقاع السريع، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر اغنية «يا جبل صنين في العلالي» التي ادتها السيدة فيروز مما يعكس ان هذه السرعة لا تعني رداءة في الموسيقى وان البحث عن اللحن والكلمة هو تأسيس لتاريخ حضاري يضفي هوية موسيقية مميزة.

في هذا الصدد يحمّل الفنان الياس الرحباني المسؤولية لبعض الشركات الانتاجية العربية التي تنفق اموالاً طائلة على اعمال رديئة لا تؤمن هذا المردود. «هناك عملية تخريب ذوق الاجيال العربية ومحو للتراث تتحول من خلالها الموسيقى اللبنانية الى موسيقى لقيطة». مؤكداً «ان هناك شكوكاً تدور حول هذه الشركات الانتاجية، مستغرباً في الوقت عينه هذا الكم الهائل من الملحنين في بلد كلبنان مستشهداً بمصر التي تضم 70 مليون نسمة ولا تحمل هذا العدد الكثيف».

فالمشكلة في غياب الاغنية اللبنانية الراقية لا يعود حسب الرحباني الى الجمهور، «ويكفي النظر الى حفلات السيدة فيروز التي تستقطب 40 الف شخص بينما جميع الذين يغنون حالياً لا يجدون اكثر من 500 شخص يصفق لهم. بل هناك مسؤولية تتحملها شركات الانتاج ومن يشرف عليها، فهل من الممكن لاشخاص اميين يديرون هذه الشركات ان يدفعوا اموالاً خيالية على «كليب» لتغطية ضعف المغني بدلاً من دفع هذه الاموال في اغنية على مستوى يلاقي الاعجاب؟» مشيراً انه يقوم بمحاولات لقيام شركات انتاج جديدة تعتمد على النوعية وتعطي الاولوية للنغمة «الاساس» في اي عمل فني قبل الصوت او الكلام. ويبرر الرحباني التجربة مع «الفوركاتس» بأنها تتم بغاية تعريف جيل جديد على نتاج لبناني ما كانوا ليعرفوه لولا هذه الظاهرة التي تبناها نجله غسان الرحباني، ولاقت رواجاً في العالم العربي وبين صفوف الشباب الذين عادوا ورددوا الاغنيات التي قام بتلحينها للسيدة فيروز».

* الإنتاج ثم الإنتاج

* يدفع الحلف المعقود بين وسائل الاعلام وشركات الانتاج الى قلق العديد ممن يعتبرون ان هاتين المؤسستين مسؤولتان عن الانحدار في المستوى الفني، كما مراهنة الشركات على الجمال والمظهر الخارجي بدلاً من التأني في اختيار الاصوات «المعقولة» وفرض الوان غنائية على المغنين، وخاصة اللبنانيين الذين باتوا يبتعدون عن الاداء باللهجة اللبنانية لصالح لهجات مصرية وخليجية او اخرى تحتاج قاموساً لتحليلها. غير ان الانتاج لا يعدو كونه عملية تجارية يقوم بها رجل اعمال يعلم «من اين تؤكل الكتف» ولا يقدم على عمل الاّ اذا ايقن انه سيؤمن له المردود المنشود. وهنا يقول سليم البسال مدير قسم التوزيع في شركة ميوزيك ماستر «ان الانتاج في هذه الفترة جيد جداً والسوق لا تنحصر في لبنان فحسب بل ان الاسطوانات تصل الى اوروبا واميركا وهذا دليل عافية. فنحن نتعاون مع وسائل اعلامية متعددة للترويج للفنانين وفي الآونة حققت اسطوانات مغنيات لبنانيات كـ اليسا وامل حجازي ارقاماً قياسية في المبيعات، نظراً لاستخدام شركتنا لافضل التقنيات. فطالما ان المنتج يسخى على العمل هناك حتماً مردود».

ويضيف البسال «ان محدودية الانتاج اللبناني التراثي تعود الى ضعف اسواق هذه الاغنية. فقمنا منذ فترة بتمويل اسطوانة للفنان عماد الرفاعي الذي يؤدي هذه الانواع غير ان هذه الاعمال لا تؤمن مردوداً كالاعمال التجارية وتبقى محدودة الانتشار». مؤكداً «ان المعايير التي تعتمدها ميوزيك ماستر لتمويل اي عمل تختلف حسب كل فنان. فمثلاً مع اليسا لاحظنا تطوراً في الاداء على صعيد الكلمة واللحن مما شجعنا على خوض التجربة معها مثنى وثلاث. فالأفضل بالنسبة الينا في اختيار اي عمل لتمويله هو الجمع بين الصوت العذب والطلّة البهية معترضاً على فكرة ان الاولوية التي تعتمد في شركات الانتاج تأتي لصالح المظهر الخارجي. فالفن هو الفن. والمعايير التي تعتمدها يجب ان تؤمن في نهاية الامر المردود الذي دفعناه على الاسطوانة. فلا ضير ان تحمل اسطوانة 12 اغنية اذا كانت تلبي الاذواق المختلفة».

اما عن الاغاني المصوّرة فيقول «انها تنقل الهوية اللبنانية من خلال المناظر الطبيعية المستخدمة والاماكن السياحية التي تصوّر (؟!) والرقص في نهاية الامر هو طريقة يعتمدها المخرج للتعبير».

غير ان الملحن احسان المنذر يعارض القول ان الاغاني اللبنانية «الراقية» محدودة الانتشار ولا تؤمن مردوداً فيؤكد ان «وصول اغاني فيروز ووديع الصافي وماجدة الرومي الى كافة الاقطار العربية يثبت ان الاغنية الراقية تصل لا محال الى مستمعيها. والدليل هو اعتماد بعض الفنانين الجدد هذه الاغنيات في مقابلات اذاعية وتلفزيونية لتأكيد مقدرتهم في الأداء والصوت»، مشيراً ان «ما يقدّم حالياً هو اغان خفيفة راقصة. القليل منها يحمل نوعية والباقي لا يدوم سوى شهور معدودة وسرعان ما ينسى. والسبب الرئيسي يعود الى اعتماد هذه الانتاجات على التوزيع وليس اللحن. هذا الاخير لا يعيش الا اذا كان جيداً بينما التوزيع ليس سوى موضة يتغير حسب الظروف».

ويعزو المنذر غياب الاغنية اللبنانية الراقية «الى عدم استعداد اي منتج لدعمها. فهذا اللون يعتمد على نوعيّة واصول لا استهتار او لعب فيها، مما يصرف نظر شركات الانتاج عنها الى الاغاني التجارية التي يدفعون عليها بلا حساب. وهذا الامر ليس محصوراً في لبنان وحسب بل يُعتمد في العديد من الدول. غير ان عملية حسابية بسيطة تثبت ان اغاني سيد درويش وفريد الاطرش ومحمد عبد الوهاب وغيرهم لا تزال تعطي مردوداً في الحقوق (النشر)».

* الجمهور مش عايز كده ولكن؟!

* وتساهم مطارق المعايير الحديثة التي تضعها شركات الانتاج وتسوّقها وسائل الاعلام ليتلقاها المشاهد الذي تحوّل في نهاية الامر الى انسان قابل غير فاعل يستهلك ما يقدّم له وان خرق هذا الواقع فيكون بالحديث المتكاثر عن الاغاني المصورة او شتمها وفي اكثر تعديل مقاطعتها.

غير ان هذه الدوامة اسهمت بعض الشيء في تسلّل الاحباط الى نفوس بعض المؤدين لهذه الالوان الغنائية مما اغرقهم في حال من الكلاسيكية، وحدّ من بحثهم عن تحديث لهذا الواقع.

وهنا تشير الفنانة جاهدة وهبي «ان المجهود الفني الذي يقدمه بعض الفنانين الذين يؤدون انواعاً غنائية توصف بالراقية يبقى محدوداً اذا لم يرفق بدعم من المؤسسات الرسمية ووسائل الاعلام». وتضيف «اننا لا نقبل التنازلات من ناحية اللحن والكلمة والتعدد في المقامات بينما تُبيّن لنا الساحة اختلاف معايير الغناء التي اصبحت متمثلة بقدرة الفنان على الدلع امام الكاميرا ووجود اغان تبنى على جملة واحدة والحان بسيطة تصل الى حد الركاكة».

اما خالد العبد الله فيشير «ان البحث عن ما يناسب اذواق الاجيال لا يحول دون العناء بالكلمة واللحن، غير ان المغنين اللبنانيين غارقون في تقليد الموجة السائدة» مؤكداً «ان هناك صعوبة للاعمال الراقية في ايجاد شركة تدعمها»، مستشهداً بأسطوانته الاخيرة التي ما زالت تنتظر من يتبناها على رغم المزج بين الايقاعات السريعة والكلمات الجيّدة.