عودة الخلاف حول موقع وبار وإرم ذات العماد

أحمد عثمان

TT

نفى خبير جيولوجي اميركي عمل في السعودية لمدة اربعين سنة، ان يكون الموقع الذي حددته وكالة الطيران والفضاء الاميركية «ناسا» لمدينة «وبار» صحيحا. وقال ستيوارت ايدجل في بحث ظهر له بنشرة الجمعية الجيولوجية الاميركية، ان الموقع الذي حددته «ناسا» للمدينة الاثرية، ليس فيه سوى بئر فيه كميات قليلة من الماء لا تكفي حاجة مدينة كاملة، ولا تتسع الابنية التي عثر عليها الا لبضع عائلات لتعيش بها. وكانت «ناسا» قد حددت موقعا بالقرب من مدينة شزور الحديثة في منطقة ظفار بسلطنة عمان، جنوب الربع الخالي، وقالت انه يمثل مدينة وبار القديمة التي عرفت في المصادر العربية باسم «ارم ذات العماد».

جاءت تصريحات ايدجل الاخيرة، لتؤكد ما سبق ان ذهب اليه الباحثون السعوديون وعلى رأسهم العلامة الراحل الشيخ حمد الجاسر، الذين استبعدوا ان تكون البقايا التي كشف عنها هي «ارم ذات العماد» التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. ورفض الدكتور عبد الرحمن الانصاري، عالم الآثار السعودي المعروف، اعتبار ما كشف عنه في منطقة ظفار بقايا لمدينة ارم ذات العماد، نافيا ان تكون صحراء الربع الخالي موطن عاد. وذهب الانصاري الى ان القصة التوراتية هي التي ربطت بين التجارة التي كانت في عهد النبي سليمان الى جنوب الجزيرة العربية عبر البحر الاحمر لتصل الى موقع وبار، كما اكد الاثري السعودي منذ عشر سنوات وجود اكثر من موقع يمكن ان يكون بهذا المسمى، وطالب بالتريث حتى يتيسر التثبت من الحقائق وفحصها بالوسائل العلمية.

كانت وبار مركزا تجاريا هاما في عصور ما قبل الميلاد، وهي تقع في واحة على طريق التجارة بين بلاد الشام في الشمال وبحر العرب في الجنوب. وكانت القوافل المحملة باللبان والبخور العماني، تسير شمالا الى بلاد الهلال الخصيب ومصر، حيث كان يستخدم في طقوس العبادة في المعابد او يصدر الى بلاد اليونان والرومان. ولقد جاء ذكر وبار في خريطة جغرافية قديمة لمعالم الجزيرة العربية ترجع الى منتصف القرن الثاني للميلاد، كما تحدثت بعض الروايات الكلاسيكية عن تاريخها وذكرت اسماء بعض ملوكها، وكيف اختفت هذه المدينة فجأة اثر عاصفة رملية شديدة العنف. كذلك ورد اسم «اوفير» (عفير او عُبر) في الكتب التوراتية كاسم لمركز تجاري هام في ايام الملك سليمان يصدر الذهب والاحجار الكريمة وخشب الصندل الى فلسطين. ولما كانت المراكب تسير جنوبا في البحر الاحمر للوصول الى «اوفير» (عُبر/وبار) ساد الاعتقاد بأنها كانت في جنوب الجزيرة العربية.

فقد قيل ان مراكب سليمان كانت تخرج من ميناء قديم ورد ذكره في التوراة باسم عصيون جابر وتسير الى «اوفير» في جنوب الجزيرة العربية. اذ جاء في الاصحاح التاسع من سفر الملوك الاول ان الملك سليمان عمل «سفنا في عصيون جابر التي بجانب أيلة (ايلات) على شاطئ بحر سوف (البحر الأحمر) في ارض ادوم. فأرسل حيرام (الفينيقي) في السفن عبيده النواتي العارفين بالبحر مع عبيد سليمان. فأتوا الى اوفير واخذوا من هناك ذهبا اربع مائة وزنة وعشرين وزنة واتوا بها الى الملك سليمان».

كما تكررت نفس هذه القصة في الاصحاح الثامن من سفر اخبار الايام الثاني: «ذهب سليمان الى عصيون جابر والى ايلة على شاطئ البحر في ارض ادوم. وارسل له حورام بيد عبيده سفنا وعبيدا يعرفون البحر فأتوا مع عبيد سليمان الى اوفير واخذوا من هناك اربع مائة وخمسين وزنة ذهب واتوا بها الى الملك سليمان».

وكشفت اعمال الحفر الاثري في اواخر ستينات القرن الماضي، عن ميناء عصيون جابر في جزيرة فرعون التي تقع في خليج العقبة على بعد 12 كليومترا جنوب ميناء ايلات الحالي. وعثر الاثريون على بقايا بعض تحصينات ومنشآت حربية في جزيرة فرعون يمتد تاريخها حتى عهد صلاح الدين الايوبي وحروبه مع الصليبيين. وتبين ان جزيرة فرعون كانت في الماضي ميناء يستخدمه المصريون في الوصول الى مواقع المناجم، وكذلك الى سواحل الجزيرة العربية في البحر الاحمر واليمن.

* البحث تحت الرمال

* بدأت محاولات الكشف عن مدينة وبار منذ عام 1932، عندما عبر الرحالة الانجليزي برترام توماس صحراء الربع الخالي القاحلة، وعثر على طريق ممهد اعتقد انه يقود الى المدينة المفقودة تحت الرمال، الا انه مات اثناء بحثه عنها.

كما عجز «لورنس العرب» وسنت جون فيلبي بعد ذلك في الكشف عن موقع وبار رغم محاولاتهما في النصف الاول من القرن الماضي، لصعوبة التنقيب تحت ملايين الاطنان من الرمال التي تغطي الربع الخالي.

الا ان التطور الهائل في وسائل التكنولوجيا في النصف الثاني من القرن العشرين، مكن العلماء من اجراء عمليات مسح الصحراء عن طريق استخدام وسائل الاستشعار عن بعد، وقامت وكالة الطيران والفضاء الاميركية «ناسا» بالتقاط صور تكشف ما تخبئه الرمال الى عمق بضعة امتار. وتمكنت الصور الرادارية منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، من الكشف عن وجود بقايا مدفونة لمبان ومنشآت تبعد مائة كيلومتر عن طريق ارم القديم، مستخدمة اشعة قريبة من الاشعة ما دون الحمراء للنفاذ تحت الرمال.

ومنذ عشر سنوات حاول فريق من رجال الآثار البريطانيين والاميركيين بالاشتراك مع باحثين عمانيين يقودهم رانولف فاينز للكشف عن بقايا المدينة في صحراء الربع الخالي بجنوب سلطنة عمان، استنادا الى الصور التي التقطها رادار وضع على المكوك الفضائي الاميركي «تشالنجر» يصاحبه قمر صناعي لرسم الخرائط. واظهرت الصور وجود نبع قديم للماء جف منذ مئات السنين، فقرر فاينز الحفر في الموقع الذي حددته الصور، وازاح الرمال عن بعض البقايا العمرانية وفيها اسوار وابراج. واعلن الاثريون ان الموقع الذي كشفوا عنه يمثل المدينة البائدة، التي عرفت في المصادر الكلاسيكية باسم «وبار» او «اوبار» او«عُبر» والتي ورد ذكرها في سورة الفجر بالقرآن الكريم باسم «ارم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد». كما عثر على جدران عريضة وقواعد لابراج للحراسة ووجدت عدة اعمدة في هذه المدينة وتبين ان المنطقة التي كشف عنها، تربض على جرف كلسي فوق بحيرة من المياه الجوفية.

* الأقوام البائدة

* من الامور التي تثير خيال الناس واهتمامهم، تاريخ الاقوام البائدة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وروايات الشعراء والرواة القدامى. فقد تحدث الرواة عن اقوام سابقة على ممالك سبأ وحمير بادت واختفى اثرها، ومن بين هذه الاقوام عاد وثمود التي ورد ذكرها في القرآن الكريم كذلك. وذهب الباحثون الى ان «عاد» كانت أمة كبيرة عاشت بعد عصر الطوفان مباشرة، وتحدث عنهم شعراء الجاهلية باعتبارهم أمة قديمة بائدة، وجعلوا موطنهم بالصحراء الواقعة بين عمان وحضرموت (الاحقاف). ويعتقد بعض الباحثين ان موطن عاد كان في المنطقة الواقعة جنوب شرق السعودية بين حضرموت وعمان بجانب منطقة احقاف الرمل. الا ان فريقا آخر ذهب الى ان قوم عاد عاشوا في شمال غرب السعودية، بينما اعتبر بعض المستشرقين ان كلمة «عاد» كانت صفة في البداية تعني «العصور القديمة» وتطلق على كل الاقوام البائدة، قبل ان تتحول الى اسم علم. ولا يعرف أحد اصل قوم عاد الذين كانت لهم مدينة ورد اسمها في سورة الفجر: «ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد. التي لم يلخق مثلها في البلاد». وتقول الروايات ان ملكا يدعى «شداد» هو الذي بنى مدينة ارم فوق الاعمدة. كما ورد في تاريخ الطبري ان قوم عاد كانوا اشداء ضخام القامة، يعبدون الاصنام ويرتكبون الفواحش. وعندما ارسل اليهم ربهم نبيا اسمه هود يدعوهم الى التوبة وترك عبادة الاصنام، سخروا منه ولم يستجيبوا له. ثم بعثوا بوفد من رجالهم الى مكة ليقوم بالصلاة طلبا للمطر الذي تأخر في بلاده، فاستقبلهم اميرها معاوية بن بكر بالترحاب واقام على شرفهم حفلة غنائية كبيرة. وما كاد رئيس وفد عاد ان ينتهي من ادائه لصلاة الاستسقاء، حتى ظهرت ثلاث سحابات في السماء تختلف في الوانها، ما بين البيضاء والحمراء والسوداء. وسمع صوتا في السماء ينادي طالبا منه ان يختار ايا من السحابات الثلاث لبلاده، فاختار السوداء متوقعا ان تكون مليئة بالمطر. فسارت السحابة السوداء من موقعها عند مكة الى ان وصلت فوق ارض عاد، ثم خرجت منها ريح صرصر عاتية قضت على كل اهل البلاد عدا قليل منهم من اتباع هود. وذهب العديد من الباحثين الى اعتبار «ارم ذات العماد» بمثابة عاصمة لقوم عاد في جزيرة العرب. وهناك قصة تقول ان شداد بن عاد بناها بالقرب من عدن في الجنوب. وبينما يرى بعض الرواة انها تدل على مدينة دمشق بأعمدتها الرخامية، ذهب آخرون الى ان الاسكندر الاكبر عندما قرر بناء الاسكندرية بشمال مصر، عثر في نفس الموقع على بقايا مدينة لها اعمدة كتب عليها كيف انها بنيت على طراز «ارم ذات العماد». وتشير احدى الدلالات اللغوية لهذه الكلمة الى كومة من الاحجار ترمز الى مكان ما، كما ظهرت في «معجم ياقوت» كاسم لموقع في الجزيرة العربية. وهناك من الباحثين من لا يعتبر «ارم» اسما لمكان جغرافي، بل يراها دلالة على قبيلة او شعب ورد ذكرها عدة مرات في روايات الجاهليين واشعارهم، حيث قيل ان رجلا اسمه قدار الاحمر (احيمر) هو الذي دمرها. وفي هذا المعنى استخدم الشاعر الجاهلي الحارث بن حلزة كلمة «ارمي» بمعنى «رجل من قوم قديم بائد».