آلاف الإيرانيين يعانون حتى الآن من تأثير السلاح الكيماوي العراقي بعد 14 عاما على انتهاء حرب الثماني سنوات

TT

كان علي شكيبي نجاد يسند جسده الضعيف الى وسادة، وراح يردد كلمات قليلة من وقت إلى آخر عبر قناع بلاستيكي أخضر مشدود إلى قنينة أوكسجين صغيرة. قال مصلح الأحذية السابق وهو يتذكر ما جرى، بينما ظلت نوبات السعال تعاوده: «في البدء انتبهت إلى رائحة طيبة شبيهة برائحة الثوم أو ورد الجوري. لم يكن عمره آنذاك يتجاوز الـ 19، وما شغله في ذلك الوقت كليا كان هزيمة وحدته العسكرية والخوف من الوقوع الوشيك بيد العراقيين. وخلال الـ 27 شهرا اللاحقة كان علي شكيبي نجاد أسير حرب.

قبل خمس سنوات تم أخيرا تشخيص تلك الأعراض الغريبة التي ظلت تتزايد بين الكثيرين مثل تفاقم السعال، والتهابات الصدر المتكررة، وإصابة اللثة بمرض يسبب وقوع الأسنان، والصداع الشديد وفقدان مفرط للوزن. وبذلك أصبح ممكنا للأطباء أن يخبروا نجاد بأنه ضحية لغاز الخردل، وهو السلاح الكيماوي الذي استخدمه العراق على نطاق واسع خلال حرب الثماني سنوات مع إيران. وبعد مرور 14 عاما على انتهاء الحرب أصبح نجاد تجسيدا حيا لما خلفه استخدام العراق للأسلحة الكيماوية. فوفق تقرير رُفع غطاء السرية عنه أخيرا، قدرت وكالة الاستخبارات الأميركية عدد المصابين الإيرانيين بالأسلحة الكيماوية العراقية بأكثر من 50 ألف شخص، وهذا يشمل آلاف القتلى غير المكشوف عنهم. لكن إيران تزعم أن العدد ارتفع بين الجنود السابقين والمدنيين من خلال ظهور الأعراض بعد 15 عاما على إصابتهم لأن تعرضهم إلى جرعات قليلة آنذاك أجَّل بروز الأعراض المرضية عليهم.

وقال الدكتور فرهاد هاشم نزاد الأخصائي بأمراض الصدر الذي أصبح بدون حماس كبير خبيرا في الأسلحة الكيماوية «نحن بدأنا ندرك أن ما نشاهده الآن قد لا يكون سوى اولى المؤشرات على الكارثة. ربما لم نشاهد بعد أغلبية الضحايا... معظم المرضى لا يعرفون أن ما يشكون منه ــ السعال وانحباس الهواء في الصدر ومصاعب التنفس ـ له علاقة بالأسلحة الكيماوية، خصوصا بعد مرور كل هذه السنوات. فما لا يقل عن 20 في المائة من المرضى الحاليين هم من المدنيين الذين كانوا يظنون أنهم لم يكونوا جد قريبين كي يتعرضوا لتأثيرات السلاح الكيماوي». واحد من الأسباب الرئيسية لإصابة المدنيين هو استخدامهم للماء الملوث بالأسلحة الكيماوية، حسبما قال نزاد. وأصبح الأطباء قلقين نتيجة لتنامي عدد الحالات المرضية مما دفع الحكومة إلى نشر إعلانات قبل عامين في الصحف الإيرانية تطلب من كل شخص كان في منطقة معينة أثناء الحرب الابلاغ عن أي مصاب بعاهة عن طريق الاتصال بواحد من 30 مركزا لإجراء الفحوص الطبية. وما تجنبت تلك الاعلانات قوله خوفا من خلق حالة واسعة من الذعر هو أن تلك المناطق ضُربت بالأسلحة الكيماوية العراقية.

يبلغ وزن نجاد 48 كيلوغراما بينما هو الآن في سن الـ .33 وأخبر الأطباء زوجته بأنهم لا يتوقعون بقاءه حيا لأكثر من ستة أشهر أخرى. وسبق أن توفي أقرب رفاقه في السلاح الذين شاركوا معه في معركة الشلامجة قبل عدة أسابيع. وقال محمد علياني نائب مدير «مركز المعاقين» في كرج، المدينة الصناعية الواقعة على بعد 25 ميلا شمال طهران «هناك آخرون مثل حالته في تزايد مطرد. فهم يذوبون يوما بعد يوم مثل الشموع». وفي مستشفى ساسان بطهران، بدا ميكانيكي السيارات محسن كومباني بجسده النحيل كأنه ناج من أحد معسكرات الاعتقال النازية، فجلده الشاحب يغطي عظامه الناتئة. وهو الآخر مشدود دائما إلى جهاز الأوكسجين. ويتذكر كومباني، 34 سنة، تلك الرائحة الشبيهة برائحة العشب الذي جز توا حينما رمى العراقيون قنابل غاز الخردل على وحدته العسكرية. لكنه لا يستطيع تذكر شيء آخر، فذاكرته مماثلة لذاكرة المصاب بمرض الزهايمر في أولى مراحله. ويقول الأطباء إنهم يتوقعون وفاته في أي يوم.

ومثل معظم الحالات الموجودة حاليا، أصيب كومباني في السنتين الأخيرتين من الحرب. فالعراق بدأ أولا بتطوير أسلحته الكيماوية في بداية السبعينات، إذ راح يرسل بعضا من طلابه للدراسة في المعاهد الغربية من أجل الوصول إلى هدفه في تطوير «عدد من العلماء الأكفاء» حسب تقرير قديم لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي ايه) تم الكشف عنه أخيرا. لكن استعمال العراق للسلاح الكيماوي لم يكن منظما، خاصة ما بين عامي 1983 و1986، حسبما ذكر ذلك التقرير. وخلال تلك الفترة قام العراقيون بإطلاق قنابل مشحونة بالمواد الكيماوية أثناء طقس غير ملائم، حيث «دفعت الريح المواد الكيماوية باتجاه القوات الايرانية»، حسبما ذكر نفس التقرير. كذلك أسقط الطيارون العراقيون قنابل وصواريخ من ارتفاعات عالية جدا بحيث أصبح تأثيرها ضئيلا أو لم تنفجر.

لكن بحلول نهاية 1986، بدأ العراق باستخدام الأسلحة الكيماوية بشكل فعال كجزء متكامل من استراتيجية قتالية و«تكتيك متكرر ومنتظم» حسبما جاء في تقرير «سي آي ايه» . ولم يكن هناك عائق أمام العراقيين سوى مشكلة توفر هذه الأسلحة التي دأب العراق لاحقا على تجاوزها. وفي عام 1988 أصبح استخدام الأسلحة الكيماوية عاملا حاسما في الحرب المروعة، مما جعل إيران تضطر في الأخير لقبول وقف لإطلاق النار توسطت فيه الأمم المتحدة. وأضاف التقرير أن الكادر الطبي الإيراني الذي كان يفتقر للأجهزة الطبية الضرورية لم يتمكن من تلبية متطلبات علاج ذلك العدد الكبير من المصابين، بل اصيب بعضهم ايضا.

استخدمت بغداد غاز الخردل بشكليه الجاف والسائل، وهذا السلاح استخُدم لأول مرة في الحرب العالمية الأولى، ثم استخدمته إيطاليا لاحقا في اثيوبيا. ويتبخر هذا الغاز ببطء وبإمكانه أن يظل خطيرا لساعات كثيرة بل حتى لعدة أيام حسب «معهد استوكهولم الدولي للسلام» . ويحرق هذا الغاز نسيج الجسد ويعمل كمادة سميّة بطريقة منتظمة. ويُعتبر هذا الغاز أكثر فتكا من السيانيد، ويسبب العمى والقروح الحادة وفقدان لون البشرة وتدمير الرئتين، مثلما كشفت أعراض المصابين في مستشفى ساسان بطهران. كما استعمل العراق في منتصف حربه مع إيران غاز الأعصاب المعروف باسم «تابون» للمرة الأولى في ذلك النزاع. وهذا السلاح يحفز على الغثيان والتشنجات العضلية والارتعاش والشلل.

ويشعر الإيرانيون بالمرارة لأن بقية العالم لم تلتفت إلى الأضرار التي لحقتهم جراء الأسلحة الكيماوية العراقية إلى الآن. وفي هذا الصدد قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية حامد رضا آصفي: «جاء وقت لم يكن هناك أي طرف يتكلم عن المخاطر. واستغرق إقناع الأمم المتحدة كي تأتي وتتحقق من مزاعمنا وقتا طويلا. والآن الجميع يريدون التكلم عن ذلك. إنه رد فعل متأخر، لكنه يظل أفضل من لا شيء».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»