«سلام باكس» شاهد عيان على شبكة الإنترنت يضفي «وجها إنسانيا» على ما يجري في بغداد

موقع اليوميات الأكثر شهرة يقدم صورة للحرب من شخص مجهول يزوره أكثر من 91000 متصفح في الشهر

TT

بعد بضعة أيام فقط من انطلاق حملة القصف على العاصمة العراقية بغداد بدأت شخصية غامضة تكتب تحت اسم «سلام باكس» تقارير منتظمة في موقع على شبكة الانترنت حول آثار القصف على المدينة. فقد كتب «سلام باكس»: «دمر انفجار هائل واحدا من الابنية التي احبها، واوشكت على البكاء حزنا على ما حدث. ويبدو ان الضربات موجهة بدقة شديدة، ولكن عندما تنفجر الصواريخ والقنابل فإنها تلحق خرابا في الاحياء التي تقع بالقرب من مواقع الانفجارات. التلفزيون العراقي لا يقول شيئا حول الانفجارات ولا يعرض شيئا. إذ ما هي فائدة الاناشيد الوطنية عندما تسقط القنابل على المدينة؟».

رغم التدفق المستمر للتقارير الاخبارية والمشاهد التلفزيونية والدعاية، فإن التقارير الاخبارية اليومية التي ظل يرسلها شخص غير معروف تحت اسم «سلام باكس» من داخل العاصمة العراقية باتت تقرأ من قبل عدد هائل على شبكة الانترنت. بدأت التقارير ترد من «سلام باكس» نهاية العام الماضي من شخص زعم انه مهندس معماري في نهاية العقد الثاني من عمره ويقيم في بغداد، ولكن مع استمرار الحشد العسكري في المنطقة خلال الشهور السابقة برزت اليوميات المنشورة في هذا الموقع كمحك واختبار ثقافي لرواد الانترنت ولغز ينافس اكبر الألغاز التي ظهرت على الانترنت. لا أحد يعرف ما اذا كانت شخصية «سلام باكس» هي الشخصية التي وصف بها نفسه، اذ لم يحدث ان نشر اسمه الحقيقي، كما لم ينشر علنا عن نفسه اي معلومات تساعد السلطات العراقية على التعرف عليه، رغم انه لم تبد من جانب عملاء صدام حسين أي رغبة في الكشف عنه. وعلى الرغم من مساعي العديد من القراء المهتمين بكشف هوية «سلام باكس»، فإنه ظل مختبئا في خضم الكم الهائل من شبكة المواقع التي يتكون منها الانترنت. وربما يكون «سلام باكس» شخصية مفبركة ومثالا على عدد لا يحصى من الحيل والخدع الموجودة على الشبكة. ولكن خلال الاشهر القليلة التي ظلت تظهر خلالها يوميات «سلام باكس» عل شبكة الانترنت، وافقت كلماته ـ سواء كانت حقيقية ام لا ـ ثقافة شكلتها شبكة الانترنت التي تعتبر مجالا لا تقيده حدود. فقد اصبحت هذه اليوميات صوتا لجيل من اجيال الانترنت اصبح معزولا عن الدول والقبائل ولكن يتواصل افراده رقميا مع بعضهم بعضا. يقول بول بوتين، وهو صحافي ظل يقرأ يوميات «سلام باكس» على مدى شهور: «لقد رأينا عدوا لديه الكثير من السمات المشتركة معنا اكثر مما كنا نتخيل... انه يبدو وكأنه من «ماونتين فيو» بكاليفورنيا. إنه صاحب ذكاء في مجال الانترنت، لكنه متقلب فيما يتعلق بالسياسة ويغير موقفه كثيرا.... ولا يهتم كثيرا.

وقد ظهرت يوميات «سلام باكس» لاول مرة في 4 سبتمبر (ايلول) الماضي برسالة حول عمود كتب في صحيفة «نيويورك تايمز» تحت عنوان «آثار رجل مجنون». تناول ذلك العمود عادات التأنق التي يتبعها صدام حسين ويفرضها، بما في ذلك ارشادات الاستحمام التي تفرض على كل من يعتزم مقابلته وتفضيله التقبيل بالقرب من إبطه عندما يسلم عليه الزوار. ورد «سلام باكس» على هذا العمود بالقول «انها مقالة هزلية بالفعل ومناسبة تماما كموضوع صباحي مع القهوة بالكعك».

ويعنون «سلام باكس» يومياته بـ«أين رائد؟»، في اشارة الى صديق قريب يبدو انه يقسم وقته بين بغداد والعاصمة الاردنية عمان. واظهر «سلام باكس» ذكاء واضحا وإلماما بالثقافة العراقية والغربية على حد سواء، وزعم ايضا انه يتحدث العربية والانجليزية والالمانية. وكتب في احدى رسائله في اكتوبر (تشرين الاول) الماضي حول صديقه رائد: «لا تربط بيننا صداقة دائمة، بل ان بعض الاصدقاء الذين تجمع بينهم علاقة منتظمة ينظرون إلينا في واقع الامر بشيء من الشك. قضيت نصف حياتي خارج هذا البلد وكان لا بد ان اتعلم من جديد كيفية إعادة تنمية جذوري بواسطة شخص ليس عراقيا بالميلاد، لكنه يحب المكان فقط (شكرا رائد). لدينا لسانان تسببا في إثارة المشاكل لنا».

وربما كانت يوميات «سلام باكس» عرضة للضياع في خضم زحمة وضجيج شبكة الانترنت، باستثناء ان الكل يمكن ان يعرف انها لا تعدو ان تكون اليومية الالكترونية الوحيدة التي تكتب من بغداد. وفي مقال طويل نشر في فبراير (شباط) الماضي، كتب «سلام باكس»: ليالي بغداد جميلة عندما يشاهد المرء القمر من خلال الغيوم او الرمال. بدأ القمر يتلاشى الآن ويقترب من الوجه المظلم المثير للخوف. الكل هنا يعتقد انه اذا حدث أي شيء مستقبلا، فإنه سيحدث خلال هذا الشهر ويبدأ خلال الليالي المظلمة».

مع انتشار هذه الكلمات عبر الشبكة بدأ موقع «سلام باكس» يكتسب المزيد من الشهرة، بل انه اصبح الشهر الماضي واحدا من المواقع الشخصية الرائجة على شبكة الانترنت طبقا لتقييم اعدته مجموعة «دايبوب» المتخصصة في تقييم مواقع الانترنت من حيث عدد الزيارات التي يسجلها مستخدمو الشبكة. وطبقا لتقرير مجموعة «اكستريم تراكينغ» المتخصصة في رصد حركة مستخدمي الشبكة وزياراتهم لمختلف مواقعها، فقد زار موقع «سلام باكس» خلال شهر مارس (آذار) الماضي وحده 91000 من مستخدمي الشبكة.

تقول ريبيكا بلود، الباحثة في ما بات يعرف بـ«اليوميات الالكترونية» ان موقع «سلام باكس» وضع وجها انسانيا على التاريخ ومكن كثيرين من مشاهدة ما يجري بالفعل في بغداد، وهذا في حد ذاته عمل جديد ومتفرد، على حد وصفها. وتعتبر يوميات «سلام باكس» جزءا من ظاهرة اليوميات الالكترونية التي بدأت في الظهور على شبكة الانترنت عام 1997 تقريبا، وهي عبارة عن يوميات يدون عليها اصحابها افكارهم وتجاربهم على نحو يومي. ويلاحظ ان شعبية هذه اليوميات الالكترونية قد ازدادت خلال السنوات الاخيرة ووصل عددها الآن الى حوالي نصف مليون، حسبما اوردت بلود في واحدة من دراساتها. كتب «سلام باكس» في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي: «ادرك ان صدام رجل ابله ويضع اصبعه على الزناد». ولكن يبدو واضحا من كتاباته انه يحتقر ادارة الرئيس بوش بقدر احتقاره لمنظمة الامم المتحدة. فقد كتب في 3 ديسمبر (كانون الاول) الماضي: «شكرا على إبقائكم على العقوبات التي تدركون انها تضعف فقط الشعب العراقي ولم يكن لها اثر على الحكومة». ومع بداية الحرب حول «سلام باكس» اهتمامه الى القلق ومشاهد القصف اليومي: «اعمدة الدخان باتت تحيط ببغداد تقريبا. الرياح تهب الى الجهة الشرقية مما يترك الجزء الغربي من بغداد نظيفا، ولكن عندما تأتي اعمدة الدخان أمام ضوء الشمس فإنها تغطيها تماما. اننا مقبلون على بعض الايام المظلمة بالفعل».

كتب الكثير من المعجبين من مختلف انحاء العالم رسائل بريد الكتروني اعربوا من خلالها عن ارتياحهم ازاء نجاة «سلام باكس» خلال الايام الاولى للقصف. فقد كتب احد هؤلاء: «سلام باكس عاد.... اذهبوا الى موقعه واقرأوا وادعوا له بالسلامة».

ولكن وراء المخاوف على سلامة «سلام باكس» بعض الشك، ولكن هل هناك وجود حقيقي لهذا الشخص؟

فحرص «سلام باكس» الشديد على إخفاء هويته أثار شكوكا وسط عدد من المهتمين بزيارة مواقع «اليوميات الالكترونية»، بل ان البعض وصف الموقع بأنه مخطط من «وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية» (سي آي أي) او «الموساد» رغم انه لم تتضح مدى فائدة يومياته لوكالات الاستخبارات. وعلى العموم فان تفرد «سلام باكس» بكونه صاحب «اليوميات الالكترونية» الوحيدة من العاصمة العراقية أثار شكوك البعض. تبدو يوميات «سلام باكس» في ظاهرها كتقرير لشاهد عيان لما فيها من تفاصيل، فقد كتب في 21 مارس الماضي: «اشترينا طماطم وقرعا صيفيا بـ1000 دينار للكيلو رغم ان سعره لا يتجاوز 250 دينارا في الاوضاع العادية. أغرب ما في الامر ان شاحنات نقل النفايات كانت تعمل. انقطع إرسال القناة الفضائية العراقية ووقف بث قناة تلفزيون الشباب الذي يعرض مسلسلات مصرية صباحا ثم اخبار رياضية بعد ذلك».

وكان يرد على بعض الناقدين بعبارات مثل: «لا ترسلوا لي من فضلكم رسائل تسأل حول ما اذا كنت شخصا حقيقيا. لا تصدقون ما اكتب؟ اذا لا تقرأوا ما اكتبه. انا لست جزءا من حيلة او خدعة دعائية لأي جهة».

وكما هو معروف فان استمرار القصف على نحو يومي، يثير في اوساط المهتمين بـ«اليوميات الالكترونية» مخاوف بان تتسبب الحرب في توقف يوميات «سلام باكس».

ويتساءل آلان نيلسون، احد المشاركين في إنشاء «يوميات الكترونية» حول الحرب بعنوان «كوماند بوست»، حول ما اذا كان «سلام باكس» سيواصل الكتابة، ام ان أحدا سيقوم بوضع قنبلة زنة 2000 رطل في الحي الذي يسكنه؟

وما يزال «سلام باكس» صامتا منذ يوم الاثنين من الاسبوع الماضي.

عنوان موقع «سلام باكس»: dearraed.blogspot.com

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»