رئيس الاستخبارات العسكرية العراقية قبيل استسلامه: التقيت صدام مرتين وعندما عينني علمت أنني في سفينة غارقة

زهير النقيب أكد أنه عسكري وكان ينفذ الأوامر ولم يرتكب أية جريمة

TT

كان زهير طالب عبد الستار النقيب يتحدث وقد بدا الارهاق واضحا عليه وظهرت هالات داكنة حول عينيه وكان يدخن باستمرار. كان يحتل النقيب قبل تسليم نفسه للقوات الاميركية المرتبة رقم 21 في قائمة المطلوبين العراقيين التي اعلنت عنها الولايات المتحدة. واعترف النقيب خلال الساعات الاخيرة قبل اعتقاله اول من امس انه ظل باستمرار يختلف مع صدام حسين لكنه لم يحاول الاعتذار عن دوره في نظام الرئيس العراقي المخلوع.

نفى اللواء العراقي السابق، الذي كان رئيساً للاستخبارات العسكرية ودخل قصرا رئاسيا سابقا تستخدمه حاليا القوات الاميركية كمقر وهو يحمل مسبحة في يده اليمنى وحقيبة بها متعلقاته الشخصية في اليد الاخرى معلنا استسلامه، نفى بشدة ان يكون قد ارتكب خلال عمله كمسؤول في النظام المخلوع ما يمكن ان يعتبر جريمة ضد الانسانية. واكد النقيب، 56 عاما، باستمرار على انه رجل عسكري وانه كان يؤدي عمله، وقال ان طبيعة العمل العسكري تقتضي ان يتدرج الشخص وينتقل من موقع الى آخر، مؤكدا انه كان ينفذ ما يصدر اليه من تعليمات، لكنه قال انه لن يجيب على ما اذا كان مقتنعا بالنظام العراقي السابق. وقال ايضا انه يشارك صدام حسين الافكار القومية العربية وانه كان يأمل في ان يصبح العراق وجيشه القوة التي تتمكن من توحيد الامة العربية.

ورفض النقيب الإدلاء بأية تفاصيل حول فترة الـ35 عاما التي قضاها في الجيش، وهي فترة تمتد عبر سنوات ارتكب النظام العراقي السابق خلالها فظائع وتجاوزات وغزا دولا مجاورة. ودافع النقيب عن دوره في ظل النظام السابق وقال انه لم يكن بوسعه ان يترك موقعه العسكري حتى اذا اراد ذلك لأن قوة وبطش صدام لم تكن ستطاله وحده وإنما كانت ستطال اسرته ايضا.

ورغم انه كان متلعثما ومترددا في حديثه، فإن النقيب ألقى الضوء على بعض الجوانب ذات الصلة بنظام الرئيس العراقي المخلوع. فقد اكد ما قاله مسبقا مقربون من النظام بشأن نزعة صدام الى اتخاذ قرارات عسكرية ترتكز في الاساس على مخاوفه من خيانة الآخرين له حتى اذا ادى ذلك الى إضعاف مقدرات القوات المسلحة. وقال النقيب ان مقدرات وفعالية الجيش العراقي تراجعت كثيرا خلال 12 عاما من العقوبات، كما اشار الى ان القصف الاميركي المكثف للعاصمة بغداد اضعف قدرات القوات العراقية تماما، نافيا الادعاءات الاميركية والبريطانية بحيازة العراق لأسلحة للدمار الشامل.

وقال مسؤولو دوائر الاستخبارات بواشنطن انهم لا يملكون الكثير من المعلومات حول نشاط النقيب، وأشاروا الى انه بدأ العمل في موقعه المتعلق بالاستخبارات العراقية منذ يونيو (حزيران) 2002. واشار هؤلاء الى ان الولايات المتحدة وضعت اسمه ضمن قائمة المطلوبين بسبب موقع عمله في الاستخبارات وبسبب ان شقيقه متزوج من اخت صدام غير الشقيقة سهام. من جانبه قال مسؤول بوزارة الدفاع الاميركية ان النقيب عين رئيسا للاستخبارات العسكرية وانه كان ضابطا في قيادة الفيلق الاول التابع للجيش العراقي النظامي في شمال البلاد. وردا على سؤال حول ما اذا كان النقيب سيقدم للمحكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب، قال مسؤول بوزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون) ان الامر يعتمد على ما ستكشفه التحريات حوله. وعلق المسؤول قائلا انه كان مواليا لنظام صدام وانه ترقى بسرعة عبر مختلف المواقع في هيئة القيادة، مؤكدا ان الامر كله يعتمد على إثبات التزامه وولائه لصدام.

جدير بالذكر ان عمل جهاز الاستخبارات العسكرية العراقي كان منصبا بدرجة كبيرة على التجسس على القوات العراقية نفسها. ونفى النقيب ان يكون قد فعل أي شيء يمكن ان يعتبر خاطئا من الناحية الاخلاقية، متسائلا: «ما هو دليلهم على انني مجرم حرب»؟ وقال ان قرار تسليم نفسه استند من ناحية الى نصيحة من قريب له هو نمير طه القيسي، الذي قال له انه لا يمكن ان يقضي بقية عمره هاربا. وقال القيسي نفسه، الذي اجرى اتصالا بالقوات الاميركية ورتب عملية الاستسلام، انه نصح قريبه النقيب بأنه لا يمكن ان يعيش في الخفاء باستمرار. ورفض النقيب الاعتراف بالهزيمة، مما يشير الى تحليه بحس عسكري عميق، بصرف النظر عما فعله عندما كان عضوا في النظام. وقال القيسي، الذي قضى النقيب معه الايام الاخيرة قبل تسليم نفسه، انه قال له ان الاستسلام ربما كان خطوة صائبة لكنه لم يرغب في ان يكون اول مستسلم، إلا ان القيسي ابلغه بأن سبعة مسؤولين استسلموا مسبقا، وعند ذلك وافق النقيب على الاستسلام وتوجه بالفعل الى مقر القوات الاميركية بقصر الاعظمية الرئاسي الذي يقع بجوار المقر الرئيسي للاستخبارات العراقية الذي كان يترأسه النقيب قبل انهيار النظام وسقوط بغداد وعقب اتخاذه قرار الاستسلام بدا النقيب متلهفا لإقناع نفسه بأنه لن يرتكب بذلك خيانة ضد بلده وضد واجبه العسكري، فقد اكد مرارا انه قام بواجبه العسكري على اكمل وجه وانه ليس هناك خطأ في تسليم نفسه للولايات المتحدة. وتحدث النقيب عن آرائه في غرفة لاستقبال الضيوف في احد منازل حي المنصور الراقي ببغداد. وعلى الرغم من انه اعرب عن رغبته في ان يعيش حياة عادية في المستقبل، إلا انه مدرك فيما يبدو ان هذا ليس احتمالا واردا في الغالب، فقد قال: «اتمنى ان ابقى واعيش في هذا البلد كمواطن عراقي عادي»، لكنه اعترف لاحقا بأنه عندما عين في منصبه الأخير شعر بأنه قد «ركب على متن سفينة تواجه الغرق».

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا لم يترك النقيب الموقع الذي عين فيه؟

يجيب النقيب قائلا: «هناك خوف من كل شيء، فلم يكن بوسع أي عراقي ان يترك الجيش إلا اذا ارادت الحكومة ذلك. هذا الامر لا صلة له بالرغبات الشخصية، فالقرار بالبقاء في الجيش او تركه لا يحدده الشخص نفسه». ولم يدل النقيب بتفاصيل تذكر حول دوره كرئيس للاستخبارات العراقية بخلاف إشارته الى انه لم يكن صاحب تأثير كبير في الموقع الذي عين فيه قبل حوالي 10 شهور عندما أقال الرئيس العراقي المخلوع سلف النقيب في هذا الموقع بصورة مفاجئة. وقال النقيب انه التقى صدام مرتين فقط منذ توليه موقعه آخرها قبل ما يزيد على ثلاثة اشهر. ولدى سؤاله عن المغزى في إقالة رئيس لاستخبارات الجيش قبل اندلاع حرب مرتقبة ومتوقعة، هز زهير النقيب كتفيه وقال كلمتين فقط: «صدام حسين»، في إشارة فيما يبدو الى ان الرئيس المخلوع هو الذي اتخذ هذا القرار.

ولا يزال النقيب راضيا عن أدائه خلال عمله كعسكري، مؤكداً على انه «رجل عسكري احب الحياة العسكرية». ورفض بشدة الادعاءات الاميركية والبريطانية بحيازة العراق لأسلحة دمار شامل. ولكن اذا كان الامر كذلك، لماذا لم يفتح النظام العراقي السابق ابوابه لمفتشي الاسلحة التابعين للامم المتحدة ولماذا لم يسلمهم فورا كل الوثائق ذات الصلة بهذه القضية؟ يجيب النقيب: «القرار كان في يد صدام حسين فقط ولم يكن هناك من يمكن ان يؤثر عليه او على قراره».

وعمل النقيب خلال خدمته في الجيش العراقي بفرقة الدبابات على مدى عدة سنوات، وبوصفه عسكريا صاحب تجربة، فقد كان له تحليله الخاص لهزيمة الجيش العراقي، اذ قال: «لم اكن مسؤولا عن وضع خطط الدفاع عن بغداد، فقد كانت هذه مسؤولية الحرس الجمهوري، ولكن من المؤكد ان القصف الاميركي كان له اثر واضح». وأضاف ان الجيش العراقي بقي على ما هو عليه على مدى 12 عاما، اذ لم تستبدل الاسلحة القديمة ولم يكن هناك أي تحديث في مختلف اسلحة وقطاعات الجيش العراقي، كما يعتقد ان قوة الجيش العراقي تراجعت بنسبة 50 في المائة منذ عام 1990. ويرى ايضا ان القوات الاميركية عندما دخلت بدباباتها العاصمة العراقية كانت دفاعاتها قد تساقطت تماما، مؤكدا ايضا ان سقوط المواقع الرئيسية في بغداد، وعلى وجه الخصوص مطار بغداد، كان بمثابة مؤشر لنهاية النظام.

وقال النقيب ان الكثير من الاشياء التي كانت بالنسبة له بمثابة دوافع ومنطلقات على مدى عدة سنوات قد نسفت مثل مبادئ الدولة القومية العربية وقوة العراق في المنطقة بل ان علمانية العراق، على حد تعليقه، باتت تواجه الآن مخاطر حقيقية، كما يعتقد النقيب ان الدول العربية بصورة عامة ادارت ظهرها للعراق. ويأمل النقيب في ان تتولى إدارة البلاد حكومة عادلة ترتكز على القانون، وأضاف ان آخر فترة تمتع العراقيون خلالها بحكومة من هذا النوع هي حقبة الملكية من عام 1932 حتى عام 1958. ويعتقد النقيب ان مختلف المجموعات المكونة للمجتمع العراقي، في إشارة الى السنة والشيعة والمسيحيين والاكراد والعرب، كانت تعامل على قدم المساواة، ويرى ان حكم بلد به هذه الكم من التنوع والانقسام يحتاج الى «يد قوية»، على حد تعليقه.

في تمام الساعة الثالثة واربعين دقيقة من بعد ظهر اول من امس كان النقيب قد غفا لبعض الوقت فيما قاد القيسي سيارته عابرا نهر دجلة بغرض التفاوض مع القوات الاميركية حول التفاصيل الاخيرة لاستسلام قريبه. كان هم القيسي الاساسي هو ان يعامل النقيب بصورة تحفظ كرامته عند تسليم نفسه، وفي النهاية انتهى التفاوض بان يكون النقيب داخل السيارة التي ستقله من القصر الذي سيستسلم فيه الى القصر الذي سيخضع فيه للحبس. وقال القيسي ان الضباط الاميركيين قالوا له ان لديهم سيارة لاندروفر وان بوسع النقيب الجلوس في الخلف، إلا ان القيسي رفض ذلك على اعتبار ان الرجل لواء وليس من الاحترام في شيء ان يوضع في مقعد خلفي في لاندروفر. وافق الاميركيون في نهاية الامر على ان يجلس الرجل الذي اكد مرارا انه احب الحياة العسكرية في المقعد الأمامي في مركبة «هامفي» العسكرية.

وصل النقيب الى القصر في تمام الساعة الخامسة، ولمدة بضع دقائق لم يكن هناك فيما يبدو شخص لاستقباله، لذا اضطر للانتظار داخل السيارة وهو يدخن وينظر الى مغيب الشمس وهو يستمع الى صوت أذان صلاة المغرب من احد المساجد المجاورة. استمر الانتظار لبضع دقائق قبل ان يظهر الملازم برايان ويرتز ليفتح النقيب باب سيارته وينزل وهو يهم بقفل ازرار سترته فيما مد حقيبة متعلقاته الشخصية الى القيسي. صافح اللواء العراقي السابق الملازم ويرتز وتوجه الى داخل القصر دون ان ينظر الى الوراء.

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»