الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه يرفضون تسمية دعوتهم بـ «الوهابية» تجنبا لمفهوم تقديس الأفراد

تأثير دعوة الشيخ لم تقتصر على الجزيرة العربية ففي السودان نزع المهدي رداء الصوفية ودعا للعقيدة السلفية

TT

ان مصطلح «الوهابية» في وقتنا الحاضر يقصد به التعريف بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي المنشأ، الذي تحالف مع امراء آل سعود لبث دعوة التوحيد في الجزيرة العربية. لقد اطلعت على موضوع عن كتاب «تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية» للدكتور محمد بن سعد الشويعر، وذلك في صفحة الدين بجريدة «الشرق الأوسط» يوم الجمعة 2 مايو (أيار) الحالي، حيث حاول عارض هذا الكتاب تبيان الفارق الفكري والتاريخي بين دعوتين يطلق عليهما عنوان «الوهابية»، واحدة نشأت في المغرب والاخرى في الجزيرة العربية، لكني احسب ان «الوهابية» المغربية لم يكن لها شأن يلفت النظر اليها في التاريخ الاسلامي الحديث.. لهذا اردت بمقالي هذا ان ازيل الالتباس بصورة اوضح واقطع.

* المنشأ وصاحب الدعوة

* ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في اسرة نجدية عام 1703 في فورة الحكم العثماني للبلاد الاسلامية، الذي انشغل بالفتوحات في شرق اوروبا ومنطقة البلقان دون اكتراث بما آل اليه حال المسلمين في منطقة منشأ الاسلام من جمود فكري وانحراف عن ابسط اوليات التطبيق العملي للاسلام، مما اوجد حالة من القلق عند بقية اصحاب الضمائر الحية التي تظن انها من المواعين التي وعد الله عز وجل ان يحفظ فيها رسالته من الضياع الى يوم المعاد. هذه الحالة من القلق هي التي ساقت اسرة محمد بن عبد الوهاب الى الحرص على تعليم ابنها حقائق الدين عند هذه البقية السلفية في نجد. وحفظ الابن القرآن وتبحر في علومه وعلوم السنة المطهرة والتزم بعقيدة التوحيد واوغل في علومها واكتشف البون الواسع بين ما عرف وما يجري في واقع حياة الناس في نجد وما يأتيه من اخبار ما وراءها في جزيرة العرب وبقية ديار المسلمين من انصراف الى القشور: فهم بدلا من معرفة ربهم والالتجاء اليه على مذهب الاوائل وقعوا في ممارسات اهل الجاهلية من تقديس الاشخاص والآثار العرضية والمعنوية طلبا لمرضاة الله والتقرب اليه فبنوا القباب على الموتى واتخذوا مشايخ يسألونهم في كل ما ينبغي ان يسألوا ربهم، من اخصاب الارحام وزيادة الضرع واخضرار الارض، وزادوا على ذلك ان توهموا عند مشايخهم معرفة الغيب ومشاركة الله عز وجل في تصريف شؤون الكون وذلك ادب الانحراف الذي ماجت به بلاد الاسلام في تلك الفترة من منتصف القرن الثامن عشر الميلادي.

* التصدي للمسؤولية

* ووجد محمد بن عبد الوهاب، ان مسؤوليته العقائدية والعلمية تدعوه الى النهوض لمواجهة انتكاسة معاصريه من المسلمين بقوة الحجة في الحوار والمناظرة وجدية العمل لتدمير الاعراض المادية التي صرفتهم عن الالتجاء المباشر لربهم. وكانت اول خطاه بعد قناعته الشخصية بما علم ان اشتغل بالتدريس وبالقضاء ليصحح العقائد بالتدريس ويزيل بقوة القضاء ما يفسد ممارساتهم وبحكمه يلزمهم بما تصحح عقائدهم وممارساتهم الدينية وعلاقاتم الاجتماعية وجعل مركز ذلك اليقين الثابت بان الله وحده هو المتصرف في شأن الانسان وان معرفة الانسان لهذه الحقيقة تجعل محور الحياة كما يريدها الاسلام من مساواة في المسؤولية الفردية والجماعية وجعل وسيلة هذا الاصلاح الجهاد المتدرج من الكلمة امرا بالمعروف ونهيا عن المنكر واستعمال السلطة القضائية لبسط سيادة الحدود الشرعية، وذروة هذا التدرج هي العمل باليد مع الجماعة لازالة ما تستعصى ازالته بالكلمة والقانون انفاذا لقاعدة السنة المطهرة. من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، دون ان يتردى او يرضى باضعف الايمان، وكان هذا هو جوهر الدعوة التي اعلنها الشيخ محمد بن عبد الوهاب واشتغل بتجنيد الناس لها، كل في حدود طاقته دون مجاملة في جوهرها من عودة للعقيدة كما كانت عند السلف الصالح.

* شيوع الدعوة

* وشاعت الدعوة في الجزيرة العربية وبقية الاملاك العثمانية وادرك الناس ان هناك تيارا اصلاحيا جارفا يجتاحهم فتعارفوا على تسميته بـ «الوهابية» ولم يقبل المؤسس وتلاميذه المعاصرون واللاحقون بهذه التسمية لانها ارتداد لمفهومات تقديس الافراد من علماء التقليد والمتصوفة وآخرين دجالين، وكان الشيخ وتلاميذه يصرون على تعريف دعوتهم وانفسهم بانهم اهل التوحيد وجماعة العودة للعقيدة كما كانت في عهد النبوة.

* النتائج الباهرة

* وفي نظري ان الدعوة بهذا الوضوح في المعنى ومنهج العمل المباشر وصلت الى النتائج الباهرة التالية:

اولا: وضعت المجتمع المعاصر لها وما بعده على حقيقة بينة من امر انحرافه عن اهم اصول الدين وهي معرفة الله عز وجل ورد الامور كلها اليه، وان هذه العقيدة بهذا المعنى تعيد التوازن العادل لشؤون الناس السياسية ومعاملاتهم الاقتصادية وعلاقاتهم الاجتماعية وهي بهذا المعنى ـ كذلك، ثورة شاملة على كل انواع الظلم والفساد وعلى استئثار البعض بالمصلحة العامة وحقوق الناس، ثورة تشق طريقها الى الاصلاح بالكلمة وسيلة للتوعية، وبالعمل وفق مصطلح الجهاد وقتا ومالا ونفسا ان اقتضى الحال ذلك، وفي هذا المحك انكشف اصحاب المصلحة في بقاء المجتمع جاهلا بحقائق الدين ومستسلما لاستغلالهم فجندوا امكاناتهم للقضاء على هذه (الفتنة في نظرهم) في مهدها بقوة القانون العثماني والخديوي وتعدوا ذلك الى العمليات العسكرية لمحوها.

ثانيا: ولم يكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب غافلا عن احتمال تطور الامور لهذا الحد فاستبقهم الى قبول عرض بالتحالف من امراء آل سعود الذين عاصروه لانهم كانوا ـ بدورهم ـ يجاهدون لازالة التشرذم الاقطاعي المحلي المتحالف مع الاتراك العثمانيين باسم الخلافة الاسلامية، مشترطا (الشيخ) ان يكون تحالفا قائما على الرغبة الصادقة في تحكيم عقيدة الدين الصافية وما تقتضيه من ممارسة في حياة الناس ابتغاء مرضاة الله دون انتظار عرض من عروض الحياة الزائلة.

ثالثا: وتكالبت على الدعوة قوى الظلام تحت لواء ابراهيم باشا بن محمد علي باشا والي مصر ومساندة الخلافة العثمانية لسحقها، ولكن ما جرى من عمليات تدمير عسكرية اشعل اوار نارها في عدة اماكن اخرى في دولة الخلافة على مستويات مختلفة وان تأخر بعضها قرنا من الزمان.. ففي السودان نزع محمد احمد المهدي رداء الصوفية عام 1885 ودعا السودانيين الى العودة للعقيدة السلفية ورفع راية الجهاد لمنازلة الاتراك الظلمة.

وفي ليبيا نشطت الحركة السنوسية في انشاء زوايا تعليم القرآن والسنة وعقيدة التوحيد الصحيحة باسلوب هادئ هيأ المجتمع الليبي لحالة الجهاد التي قادها المعلم الشيخ عمر المختار ضد المستوطنين والاستعمار الايطالي.. وفي المغرب والجزائر اتسعت حركة العودة للعقيدة السلفية وحفظ القرآن والسنة وعلومهما والتمسك باللغة العربية مما مهد لثورة الريف الجزائري بقيادة الشيخ عبد القادر الذي اشتهر باسم الامير عبد القادر، امير الريف، كما مهدت حركة التنوير الديني السلفي لتمرد الملك محمد الخامس على التدخل الاستعماري الفرنسي فيما بعد.

وبهذا اشعل التحالف بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب وامراء آل سعود جذوة ثورة دينية انتظمت الخلافة الاسلامية على مدى قرن كامل بعد محاولة تدميرها في الجزيرة العربية.

رابعا: وانتهجت ثورة ابن عبد الوهاب نهجا جديدا ـ في وقتها الاول ـ هو انه لم يكتب كتبا وابحاثا مطولة يثقل استيعابها على الانسان وتستعصي متابعة ما فيها ويتعذر نسخها، بل كان يكتب منشورات قصيرة تصحح العقيدة والعبادة وتوجه الى المطلوب عمله ويسهل نسخها وتوزيعها على كل من تقع في يده وبهذا يسهل انتشار الدعوة وهو نفس الاسلوب الذي اقتبسه ـ فيما بعد ـ محمد احمد المهدي في السودان اذ كتب اكثر من الف ومائتي منشور وخطاب موجها للافراد والاعيان والمشايخ والحكام العسكريين والقواد العسكريين الانجليز والنمساويين والايطاليين الذين كانوا في خدمة الاتراك مصححا العقيدة والعبادة والممارسة الدينية وقد استنسخ الناس منشوراته، بل حفظوها عن ظهر قلب.

وكانت ابرز سمة في منشورات الشيخ محمد بن عبد الوهاب انه استفز العلماء المقلدين من اتباع مسؤولي الخلافة العثمانية الذين يفتون لهم بما يبرر تجاوزهم لعقيدة التوحيد وحدود احكام الاسلام ليبرزوا لمناظرته وحواره فيكشف ضعف علمهم بالدين، واتخذ محمد احمد المهدي (في السودان) نفس الاسلوب فكان يشير اليهم بـ «علماء السوء» و«علماء السلطان» و«خدام الاتراك الظلمة».

خامسا: ونشط الشيخ محمد بن عبد الوهاب حركة الدراسة والتنقيب في علوم القرآن والسنة لاستخراج الاحكام المتواترة الثبوت عن السلف واستخلاص الاجتهادات المناسبة لما استجد من قضايا، وبهذا رفض الجمود واغلاق باب الاجتهاد، وقال في كتابه لاحد علماء الحسا: جزمتم انه لا ينتفع بكلام الله وكلام رسوله الا المجتهد معترفين بالعجز. وكتب الى الشريف غالب يقول: فان كانت المسألة اجماعا فلا كلام وان كانت مسألة اجتهاد فمعلومكم انه لا انكار في مسائل الاجتهاد، وهكذا فتح باب الاجتهاد على مصراعيه لكل قادر عليه وملتزم بشروطه، وعلى رأسها حفظ القرآن ومعرفة صحيح السنة وفقه علوم اللغة وفقه علماء السلف.

وجاء من بعده محمد احمد المهدي فالغى المذاهب والفرق الصوفية ومنع كل كتب الافتراضات والالتفاف حول الاحكام المتفق عليها والزم الناس باعتماد الكتاب وصحيح السنة.. وعندما سئل في ذلك من بعض العائدين من الازهر رد عليهم بقوله: لكل آن ومكان رجال وهم رجال ونحن رجال (هذا الاوان).

ولا ابالغ ان قلت ان ثورة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لاعادة الناس لحقيقة عقيدة التوحيد وتحالفها مع ثورة امراء آل سعود في التصدي لظلم اهل السلطان المستظلين بحمى الخلافة العثمانية قدما اعلى واغنى ميراث لاحياء صحيح الدين وتحقيق وعد الله عز وجل بحفظه، ومن هذا الميراث الذي كان ثمنه جهداً وعرقاً وجلداً وجهاداً بالغالي من النفوس والاموال والتضحيات ـ وعلى قواعده نبتت غرسة الصحوة الاسلامية الحالية منذ اوائل القرن العشرين واستعاد هذا التحالف عافيته على يد الامير (الملك فيما بعد) عبد العزيز آل سعود وتبعته زمرة شيوخ المجاهدين امثال عبد القادر امير الريف وعمر المختار سيد شهداء ليبيا وعبد الله حسن شيخ مجاهدي الصومال الذي اتهم زورا فألصق به لقب «الملا المجنون» لانه دوخ جيش الامبراطورية البريطانية لاكثر من عشرين سنة في هضاب القرن الافريقي.

* وزير ودبلوماسي سوداني سابق