هل كان باستطاعة وامض احمد رجاء، ان يرفض استضافة السكرتير الخاص لصدام حسين عندما اصطحبه الى منزله المتواضع احد الاصدقاء؟ لا، لم يكن بمقدوره ان يقول لا. قال وامض، 22 سنة، بقليل من الاستخفاف: «تقاليدنا العربية تفرض علينا ان نستضيفه».
وقد قاد وامض، سكرتير الرئيس المخلوع، الى غرفة الاستقبال البسيطة، التي لا يتعدى اثاثها ابسطة رقيقة يجلس عليها الضيوف وجهاز تلفزيون مفتوح على قناة اخبارية. كان ذلك يوم الاحد الماضي. وصباح يوم الثلاثاء، في حدود الواحدة بعد الظهر، اقتحم المنزل عدد يتراوح بين 30 و40 من الجنود الاميركيين وألقوا القبض على عبد حميد حمود التكريتي، الساعد الايمن لصدام حسين والرجل الرابع على قائمة المطلوبين من قادة النظام العراقي السابق.
ووقوع حمود في ايدي القوات الاميركية، جاء نتيجة حملات تفتيش مكثفة حول منطقة تكريت، والقرى المجاورة، بما فيها القادسية التي قبض فيها على حمود، والعوجة، مسقط رأس صدام حسين، حيث يتفاخر كل مواطن هناك بأنه من اقرباء الرئيس السابق. ومع ان الاميركيين لا يكشفون للعراقيين اسماء من يبحثون عنهم، فان المقابلات التي اجريت مع بعضهم، ممن اعتقلوا وحقق معهم واطلق سراحهم بعد ذلك، تشير الى ان القوات الاميركية تجدُ في البحث عن صدام نفسه في هذه المنطقة وتأمل في القبض عليه فيها.
ومنطقة تكريت تؤيد صدام حسين بقوة، وهي معروفة بأن تركيبتها قبلية ومذهبها سني وانتماءاتها السياسية بعثية. غالبية الناس في تكريت كانوا يعملون في صفوف النظام، ولا يوجد من لا يتمنى عودة النظام السابق الى الحكم. وهي بالتالي المنطقة المستعدة اكثر من غيرها لتقديم المأوى لصدام. ويمكنه ان يدخل اي بيت من البيوت ويكون واثقا بأن احدا لن يشي به او يكشف سره.
شعارات الحائط التي تغطي شوارع تكريت، والتي كتبت حديثا، باللون الاخضر، تكشف كل شيء. احد هذه الشعارات يقول:
«التهاني لك سيدي، في عيد ميلادك، رغم الظروف الحالية». ويقول شعار آخر: «ما زال صدام حيا، ايها الكلب بوش». اما اخطر هذه الشعارات فهو التالي: «كل من يتعامل مع الاميركيين مصيره الموت».
ومع ان احد سكان المنطقة لعب دورا ما في القبض على حمود، فان تحقيقات الاميركيين مع السكان المحليين تبدو بلا طائل. قال مروان عدنان نصيري، 37 سنة، وهو محام يتحدث الانجليزية بطلاقة: «انهم يوجهون اسئلة سخيفة من نوع: هل رأيت صدام حسين؟ اين رأيته؟ والاجابة التي يتلقونها على الدوام هي: لا. لم أره».
وقال مروان ان ستة او سبعة من اقاربه تعرضوا للاعتقال، وان بعضهم اطلق سراحه. واضاف وهو يبتسم ابتسامة لطيفة: «لو كنت اعرف مكان صدام، لما اخبرتك. لماذا؟ لانك اميركي».
الرأي الذي يعبر عنه مروان، والذي يشاركه فيه غالبية سكان تكريت، هو ان «النظام السابق افضل نظام. وغالبية العراقيين يحبون صدام، لانه حفظ لنا كرامتنا».
وتحدث رشيد محمود محمد، بحرارة وحماس شديدين عن الرئيس السابق وهو يرقد على احد الاسرة في مستشفى تكريت الغني بمعداته الجيدة، التي وفرها النظام السابق. وكان رشيد يتماثل للشفاء من هجوم قام به خاطفو سيارات اوقعوا به أربعة جروح بعد ان اطلقوا عليه الرصاص. ويبدو ان حبه لصدام لم يتأثر مطلقا حتى بعد ان تعرض للسجن من قبل بعض اعضاء اسرة صدام. ولكنه في نفس الوقت يرتاح للاميركيين وقد زاره بالمستشفى، قائد القوات الاميركية بتكريت.
إلا انه يعتبر صدام من افراد عائلته، وقال بابتسامة عريضة: «طبعا سأستضيفه اذا جاء الى منزلي. كل اهل تكريت يحبون صدام. ولكنهم لا يحبون اقاربه لانهم يأتون افعالا قبيحة باسمه».
في نفس الحي الذي القي القبض فيه على سكرتير صدام حسين، قامت القوات الاميركية بتفتيش ثلاثة منازل تخص اعضاء الاسرة الممتدة للنصيري، وذلك قبل ساعات فقط من القبض على حمود. لم يجد الجنود الاميركيون اي شيء، لم يجدوا حتى اسلحة، واعتذروا للمضايقة التي سببوها لأصحاب المنازل. ولكن الحادثة عمقت كراهية مروان للاميركيين وتمسكه بالقائد المخلوع. قال وهو يتحدث من غرفة استقبال اسرته المؤثثة على افضل ما يكون، والمظلمة نوعا ما لان الستائر كانت مسدلة منعا لأشعة الشمس الحارقة: «وعدنا الاميركيون بالحرية، ولكن هناك غياباً كاملاً للامن حاليا. كما انهم يحرموننا من حريتنا عندما يقتحمون بيوتنا في منتصف الليل ويخيفون اطفالنا». قال ذلك وهو ينظر الى مكيف الهواء الذي يعمل بصورة متقطعة، لان التيار الكهربائي يعمل هو ايضا بصورة متقطعة.
بعد ان انتشروا في الشوارع الترابية لقرية الدرة، الواقعة على بعد حوالي 30 كيلومتراً الى الشمال من تكريت، كان الجنود الاميركيون يوجهون الاسئلة كذلك، حسب شهادة نافع، 45 سنة، وهو عامل في مصنع تنقية المياه القريب من هناك، والذي اعتقل لمدة 23 يوما. ولم يشأ ان يذكر اسمه بالكامل. ويتحدث نافع بتحفظ عن فترة اعتقاله، لكنه ابدى دهشته من طبيعة الاسئلة التي وجهها المحققون اليه والتي غطت مواضيع كثيرة، مما يوضح مدى اتساع اهتمامات الاميركيين في هذه الفترة التى اعقبت الحرب. وقال: «سألوني: هل تعرف اي شخص أتى من ايران الى العراق؟ هل تعرف اي شخص حضر من سورية الى العراق؟ هل تعرف اي شخص في لواء البدر؟».
جدير بالذكر ان «لواء البدر» هو القوة المسلحة التابعة لمحمد باقر الحكيم، القائد الشيعي الذي عاد في الآونة الاخيرة من المنفى بايران والذي يقيم حالياً في النجف الاشرف بجنوب العراق. لكن الاسئلة التي توجه الى اولئك الذين اعتقلوا من منطقة تكريت، تركز اما على مكان اختفاء صدام حسين، او منظمة «فدائيي صدام»، التي يعتقد انها تقف وراء الهجمات الاخيرة على الجنود الاميركيين.
ولكن مواطني تكريت، مثل وامض وابن عمه الذي اعتقله الاميركيون مع سكرتير صدام حسين، يشعرون ان الاحداث اصبحت اكبر من قدراتهم على التحكم. وعندما فتحوا بوابة منزلهم الامامية لجارهم الذي جاء معه سكرتير صدام، كادوا لا يتعرفون على الرجل الذي رأوه كثيرا على شاشة التلفزيون ولكنهم لم يقابلوه شخصياً. وقد كان يظهر في الصور التلفزيونية بزيه العسكري وقبعته السوداء. كان رجلا ملتحيا، يرتدي زيا عراقيا بسيطا ويضع على رأسه قبعة عراقية. قال وامض: «لم يكن معه غير حقيبتين ومسدسه. لم يكن معه أي شيء آخر».
ولكن الحقيبتين كانتا مكتظتين بالدولارات الاميركية. وقد قضى حمود الليلة الاولى في حجرة الاستقبال، نائما على الارض. ولكنه انتقل الى حجرة بأعلى المنزل، وهي حجرة قديمة الحيطان، بها سرير ومرآة وخزانة ملابس ورف لتعليق الملابس. ويضيء هذه الحجرة مصباح كهربائي وحيد. وقد وضع حمود حقيبتيه فوق الدولاب. وقال وامض: «كان مرتاحا، لانه لم تعد له وظيفة كبيرة. كان يشاهد التلفزيون ويأكل معنا».
ولكن عندما حل صباح الثلاثاء عرف وامض ان النهاية قد أزفت، حتى قبل وصول الجنود الاميركيين الى منزله. قال وامض، وهو جندي سابق عمل سكرتيرا في مستشفى عسكري: «عندما سمعت اصوات طائرات الهليكوبتر فوق رأسي عرفت انهم جاؤوا في طلبه».
قال انه ارتدى سرواله وقميصه حتى يكون جاهزا. وبعد لحظات فقط اقتحم الجنود المنزل، وقبضوا عليه واسقطوه على الارض.
ولدى سؤاله عما اذا كان حاول حمايته، قال وامض: «كيف يمكن ان احميه؟». قال ذاك وهو يشير حوله وكان الجنود ما يزالون يحيطون بمنزله. وعندما صعد الجنود مسرعين الى الغرقة التي كان بها سكرتير صدام حسين، قذفوا قنابل صاعقة احدثت صوتا مدوياً عند انفجارها فصارت الارض كلها غارقة في السواد. وقال وامض: «سألوني عدة مرات: اين ابنا صدام؟ هل تعرف عبد حمود التكريتي؟ لماذا لا تحدثنا عن مكان اختبائه؟».
وعندما وجه الاميركيون هذه الاسئلة عدة مرات، اقتنعوا ان وامض وابن عمه بريئان، فأطلقوا سراحهما بعد الاعتقال. ولكن خمسة من اقاربهما ما زالوا في الحبس.
وقالت كافية عوض، كبيرة افراد العائلة، ان حمود وصل ليلة الاحد، مضيفة ان صديقا قديما لزوجها قال له «ان لديه صديقاً يريد البقاء معه، لان منزله تحت التشييد». وقالت ان حمود، الذي كان يتجول بين القصور الرئاسية في ما مضى، قضى ليلة الاحد على الارض وتناول وجبة من الزبادي وكان يشكو من الازمة. واضافت: «استسلم مباشرة عندما وصل الاميركيون».
وقال كبار المسؤولين في القوات الاميركية ان حمود كان مهموما ووحيدا، وان وضعه تدهور الى درجة انه صار يستجدي الخدمات من السكان المحليين، مثل ايوائه حتى ولو لليلة واحدة، ولم تكن لديه وسائل انتقال خاصة او اموالا او اسلحة «يؤبه لها»، حسبما افاد ضابط عسكري اميركي كبير.
الحالة التي وجد عليها سكرتير صدام حسين، جعلت القوات الاميركية تعتقد ان الهاربين من عائلة صدام ودائرته الداخلية، يعيشون في اوضاع غير مستقرة ويائسة، وان اوضاعهم هذه تتفاقم يوما بعد يوم. ولكن حالته تشير كذلك الى امكانية وجود كبار القادة البعثيين داخل العراق وتحت سمع وربما بصر القوات الاميركية.
وقال الميجور براين ريد، ان الغارة الصباحية قام بها حوالي 30 جنديا، تصحبهم طائرات هليكوبتر، وعدد غير محدد من جنود القوات الخاصة. واضاف ان الغارة نفذت بعد اسبوع من المتابعة اثر معلومات تفيد بأن حمود موجود بالقرب من مسقط رأسه في تكريت.
وقد ظل حمود لأكثر من ثلاثة عقود اقرب مساعدي صدام وكان رئيس جهاز الامن الشخصي للرئيس طوال هذه الفترة. وقالت كافية عوض ان حمود وصل الى منزلها يوم الاحد، مع رجل اسمه احمد دلف، تطارده الآن القوات الاميركية. وقالت ان زوجها احمد رجاء، لم يتعرف في البداية على حمود، الذي كان يرتدي دشداشة بيضاء وغطاء للرأس. ولكن الاسرة تعرفت على ضيفها في اليوم التالي. وقالت: «اصابنا ذعر شديد. زوجي كان خائفا. وكان يقول: انا في مشكلة ضخمة ووضع صعب. وكنا نتمنى لو انه يغادر مباشرة».
وقالت كافية ان اسرتها لم ترتكب أي خطأ. وأوضحت ان زوجها عمل مهندسا لاحدى طائرات صدام الخاصة، ولكنه خالفهم ففصلوه من العمل الحكومي عام .1989 وقال ريد ان المعلومات التي حصلوا عليها من السكان المحليين كانت تشير الى ان «شخصية كبيرة توجد بذلك المنزل».
في البداية لم يعرف الجنود الاميركيون انهم قبضوا على (اس الديناري) في حزمة اوراق اللعب التي صممتها القوات الاميركية للدلالة على المطلوبين من المسؤولين العراقيين. وقالت كافية عوض ان الجنود سألوا حمود عما اذا كان يعرف اين يختفي صدام وابناه، وحمود. ومن الواضح انهم لم يكونوا يعرفون انهم يستجوبون في تلك اللحظة ذات الرجل الذي يبحثون عنه. ولكنهم سرعان ما تعرفوا عليه عند مقارنة الصورة التي يحملونها معهم.
وهكذا لم تضع سدى الايام التي قضتها القوات الاميركية في تكريت. ففي صباح الاربعاء، تحركت القوات الاميركية، بناء على معلومات تلقتها، وهاجمت مزرعة الى الجنوب من تكريت، بالقرب من العوجة، القرية الصغيرة التي ولد فيها صدام. وحاصر الجنود المزرعة واعتقلوا رجلين كانا يحاولان الهرب، واثنين آخرين كانا يحاولان الوصول الى مكان اسلحتهما. وبعد تفتيش المنزل والعثور على بطاقات شخصية مشبوهة، وبعض الاموال والاسلحة الخفيفة، عثر اللفتنانت كريس موريس على حفرة حديثة في الساحة. وقد عثرت القوات على اكثر من 8 ملايين دولار نقدا، ملفوفة بعناية في حزم من ذوات المائة دولار. وعندما حفروا أعمق عثروا على مجوهرات مشغولة بالماس والياقوت والزمرد، يقدر ثمنها بمليون دولار. كما عثروا في منازل مجاورة على اجهزة للرؤية الليلية ورشاشات ومتفجرات وكواتم للصوت وبنادق قناصة. ووجدوا وسط المجوهرات المدفونة بطاقة شخصية باسم: ساجدة خير الله طلفاح، زوجة صدام الاولى.
* خدمة «لوس انجليس تايمز» و«واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»