بيتان من الشعر.. وموقفان!!

عبر الحمداني والمصري عن الزاوية التي ينظر كل منهما عبرها الى الوجود

TT

عبر الحمداني والمصري عن الزاوية التي ينظر كل منهما عبرها الى الوجود. هناك من يكتب ديوانا من الشعر كاملا ولا يتمثل ببيت واحد منه احد، وهناك من يكتب قصيدة واحدة يتداولها الناس في حياتهم، ويعدونها من عيون الشعر، بل إن هناك بيتا واحدا من الشعر يكون حاضرا في حياة الناس وقريبا الى تجاربهم، ومعبرا عن قضاياهم واهتماماتهم. ولعل هذا ما يشير اليه مصطلح (بيت القصيد) في القصيدة العربية، وهو البيت الذي يشكل ابرز ما في القصيدة، وأكثر عناصرها خلودا.

لنتناول هذين البيتين، الاول من شعر ابي فراس الحمداني وهو:

معللتي بالوصل، والموت دونه

اذا متُّ ظمآنا، فلا نزل القطرُ!!

والثاني لأبي العلاء المعري، وهو:

فلا هطلت عليَّ، ولا بأرضي

غمائم ليست تنتظم البلادا

ولنتساءل: لماذا يسجل هذان البيتان حضورا في اذهان المتلقين وما دلالة كل منهما على العلاقة بالموقف من الحياة والانسان؟!

ولسنا امام مفاضلة بين الشاعرين العربيين، فكل منهما علم من اعلام الشعر في العصر العباسي الثاني، ولكل منهما اضافته الفنية المتميزة في ذلك الشعر، لكننا نريد ان نتأمل في موقف كل منهما من الذات والآخر، وما يمثله من سعة الموقف أو ضيقه، ومن سموه او هبوطه، ومن تعلقه بالمثل العليا الخالدة، أو المصالح الذاتية الزائلة. وما من شك في ان الشاعر انسان بلحمه ودمه، وليس ملكا رسولا، أو كائنا يستبطن غير الاحاسيس التي يستبطنها البشر.. فهو يقوى ويضعف، ويسمو ويهبط، ويصدق حتى يقرب من نبي، وينافق ويداور حتى يقرب من شيطان!! هذا بشكل عام، ولا نشير به الى اي موقف من موقف الشاعرين.

لقد تحدث النقاد عن مقاييس عدة في تقديم الشعر، منها ما يرجع الى الفكرة، ومنها ما يرجع الى العاطفة، ومنها ما يرجع الى الموسيقى والتصوير، ونود ان نقف هنا عند موقف كل من الشاعرين من الحياة والناس، وما يتعلق بهذا الموقف من احاسيس وعواطف. فكلما كانت هذه الاحاسيس والعواطف سامية ونبيلة متعلقة بأهداف الانسان العليا، اكتسبت الخلود، وتركت آثارها في النفس البشرية التي تتوق الى هذه المثل، بخلاف العواطف التي تعبر عن الهموم الصغيرة، أو الغرائز المتدنية، أو تنظر الى الامور من خلال ثقب الابرة، أو من خلال الذات والأنا التي تتشرنق حول نفسها، حتى لتنسحب من الوجود، أو تحاول ان توظف الوجود كله ليصب في نهرها وحده، وقد يهبط الموقف الى الدرجة التي لا يتردد فيها الانسان من ان يحرق بيت جاره من اجل ان يسلق بيضته، كما يقول الالمان!! وهكذا يسمو الموقف الى علو، ويهبط احيانا الى لا قرار!!

فما نصيب بيتي ابي فراس وابي العلاء من هذين البعدين، بعدي السمو والهبوط، والصعود والنزول؟!

ابو فراس يتناول الامور من قرب.. ومن خلال هذه الذات، ومرحلية وجودها في هذه الحياة، وقصر فترتها.. انه يريد الثمار آنية، يتذوق طعمها، وينفعل بجمالها.. ولا شيء آخر غير هذا!! فما قيمة هذا السيل الذي تمرع الارض به وتتزين وتنبت من كل زوج بهيج اذا لم اكن انا ممن يرى ويتذوق ويستمتع بهذا الوجود وهذا الجمال؟!

اذا مت ظمآنا، فلا نزل القطر!!

بؤرة الاهتمام هي (أنا).. أنا أو الطوفان.. واذا مت دونما قطرة ماء، فـ (ان شاء الله ما نزل المطر!!)، بهذه النظرة (الأبيقورية) النفعية الخاصة، ومن هذه الزاوية الضيقة كانت نظرة ابي فراس في هذا البيت على الاقل. قد تقول انه انسان بكل ما يعتريه من احاسيس تتفاوت حسب الضغوط والظروف، فأقول لك نعم، ولكننا نرصد هذه الاحاسيس ونسجل درجات صعودها عند (الانسان)، وهبوطها عند آخر.. (الترمومتر) يسجل في اجهزتنا الراصدة، ولسنا بعد ذلك شرطة أو قضاة سوء!!

ونرصد هذه الاحاسيس عند (انسان) آخر.. مثل ابي العلاء، لنجد ذلك السمو، والاريحية، واتساع الافق، والانسانية بكل معالمها التي تشرق على الوجود.. فنجد (الدعاء) من نمط آخر.. فليس هو من قبيل (ان شاء الله ما نزل المطر على الدنيا اذا لم اشرب منه)، بل هو من نوع (ان شاء الله ما نزل عليَّ الغيث، اذا لم يسقِ ارض الناس كلها، واذا لم يشرب منه الناس معي، واذا لم تعم فرحتي وفرحة الوجود كله في مهرجان واحد..

فلا نزل عليَّ ولا بأرضي

غمائم ليس تنتظم البلادا

بهذه الروح (الخُلُقية) اذا صح التعبير يتفاعل ابو العلاء مع الوجود من حوله، ويعد نفسه جزءا منه وليس عالما مستقلا عنه، يبحث عن (القوانين) الخاصة به، بل إن هذه القوانين تتناغم مع نشيد الحياة كلها بما فيها من نفوس واشياء وافكار..

وهذا الموقف من لدن ابي العلاء اقرب الى مقولة (اخلاقية الفن) وهدفيته، وصلته بالحياة، من دون معاداة الذات او رفض تباريحها واشواقها وهمومها الصغيرة.. يقول بعض النقاد (ان الادب الراقي هو الذي يثير فينا انفعالا وميلا الى الحياة الراقية، ولن يكون الادب راقيا الا اذا كانت له صفة اخلاقية، وكان قادرا على تنمية طبائعنا واثارة مشاعرنا الصحيحة لا المريضة) في النقد الادبي، د. عبد العزيز عتيق، ص 114.

لقد مثل لنا بيتا الحمداني والمعري موقفين متضادين في النظر الى الحياة والانسان، وعبر كل منهما عن الزاوية التي ينظر من خلالها الى الوجود.. وقد رأينا حجم هذه الزاوية، وضيقها أو سعتها لدى هذا الشاعر أو ذاك.. ويهمنا ان نتملى المواقف، وان (نتعلم) من الشعر، كما نتعلم من الدين والفلسفة والعلم.. ولكن طريقة التعلم من الشعر.. انما تكون عبر هذا التفاعل القلبي، والنغم الموسيقي الذي (يموسق) الفكرة ويشحنها بالمعنى والدلالة.