الجيش الجمهوري الآيرلندي.. أو الصراع المذهبي في أوروبا

TT

يقول البروفيسور ريتشارد انكلش، مؤلف كتاب «كفاح مسلح: تاريخ منظمة الجيش الجمهوري الايرلندي»، انه على خلاف بعض الجماعات الاسلامية المتطرفة، فإن منظمة الجيش الجمهوري الايرلندي لها هدف واضح وتستخدم تاكتيكات معروفة، واغلب اعضائهم يتحدرون من قاعدة جغرافية صغيرة وينتمون الى زمر، حيث تقاليد العنف الجمهوري كانت قوية. وفي كثير من الاحيان يمكن بسهولة القبض على عناصر هذا الجيش او اختراقهم بشكل يسير نسبيا. ومع ذلك فإن الجيش الجمهوري الايرلندي لم يزل يصعب دحره.

يستدعي الكاتب جملة من الحقائق والثوابت في كتابة موضوعه ويهدف الى «عرض اكمل ومعالجة اوثق لواحدة من ابرز الحركات الثورية العالمية»، كذلك فقد اعتمد على كم هائل من المصادر بحيث ان فصلا واحدا من الكتاب امتدت هوامشه الى حوالي 230 مصدرا. وكما يذكر الكاتب نفسه فإن الكتاب «اعتمد على اوسع قدر من المصادر التي استخدمت على الاطلاق في دراسة اهداف لا زالت قائمة».

والكاتب انكلش الذي هو استاذ الدراسات السياسية في «كوين يونفرستي» في بلفاست يمتلك خلفية بروتستانتية ايرلندية. انه يهدف من دراسته هذه ان يفهم موضوع الجيش الجمهوري الايرلندي ويطمح بقوة لأن يكون عادلا في فهمه وانصافه له. لهذا فقد منح في كتابه لرجال الجيش الجمهوري الايرلندي مساحة واسعة من الحرية لكي يعبروا عن آرائهم وتسويغاتهم وشروحاتهم.

تشكل الجيش الجمهوري الايرلندي عام 1919كقوة عسكرية غير رسمية تهدف الى تحقيق الاستقلال لايرلندا. في ذلك الوقت فإن ايرلندا الحالية وايرلندا الشمالية شكلتا بلدا موحدا يحكم من قبل بريطانيا. ان اغلب سكان ما يطلق عليه الآن بايرلندا الشمالية كانوا من البروتستانت واغلب ما يطلق عليه الآن بايرلندا كانوا من الكاثوليك.

اعتزمت الحكومة البريطانية ان تبقي ايرلندا متحدة مع بريطانيا الا انها تدير شؤونها الداخلية بنفسها. وقد عارض هذه الخطة اغلب البروتستانت الذين يعيشون في شمال شرقي منطقة اولستر لأنهم لم يكونوا يريدون ان يصبحوا اقلية بين أمة من الكاثوليك.

عام 1919بدأ الجيش الجمهوري الايرلندي بحرب عصابات للاستقلال عن بريطانيا، فأخذ يثير الاضطرابات لانهاك الشرطة العسكرية من خلال وضع الكمائن وشن الغارات المفاجئة. وفي عام 1920حررت الحكومة البريطانية الى الحكومة الايرلندية قانونا يقضي بتقسيم ايرلندا الى دولتين كل واحدة منها تتمتع بسلطة محدودة من الحكم الذاتي.

ووفق هذا القانون فُصلت الاقاليم الستة الشمال شرقية عن بقية ايرلندا واصبحت تسمى ايرلندا الشمالية. وقد رفضت الاغلبية الكاثوليكية هذا القانون وطالبت بجمهورية ايرلندية واحدة ومتحدة. وهكذا استمرت حرب العصابات حتى يوليو (تموز) 1921، حيث اعلن الحكام البريطانيون والايرلنديون الهدنة واتفقوا على توقيع معاهدة انكلو ـ ايرلندية وقعت في السادس من ديسمبر (كانون الاول) 1921 نصت على ان تتمتع جنوب ايرلندا بالسيادة اي بحكم ذاتي، لكنها تدين بالولاء الى التاج البريطاني، وقد اطلق على هذه السيادة اسم دولة ايرلندا الحرة.

أدت هذه المعاهدة الانكلو ـ ايرلندية الى انقسام الجيش الجمهوري الايرلندي، احدى المجموعات، وهي التي يقودها ميشائيل كولينز قبلت المعاهدة واصبحت جزءا من جيش دولة ايرلندا الحرة. اما المجموعة الاخرى وهي التي يقودها ايمون دي فاليرا والتي تسمى بغير النظامية او السرية فإنها رفضت المعاهدة لأنها لا تمنح الاستقلال التام عن بريطانيا والاتحاد مع ايرلندا الشمالية. بداية عام 1922 نشبت الحرب الاهلية. المجموعة غير النظامية او السرية دُحرت في 1923 الا انها استمرت كمنظمة سرية.

عام 1937تبنت دولة ايرلندا الحرة دستورا جديدا وغيرت اسمها الى Eire، عام 1949 رفضت Eire حالة ولائها الى التاج البريطاني واعلنت نفسها جمهورية مستقلة باسم ايرلندا. لكن ايرلندا الشمالية بقيت متحدة مع بريطانيا. من عام 1956 والى 1962 كان الجيش الجمهوري الايرلندي يشن الغارات بشكل دوري على القواعد والمعسكرات البريطانية في ايرلندا الشمالية محاولا اعادة توحيد ايرلندا مع ايرلندا الشمالية مثيرا الاضطراب والارتباك للحكومتين البريطانية والايرلندية.

اواخر الستينات بدأ الكاثوليك في ايرلندا الشمالية بالاحتجاج على التمييز والتعصب الذي يعانونه تحت وطأة الحكومة البروتستانتية ونشب القتال بين الكاثوليك والبروتستانت وتبنى الجيش الجمهوري الايرلندي قضية الكاثوليك. وعلى اثر ذلك ارسلت بريطانيا قواتها لاعادة النظام وسرعان ما اندلع القتال بين الجيش الجمهوري الايرلندي والجنود البريطانيين.

خلال عام 1969 و 1970 حدث انشقاق عميق في صفوف الجيش الجمهوري الايرلندي حول مسألة الاستراتيجية والتكتيك. المجموعة المهيمنة نتج عنها ما يدعى بالجيش الجمهوري الايرلندي المؤقت. اما المجموعة الاخرى فقد عرفت باسم الجيش الجمهوري الايرلندي الرسمي. وكان لدى الجيش الجمهوري الايرلندي المؤقت اعضاء شباب من المقاتلين الشرسين الذين نفذوا العديد من الهجمات بالقنابل وشنوا الغارات ومارسوا عمليات اغتيال في ايرلندا وفي المملكة المتحدة. اما الجيش الجمهوري الايرلندي الرسمي فقد كان يتألف من اعضاء غير ميالين الى العنف ومن المسنين الذين غالبا ما يقومون بأنشطة اجتماعية مختلفة. ان استخدام العنف من قبل الجيش الجمهوري الايرلندي المؤقت والمجاميع المسلحة الاخرى دائما ما اوقع الفوضى وعطل الحياة في ايرلندا والمملكة المتحدة. وفي عام 1994 اعلن الجيش الجمهوري الايرلندي وقف اعمال العنف الا انه استأنفها عام 1996. وفي عام 1997 اعلن عن هدنة اخرى. وفي سبتمبر (ايلول) من نفس العام بدأت محادثات السلام في ايرلندا الشمالية، حيث اشتركت فيها جميع الاطراف وفي مقدمتها شين فين، وهو الجناح السياسي للجيش الجمهوري الايرلندي. واختتمت المحادثات في اتفاقية تم التصديق عليها من قبل الناخبين في ايرلندا وايرلندا الشمالية. وقد تأخر تطبيق الاتفاقية لأن القادة السياسيين لم يتفقوا على جدول زمني يقوم بموجبه الجيش الجمهوري الايرلندي بنزع سلاحه.

وبغض النظر عن التسلسل التاريخي لمنظمة الجيش الجمهوري الايرلندي فإن هذا الكتاب يلقي ايضا الضوء على كيفية اعتقاد المقاتل بنفسه وبقضيته فيما ينظر اليه الطرف الآخر بمنظار مختلف. ولعل هذا ما يشكل جوهر الكتاب او بالاحرى جوهر تاريخ العملية الفكرية للجيش الجمهوري الايرلندي.

* كفاح مسلح: تاريخ منظمة الجيش الجمهوري الايرلندي

* المؤلف: ريتشارد انكلش

* الناشر: ماكميلان ـ لندن 2003