ناجون من حملة «الأنفال» التي نفذها نظام صدام في كردستان العراق يطالبون بمحاكمات أيضا لزعماء «المرتزقة» الأكراد الذين شاركوا فيها

الكثير من قادة الميليشيات التي كانت موالية للنظام أصبحوا الآن أعضاء في الأحزاب الكردية الرئيسية

TT

كشفت وثائق عثر عليها أخيرا عن ان حملة الانفال ضد الأكراد تم التخطيط لها بعناية وكانت عملية عسكرية منظمة. وقد احتفظ نظام صدام حسين بسجلات تفصيلية، بما في ذلك الاتصالات بين الضباط المسؤولين عن الحملة واسماء الموتى. واوضح براد كلارك المستشار لمكتب حقوق الانسان التابع لقوات التحالف «نعثر على اوامر بالإعدام وقوائم للضحايا. لقد كان العراقيون يوثقون كل شيء يفعلونه. كان سلوكا متعجرفا. لم يعتقدوا على الإطلاق بانه سيمكن لشخص الإطلاع على ذلك».

تجدر الاشارة الى ان آلافا من الاسر الكردية ظلت، لمدة 15 سنة، تنتظر عودة ابنائها. وكانوا يعتقدون أن صدام حسين لا بد أن يسقط، وستفتح السجون وسيعود المفقودون الى بيوتهم. ولكن خلال الأشهر الثمانية منذ سقوط صدام، لم يعد سجين واحد اختفى خلال حملة الانفال عام 1988 حيا. بل يبدو ان الحقيقة بشأن مصيرهم دفنت وسط الرمال في العراق.

وبعد سقوط صدام حسين تم اكتشاف 263 مقبرة جماعية مشتبه فيها، تمتد من الموصل في الشمال الى البادية الجنوبية. وكانت العديد من الجثث ما تزال ترتدي الملابس الكردية الوطنية. ولأول مرة يواجه العديد من الذين نجوا من حملة الانفال الحقيقة المرة: لقد كان ابناء اسرهم المفقودون ضحايا حملة تصفية جماعية ـ تمت بمساعدة متعاونين أكراد ـ وهو ما يعيد الى الاذهان آلة القتل النازية في كفاءتها ووحشيتها. فقد ادت حملة الانفال الى مقتل 100 ألف شخص.

وقد احتفظ بعدد كبير من المفقودين لمدة ايام قبل نقلهم على متن حافلات الى البادية الجنوبية. وهناك اطلق عليهم النار خلال الليل من قبل فرق اعدام ثم دفنوا في قبور جماعية باستخدام الجرافات. ويقدر المسؤولون الاكراد ان 182 الف شخص من بين الاكراد البالغ عددهم 3.5 مليون نسمة، قتلوا خلال الحملة، ولكن لا يعرف احد الرقم على وجه اليقين. وكان العراق قد اعترف بأنه قتل مائة الف في تلك العمليات.

وفي تقرير تاريخي صدر عام 1993 ذكرت جماعة «هيومن رايتس ووتش» لحقوق الانسان ومقرها نيويورك ان الحملة تصل الى حد حملة تطهير عرقي ضد الاكراد. ولكن على العكس من حملة «التطهير العرقي» في البوسنة والهرسك ومذابح القبائل في رواندا في التسعينات، لم تحظ حملة الانفال إلا باهتمام بسيط في الخارج خلال عهد صدام. وبالرغم من دعوات النشطاء في مجال حقوق الانسان، لم يحاكم أي شخص على عمليات القتل ـ سواء في محكمة دولية او في كردستان التي حصلت استقلال ذاتي من العراق في عام 1991 بعدما غزت القوات الاميركية البلاد خلال حرب الخليج. ويدرس المسؤولون الاميركيون والعراقيون، الذين يفكرون في محاكمة اخطر مجرمي الحرب العراقيين، ما اذا كان من الممكن اطلاق عملية مصالحة للكشف عن الانتهاكات في الماضي.

وتجدر الاشارة الى ان حملة الانفال كانت برئاسة علي حسن المجيد ابن عم صدام، الذي قتل آلافا آخرين عندما كان وزيرا للدفاع. واطلق عليه اسم «علي الكيماوي» لاستخدامه الغازات السامة ضد المدنيين الاكراد. وقد اسفرت اشهر حملات علي حسن المجيد الى مقتل خمسة الاف كردي في بلدة حلبجة، بالرغم من انها كانت عملية منفصلة عن الانفال. وهو الآن قيد الاعتقال لدى القوات الاميركية ومن المتوقع ان يواجه اتهامات ترتبط بحملة الانفال وغيرها من الجرائم ضد الانسانية.

وقد تمت تجزئة الحملة بحيث لم يكن بامكان المشاركين فيها ـ من جنود وسائقي الحافلات والعاملين على الجرافات وحرس السجون والذين ينفذون احكام الإعدام ـ معرفة سوى ادوارهم. وقد شاركت في الحملة فرقتان عسكريتان وآلاف من عناصر الميليشيات الكردية التي شكلها صدام ـ الذين يعرفون بين الاكراد باسم «المرتزقة». وكان لهذه الميليشيات دور اساسي في هذه الحملة لمعرفتهم بالمنطقة. واوضح عارف قرباني المتحدث باسم الاتحاد الوطني الكردستاني ومؤلف كتاب «شاهد على الانفال» انه «بدون المرتزقة ما كانت حملة الانفال تأخذ كل هؤلاء الناس. كانوا يعرفون المنطقة وخدعوا الناس».

وقد نقل معظم المقبوض عليهم الى سجن في توبزاوا خارج مدينة كركوك. وتم فصل الرجال والصبية الذين تتراوح اعمارهم بين 14 و50 عن النساء والاطفال والعجائز. وفي الصحراء تم تقييد ايادي السجناء واطلق عليهم النار من بنادق كلاشنيكوف وهم يقفون الى جوار القبور المحفورة حديثا، بينما تم عصب اعين البعض الاخر وطلب منهم الرقود في القبور، كل اثنين معا واطلق عليهم النار.

وفي سبتمبر (ايلول) 1998 أعلن صدام حسين عفوا عاما وأطلق سراح من بقي حيا من بعد عملية الانفال. وتسربت تقارير الاعدامات الى داخل الشمال الكردي، إلا ان غالبية الناجين من الحملة فضلوا تصديق الشائعات التي تقول ان بعض المفقودين شوهد في السجون وأن الباقين ارسلوا الى دول الجوار، وهي شائعات ربما اطلق بعضها عملاء نظام صدام حسين. وفيما حاول الناجون من حملة الانفال إعادة بناء حياتهم، تحول الكثير من الذين شاركوا في تنفيذها عن مواقفهم السابقة. ففي عام 1991 تحول ولاء المرتزقة وأيدوا الانتفاضة ضد نظام صدام حسين. مقابل ذلك حصل افراد الميليشيات على عفو شامل من حكومة الاقليم الكردي المستقلة. ويقول محمد باساكي، 68 سنة، الذي كان قائدا لميليشيا كردية في السابق، ان قرار العفو كان حكيما وصائبا. وأضاف باساكي، الذي رفض الإدلاء بأية تفاصيل حول ما فعله خلال حملة الانفال، ان قرار العفو أعطى الكثيرين قلبا نظيفا للعودة مجددا والقتال. وتم في وقت لاحق استيعاب المرتزقة في قوات البيشمركة، كما شغل قادتهم مواقع حزبية، ولا يزال يشغل بعضهم مواقع في الاحزاب الكردية التي تحكم المنطقة. وقال قرباني ان بعض هؤلاء اصبح من كبار المسؤولين إلا ان «أرامل الانفال اللاتي لم يكن لديهن شيء ما زلن على نفس الحال». وفيما يعمل مسؤولون عراقيون واميركيون على الإعداد لمحاكمة عدد من المجرمين، لم يتضح بعض المدى الذي ستشمله المحاكمات نزولا الى المستويات الدنيا حسب التسلسل القيادي في محاكمة المتورطين في حملة الانفال. ومن ضمن المسؤولين العراقيين السابقين الذين لن توجه اليهم تهم وزير الدفاع السابق سلطان هاشم احمد الجبوري الطائي، الذي استسلم للقوات الاميركية في سبتمبر الماضي، فقد منحته سلطات التحالف بقيادة الولايات المتحدة حصانة لقاء تعاونه في التحقيق. وطبقا لوثائق عثر عليها في ملفات عراقية، فإن سلطان هاشم، الذي كان يحمل رتبة لواء، كان قائد الفرقة الاولى، وهي واحدة من فرقتين للجيش العراقي نفذتا حملة الإبادة. ويطالب بعض الناجين من حملة الأنفال بالانتقام خصوصا ضد قادة المرتزقة الذين قالوا انهم كذبوا عليهم. وتقول هجرة وليد، التي فقدت أشقاءها الأربعة في حملة الأنفال، انها تتمنى ان تجمعهم سويا وتضرم النار فيهم.

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»