اغتراب المصريين في الخارج.. هل أصبح ظاهرة قومية؟

مصطفى عبد العزيز مرسي يتناول دوافع الاغتراب وآثاره اجتماعيا وسياسيا وثقافيا على بنية المجتمع المصري

TT

لعل أهم ما يميز كتاب «المصريون في الخليج» للدكتور مصطفى عبد العزيز مرسي أنه يتناول قضية تشغل بال الآلاف من المصريين، وهي قضية اغتراب المصريين في دول العالم بشكل عام، وفي منطقة الخليج بصفة خاصة، كما يحاول الكتاب أن يجيب عن العديد من الأسئلة الهامة في هذا النطاق: لماذا يغترب الفلاح المصري المعروف بشدة ارتباطه الوثيق بأرضه وبمجتمعه النهري الزراعي، ولماذا يقدم على بيع أرضه وجاموسته بل ويستدين ويغترب الى أرض مجهولة وقد يقع ضحية للمتاجرين في البشر وبائعي الوهم في مصر وخارجها، ولماذا يبتعد المصريون في الخارج عن سفاراتهم وقنصلياتهم، وهل تغير أسلوب تعاملها معهم للأفضل أم لا.

ويضاف الى تميز الكتاب ان كاتبه ليس شخصاً بعيداً عن هذا الوسط فقد عمل مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق لشؤون المصريين في الخليج (1994 ـ 1998) كما عمل سفيراً لمصر في سوريا ومديراً لمكتب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية (90 ـ 98)، كما عاش تجربة الاغتراب وهو ما جعل مضمون كتابه عن المغتربين المصريين أشد ثراء وأقرب للواقع.

يصف الكتاب ظاهرة اغتراب المصريين بأنها حديثة نسبياً، إذ ظلت مصر لفترة طويلة بلداً جاذباً للعديد من تيارات وموجات الهجرة الأجنبية على مر العصور سواء من أبناء دول الجوار الجغرافي المباشر أو القريب أو من دول المنطقة البعيدة، حيث لم تعد ظاهرة اغتراب وهجرة المصريين قاصرة على فئة أو شريحة معينة من المجتمع المصري، بل امتدت لتشمل جميع الفئات والمهن والأعمار، وشملت الرجال والنساء، ويصف المؤلف المواطن المصري بأنه كان لا يترك بلده والفلاح لا يهجر أرضه ولكن الفلاح اليوم يترك الأرض ويجرفها، فالمصريون خارج الحدود أصبحوا يعدون بالملايين بعد أن كان عددهم منذ ثلاثة عقود لا يتجاوز بضعة آلاف، وقد قدر الجهاز المركزي للاحصاء في مايو (ايار) من عام 1999 حجم العمالة المصرية بالخارج بـ3.5 مليون شخص، تبلغ الهجرة المؤقتة (المغتربون) منها حوالي مليونين و180 ألف فرد أغلبهم في منطقة الخليج، والهجرة الدائمة مليون و320 ألفاً يتركزون في الدول الأوروبية واستراليا وكندا والولايات المتحدة الاميركية.

ويعتقد المؤلف أننا اذا اعتمدنا على هذه الأرقام وأخذنا في الاعتبار أن كل مواطن مغترب يعول أربعة أفراد في المتوسط فإننا حينما نتحدث عن ظاهرتي الهجرة والاغتراب معاً، إنما نتحدث عن موضوع يهم أربعة عشر مليون مصري ما بين مقيم ومغترب ومعنى ذلك ان هذا الموضوع يخص ما يزيد على خمس اجمالي عدد سكان مصر. ويحاول الكتاب ان يجيب عن السؤال: لماذا يغترب المصريون أو يهاجرون، مشيراً الى انه من الثابت أن حالات فردية كثيرة من حالات الاغتراب أو الهجرة المصرية الى الخارج تؤسس في بعض مراحلها أو بعض دوافعها المباشرة على أساس التطلع الى الثروة والانتقال بين المواقع الطبقية الى ما هو أعلى، إلا انه بالمنظور القومي فإن هجرة المصريين ـ كظاهرة قومية ـ ترتبط أساساً بقدر العلم المتاح عن امكانيات الذات وامكانيات الغير، كما انها ترتبط بالدرجة الثانية بمدى ونوع مرونة النسق الاجتماعي وكفاءة النظام الحاكم في سياسته العامة وسياسته الاجتماعية والاقتصادية بصفة خاصة.

ويرى المؤلف ان الدافع الأساسي للاغتراب يعود لاعتبارات اجتماعية واقتصادية بصفة خاصة ـ بغض النظر عما يقال عن أن السادات فتح الباب للهجرة مع الانفتاح والسلام شبه الناقص ـ فليس هناك سبب أو دافع أقوى من دافع الصعوبات المعيشية أو المالية التي تضطر الانسان الى مغادرة أرضه وفراق أهله، فالأوطان لم تقم لتهجر، ولا يوجد من يترك أوطانه ترفاً، إلا اذا كان مصاباً بهوس الترحال.

وعن الأهمية النسبية لتحويلات المصريين المغتربين وتأثيرها على المجتمع والدولة، يقسم في البداية د.عبد العزيز مصادر مصر الذاتية من النقد الأجنبي الى خمسة مصادر رئيسية وهي: صادرات مصر من السلع الزراعية والصناعية وصادرات البترول ورسم المرور لقناة السويس وايرادات السياحة وتحويلات المصريين المغتربين. وفي الثمانينات وبداية التسعينات ـ يقول المؤلف ـ وصلت تحويلات المصريين الى ما يقرب من جملة ما حصل عليه الاقتصاد المصري من عملات أجنبية من مجموع المصادر الأربعة الأخرى مجتمعة، وأصبحت التحويلات النقدية للمصريين المغتربين بصفة خاصة أحد المصادر الحيوية لتخفيف حدة اختناقات موارد الصرف الأجنبي. ويضيف المؤلف ان هذه التحويلات من النقد الأجنبي تدعم ميزان المدفوعات المصري وتمكن الحكومة من اعادة تخصيص هذه الموارد في مختلف أوجه النشاط الاقتصادي والمالي، وقد أسهمت هذه التحويلات في إيقاف تدهور قيمة الجنيه المصري ودعمه تجاه العملات الأجنبية، كما ساهمت في تكوين احتياطي هام من العملات الأجنبية، كما عززت مدفوعات المصريين المغتربين لتكاليف سفر أسرهم من المركز المالي لمصر وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها فضلاً عن تأثير هذه التحويلات على مختلف أوجه النشاط الاقتصادي والاستثماري في مصر. ونعرف من الكتاب أن الغالبية العظمى من المصريين المغتربين بالخارج هم من طبقة الموظفين وهي طبقة نمت وترعرعت في اطار وظيفي نمطي، وتختلف في طبيعتها وتكوينها عن طبقة رجال الأعمال، ومن الصعب أن يتحولوا إلى رجال أعمال بمجرد حصولهم على قدر من المدخرات، ولهذا فهم يؤثرون أن يودعوا هذه المدخرات بالبنوك، وأصبحت هذه الايداعات لدى البنوك المصرية ذات أهمية خاصة وعززت من قدراتها الائتمانية.

ويرى المؤلف ان الآثار السلبية لهذه التحويلات غرست النمط الاستهلاكي المحموم غير المرتبط بنتاج طبيعي لتطور الوحدات الانتاجية الوطنية، وإنما بمصادر مالية خارجية ومن هنا تأتي خطورة التعود على مثل هذه الأنماط الاستهلاكية والتي تتجاوز امكانيات الاقتصاد المصري الذاتية، موضحاً انه اذا كان استيعاب منطقة الخليج لاعداد كبيرة من القوى البشرية المصرية اسهم في التقليل من نسبة البطالة المحلية إلا انه أضعف آليات الاستيعاب الداخلي للعمالة.

كما يرصد الكتاب أسباب الهجرة غير القانونية، ويسميها بالشتات العربي، والتي تعود الى تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في أغلب الدول العربية، وهذا التردي يجبر أعداداً هائلة من المواطنين العرب على الهجرة، إما بسبب تعدد الحروب الأهلية أو كوارث حلت ببلدانهم كما هو الحال بالنسبة للجزائر ولبنان والعراق والسودان أو بسبب الابعاد كفلسطين.

إن أغلب المواطنين الذين ينجحون في التسلل الى الدول الأوروبية وغيرها يقومون بأصعب الأعمال وأكثرها تواضعاً من كنس الشوارع وتنظيف المطاعم والمقاهي الى تكسير الأحجار وغيرها ، وهي أعمال يأنفون عادة من القيام بها في بلادهم، فثقافة العيب ـ كما يذهب المؤلف ـ عند كثير من العرب، لا تزال تبعدهم عن القيام بالعديد من المهن في أوطانهم.

ويضيف المؤلف ان مصر بالرغم من أنها ظلت لفترة طويلة بعيداً عن نشاط عصابات الاتجار بالبشر وبائعي الوهم إلا انه في السنوات الأربع الأخيرة، امتد هذا النشاط لمصر وتعددت فئات الضحايا والدول التي تتم محاولات تهريبهم إليها وعلى مستوى المنطقة.

ويعتقد د.مرسي ان لبنان يأتي في المرتبة الأولى كدولة جاذبة للعمالة الرخيصة غير القانونية أو منطقة ترانزيت للتسلل لمناطق أخرى، ويليها عدد من دول الخليج كالكويت والامارات عبر تأشيرات «عدم الممانعة» أو تأشيرات «الزيارة» على أمل الحصول على فرصة عمل، وعادة يتولى هذه العمليات أفراد أو بعض شركات استقدام العمالة في مصر أو في الخليج أو الكفلاء.

ويطرح الكتاب سؤالا هاماً، وهو: لماذا يخشى المصريون الذهاب الى السفارات والقنصليات المصرية في الخارج؟ ويجيب بأن العلاقة بين أجهزة السلطة والشعب في مصر قامت في أغلب الأحيان على عدم الثقة، وغالبية المصريين يعتقدون ان السلطة شر، لذلك يفضلون الابتعاد عن القنصليات باعتبار انها امتداد للسلطة، وتجد هذه الظاهرة ـ كما يؤكد المؤلف ـ جذوراً وانعكاسات داخل الوطن وتتضح مثلا في انخفاض معدلات التصويت في انتخابات مجلس الشعب وغيرها، ولعل من بين أسباب ابتعاد المصريين المغتربين عن بعثاتنا في الخارج تلك الفكرة المتعلقة بالصورة الذهنية المتواترة والمتناقلة عنها لدى بعض المواطنين عن دور هذه البعثات وتوقعاتهم منها، وما ينبغي أن تقوم به بغض النظر عن امكانية تحقيق ذلك أو مدى اتفاقه مع الأعراف والقوانين الدولية من عدمه.

كما يستعرض الكتاب أكبر وأخطر أزمة تعرض لها المصريون المغتربون في الخليج سواء من ناحية مداها الجغرافي أو عدد المصريين المغتربين الذين واجهوها، وهي تلك التي وقعت بعد اجتياح القوات المسلحة العراقية للكويت في اغسطس(آب) عام 1990 في عملية مباغتة غير مبررة فاجأت الجميع، وقد أدى هذا الغزو ـ كما يقرر المؤلف ـ الى عملية نزوح اضطرارية شاقة للمصريين العاملين في كل من الكويت والعراق فضلا عن الاردن، والذين وصل عددهم كما تشير احدى الدراسات الى مليون و29 ألفاً و500 عامل وهو ما يمثل أكثر من نصف حجم العمالة المصرية في الدول العربية والتي تصل نسبتها الى 53.4 في المائة وقد تم ترحيل الآلاف من المصريين من الكويت والعراق في أحلك الظروف وأقساها فضلا عن فقدهم امتعتهم ونقودهم ومجهودهم.

ويتناول الكتاب ظاهرة ضعف التضامن بين المصريين المغتربين ويصفها د.مصطفى عبد العزيز مرسي بأنها لا تقتصر على فئة من المصريين دون أخرى، بل هي ظاهرة ممتدة وسمة عامة تجدها بين اساتذة الجامعة والمستشارين والأطباء وغيرهم كما تجدها في أسفل السلم الاجتماعي بين العمال، لكن اشدها بين الطبقات العليا، ورغم عدم وصول المؤلف الى أسباب محددة لهذه الظاهرة إلا أنه يؤكد وجودها وبشدة.

ويخلص المؤلف في ختام كتابه الى ان قرار الاغتراب اذا كان قراراً شخصياً فإن علينا مع ذلك أن نتفهم ظروف المغترب والضغوط التي دفعته لاتخاذ هذا القرار، ومعاناته ودوره واسهاماته لوطنه وللبلد وللمستقبل، وأن تنظر إليه الدولة نظرة جديدة وواقعية، مدركة ان ظروفه وأوضاعه أصبحت أكثر صعوبة وأن تعمل بالتالي على توفير القدر المناسب من العناية والرعاية الذي يمكن المصري المغترب من الصمود والشعور بالاطمئنان.