آزنشتاين .... رائد سينمائي أنهكته السياسة !

فهد الأسطاء وحازم الجريان

TT

في بروكسل عام 1958 اعلنت لجنة تحكيم من مؤرخي السينما في 26 دولة أن فلم «المدرعة بوتمكين» هو(أفضل فلم في العالم). وكانت آراء النقاد العالميين قد اتفقت كذلك، قبل ذلك بعشر سنوات، عام 1948، على وضع «المدرعة بوتمكين» على رأس قائمة أفضل عشرة أفلام أنتجتها السينما حتى ذلك التاريخ.

ولاحقا رأى الناقد الاميركي الشهير ليونارد مالتين أن مشهد درجات الاوديسا في فلم المدرعة بوتمكين ربما يكون أشهر مشهد سينمائي في التاريخ!! بينما قال البريطاني جون جيرسون، أحد اشهر منتجي الأفلام التسجيلية، «إن حركة الأفلام التسجيلية البريطانية ولدت من آخر بكرة لبوتمكين».

يقف خلف هذا الفيلم المخرج الروسي الكبير والرائد السينمائي سيرجي آزنشتاين، المولود عام 1898 في لاتفيا. وبرع منذ طفولته في الرسم والتصميم، ثم تلقى تعليمه كمهندس مختص بالهندسة المعمارية مدفوعا برغبة والده المهندس، الا ان هذا الأمر لم يدم طويلا. فبعد التحاقه بالجيش الأحمر في سن العشرين أبدى ميلا كبيرا للعمل الفني وقام بتصميم عدد من المشاهد والأعمال المسرحية والدعائية المهيجة التي كانت تعمل بهدف تنوير الجنود والعمال والفلاحين أثناء الثورة.

وفي العام 1920 ترك الجيش لينظم الى مسرح «العمال الأوائل» كمصمم أزياء ومناظر ورئيس لقسم الديكور. وفي حين أنه حقق نجاحا جيدا من خلال مسرحية The Sage الهزلية الا ان اهتمامه بالفيلم والاخراج دفعه في الأخير لترك العمل في مسرح مايرهولد وحركة الثقافة البروليتارية ليكرس نفسه للعمل في السينما ويخرج أول أفلامه عام 1923 «يوميات غولوموف»، وهو فيلم هزلي قصير لمجموعة مقتطفات اخبارية بعد ان كان قد شارك في بعض الاعمال مثل«المكسيكي» المقتبسة من جاك لندن.

وحقق آزنشتاين نجاحا أكبر من خلال أول فيلم روائي طويل له عام 1925 «إضراب» الذي نال تقديرا كبيرا جعل اللجنة المكلفة تنظيم حفلات ذكرى الثورة تكلفه تصوير فيلم عن ثورة 1905، حوله فيما بعد الى فيلم عن احدى احداث هذه الثورة واكثرها تعبيرا عنها وهو فليمه الاشهر«المدرعة بوتمكين».

لقد درس أزنشتاين أعمال المخرج الأمريكي «ديفيد و.غريفيث»، وتجارب مواطنه كيولوشف في المونتاج بالإضافة إلى تقنيات الروسية ايزفير شب في إعادة تجميع اللقطات الوثائقية، وكل هذا جعله يؤمن بقدرة السينما على التلاعب بالزمان والمكان في سبيل إضافة معان جديدة أو بث إيحاءات معينة للمشاهد.

في فيلمه الأول «إضراب» استخدم أزنشتاين المبتدئ أساليب تعبيرية وكنايات بصرية دلت على متابعته الجيدة لما قدمته وتقدمه التعبيرية الألمانية في بداية العشرينات. وكان هذا الفيلم في موضوعه أشبه بالمقدمة لفيلمه الأعظم «المدرعة بوتمكين». ففي حين تمحور الأول حول القمع العنيف الذي لقيه إضراب عمال مصنع عام 1912، فإن الثاني كان عن تمرد جنود على مدرعة بحرية في ثورة 1905.

في هذين الفيلمين، وفي أفلام أخرى له، نلمس تفاؤله وإيمانه العميقين بهذه المرحلة الجديدة في تاريخ بلاده، إلى الدرجة التي جعلت معظم أفلامه السبعة تتحول بشكل أو بآخر إلى بروباغاندا شيوعية متقنة تدور في معظمها حول الصراع الطبقي تارة، أو عن أحداث الثورة البلشفية تارة أخرى. هذا الإيمان المطلق بالثورة نجده واضحا لدى أزنشتاين في قوله «أعطتني الثورة أثمن شيء في حياتي، لقد جعلت مني فنانا. ولو لم تقم الثورة لما كان من المفروض أن أحطم تقاليد الأسرة على الإطلاق ، إذ كان المفروض أن أصير مهندسا».

فيلم «المدرعة بوتمكن» وضع اسم أزنشتاين على الخارطة السينمائية ليس كمخرج عالمي فقط، ولكن كرائد من رواد السينما، إذ احتوى الفيلم على أساليب مونتاج، ولقطات مقربة لا تزال تدرس حتى الآن في مدارس السينما حول العالم. لقد برع أزنشتاين في تصوير المعاناة البشرية في فيلمه إلى الحد الذي سبب اضطرابات في بعض صالات السينما خارج روسيا لأن بعض المشاهدين اعتقدوا بأن ما يرونه هو فيلم إخباري قصير. من ناحية أخرى كان الفيلم برهانا ساطعا لنجاح نظرية أزنشتاين في المونتاج التي عمد فيها إلى جمع لقطتين مستقلتين تماما يشكل ربطهما معا صورة ثالثة تنشأ في ذهن المشاهد ، وهو ما يعرف بالمونتاج الذهني الذي تكلم عنه أزنشتاين لاحقا في كتبه.

التوافق، أو فلنقل الحماس الأيديولوجي الذي أبداه المخرج الشاب بإخلاص تجاه الشيوعية، لم يلق في المقابل نفس الحماس من السلطة السياسية، فبعد سالمدرعة بوتمكن» جاء فلم «أوكتوبر» ليحتفي بأيام الثورة البلشفية العشرة في 1917 . لكن التعقيد الذي بدأ يظهر في هذا الفيلم لم يكن مفضلا لدى منظري الشيوعية الذين كان يرون بأن الفن يجب أن يكون شعبيا وسهلا ويصل إلى كل طبقات المجتمع ليؤدي «وظيفته الدعائية» بشكل أفضل، لهذا أعيد تحرير لقطات كثيرة من الفيلم، وهو تدخل تكرر أيضا في فيلمه التالي «خط الجنرال» حين اجتمع ستالين بأزنشتاين وشريكه في الإخراج «غريغوري أليكسندروف» وأمرهما بعمل تغييرات جذرية في الفيلم. أثناء رحلة دامت 3 سنوات طاف فيها أزنشتاين أوروبا وأميركا، التقى بمشاهير السينما أمثال «ديزني» و«شابلن» الذي أصبح صديقا حميما له ، كما التقى بروبرت فلاهيرتي رائد الأفلام الوثائقية الذي شجعه على تصوير فيلم وثائقي عن المكسيك بتمويل من الكاتب أبتون سنكلير. لكن ضغوطا مالية وأخرى سياسية من ستالين نفسه، الذي كان يخشى أن يطلب أزنشتاين اللجوء السياسي أثناء رحلته هذه، حالت دون اكتمال الفيلم. رجع أزنشتاين إلى موسكو مع وعود بأن ترسل إليه المشاهد التي تم تصويرها ليحررها، ولكنه لم ير مشاهده مرة أخرى ، وهو ما جعله يصاب بانهيار عصبي تلو الآخر. كانت أفكاره الأصيلة والجريئة ترفض بفظاظة، وبالذات من رئيس صناعة السينما السوفيتية بوريس شوماتسكي الذي كان يريد صنع «هوليوود ستالينية» شعبية ومبهرجة، وهو ما جعل أزنشتاين يلجأ إلى رئاسة قسم الإخراج في معهد موسكو السينمائي ليصبح معلما وباحثا لسنوات.

في عام 1938 صنع أزنشتاين فيلما ملحميا ضخما اسمه«أليكساندر نيفسكي»، وهو عن أمير روسي يصد اجتياحا ألمانيا في القرن الثالث عشر الميلادي، في تشابه مقلق للوضع في أوروبا في السنوات التالية. ورغم النجاح التجاري والسياسي الكبيرين فإن هذه الملحمة شكلت رجوعا كبيرا عن أسلوب المونتاج الذي اعتمده أزنشتاين سابقا وعودة إلى «سينما المسرح» وأوبرات العشرينيات التي طالما عارضها أزنشتاين سابقا.

وفي دلالة واضحة على التقلبات السياسية التي كان على أزنشتاين التكيف معها يكفي أن نعرف أنه منح عن فيلم "أليكساندر نيفسكي" وسام لينين عام 1938 ، ثم بعد توقيع معاهدة سلام مع ألمانيا وضع الفيلم على الرف بكل هدوء ولكن ما إن اجتاح الألمان الأراضي السوفيتية حتى عاد الفيلم إلى العرض مرة أخرى.

في عام 1941 كلف أزنشتاين إخراج ملحمة تاريخية أكبر من ثلاثة أجزاء وهي «إيفان الرهيب» عن القيصر الروسي إيفان الرابع. وفيما كان الجزء الأول ناجحا للغاية ومنح بسببه جائزة ستالين فإن الجزء الثاني منع من العرض بسبب استعراض أزنشتاين الجريء لشرطة القيصر السرية التي رأت فيها اللجنة المركزية إشارة واضحة إلى لينين، كما قامت بتدمير مشاهد الجزء الثالث غير المكتملة، الشيء الذي أصاب أزنشتاين بأزمة قلبية أدخلته المستشفى لأيام، ورفض التماسه الذي قدمه إلى ستالين ليسمح له بإعادة تحرير الفيلم كما تريده الدولة، ولم يعرض الجزء الثاني إلا في 1958 بعد موت ستالين.

ومما يلفت النظر في حياة هذا الرائد السينمائي اهتمامه بقراءة رائد سينمائي آخر هو المخرج الاميركي الكبير دافيد غريفيث ودراسته لأعماله بسبب أثره الكبير على السينما العالمية ومنها السوفيتية. وهذا ما جعل آزنشتاين يسهب في الكتابة عنه، وعن دينه لغريفيث وفضله عليه، ويتحدث بتفصيل ودقة عن مساهمة غريفيث في كيان السينما الأساسي وكيف أن شكل الفيلم لدى السوفيت اتخذ أبعادا معقدة واتسع مداه بعد غريفيث. يقول آزنشتاين:« إني أود أن استحضر ما قدمه لنا غريفيث نحن مخرجي الافلام السوفيتية في العشرينات. بكل بساطة ان ماقدمه لنا كان الهاما».

ومثل هذا الاهتمام من آزنشتاين بغريفيث لم يجعله مجرد تلميذ حاذق ومخرج متأثر، وإنما نقله هو الآخر الى صف الريادة السينمائية بجانب غريفيث. وهذا ما يؤكده الناقد الاميركي بيتر دارت حيث يرى «ان هناك عظماء اسهموا بنصيب كبير في السينما الا ان الاميركي غريفيث والروسي آزنشتاين هما الأهم لأن كليهما مبدعان وخلاقان وهما اللذان عملا على دفع الشكل والكيان الاساسيين للصور المتحركة (يعني الفيلم( قدما الى الامام». ويضيف ايضا «ان آزنشتاين كان دائما أكثر استنباطا من غريفيث وان تحليلاته لشكل الفيلم من بين أهم ما كتب عن النواحي الجمالية للسينما». ومن جانب آخر طالما اعترف منتجو الأفلام التسجيلية في اميركا وبريطانيا بتأثير آزنشتاين عليهم وكيف انهم استلهموا بعض الاساليب الفنية من افلامه الصامتة.

لم يكن أزنشتاين إذاً مخرجا فحسب، فقد سمحت له ثقافته العالية ودراسته للفلسفة وعلم النفس واللغويات، وقراءاته في الفرنسية والانجليزية والألمانية واليابانية بأن يصبح من منظري السينما ونقادها الأوائل.

يقول المخرج الأميركي الكبير ستانلي كوبريك: «ان افضل وسيلة لدراسة السينما هي الغوص في العمل السينمائي وتحقيق فيلم قصير ربما لا يزيد عن ثلاث دقائق بدلا من الدراسات الطويلة. اما الذين يحبون القراءة الى جانب الممارسة فليس أفضل من قراءة كتاب أو اثنين لايزنشتاين أو بودوفكين».

توفي سيرجي آزنشتاين عام 1948 بعد أن امضى خمسا وعشرين سنة في عالم السينما لم تتجاوز فيها افلامه العشرة مخلفا وراءه عددا من الكتابات المتناثرة وكتبا رائدة اهمها: «حس الفيلم» و«شكل الفيلم» و«مذكرات مخرج سينمائي» ترجمت إلى لغات عديدة وأصبحت تدرس بجانب أفلامه في عدة دول.