السلام المفقود (9) ـ روس: سألت عرفات ما إذا كان سيعمل ضد «حماس» فأجاب بالإيجاب وقد فعل في الواقع

شملت الاعتقالات في دفعتها الأولى على الأقل أسماك قرش وليس سردينا من حماس والجهاد ولكنه لم يفكك البنية التحتية

TT

لدى وصولي، كانت الخطة التي نويتُ اعتمادها تقضي بمطالبة عرفات بمحاسبة المسؤولين عن تفجيرات «محانيه يهودا»، واللّعب على وتر الرغبة لديه في أن تزور الوزيرة أولبرايت المنطقة وتلتقي به. ولطالما اعتقد عرفات أن زيارات رفيعة المستوى كهذه تُعلي من شأنه ومن شأن القضية الفلسطينية. أردته أن يفهم أنه إذا كان ذلك مهمّاً بالنسبة إليه، فعليه أن يُعطيني شيئاً كي أحقّقه له ـ وهذا الشيء هو التعاون الأمني المستمر، والمتضمن تبادلاً للمعلومات وتصدّياً لكل من يُشكِّل خطراً أو تهديداً. وتقرّر أن أحضر اجتماعاً ثلاثياً في مساء اليوم التالي، لذا قلتُ إنه يُحسن بالفلسطينيين أن يكونوا جدّيين، فلا يستخدمون المنتدى للتذمر والشكوى، بل لمناقشة المعطيات التي يملكها الإسرائيليون حول تهديدات محدّدة، والخروج بردّ مشترك عليها. وإذا رأينا أن مسؤولي الأمن الفلسطينيين لا يضعون ما يُتفق عليه موضع التنفيذ، ستمتنع الوزيرة عن المجيء إلى المنطقة.

أنصت عرفات إلى كلامي، وأبدى موافقة على كل ما طالبته به، وإذا بالتعاون الأمني يُستأنف في ظرف أسبوعين من الزمن. صحيح أنه لم يكن مثالياً، فتبادل المعلومات بقي محدوداً، والفلسطينيون يبدون مترددين في اعتقال جميع المدرجة أسماؤهم على اللوائح الإسرائيلية، ولا تُتخذ سوى خطوات قليلة ذات معنى ضد البنية التحتية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي ـ إلا أن «الشين بيت» تقول إن أجهزة الأمن الفلسطينية تبذل الآن جهداً، والمفروض بنا أن نشجع هذا الجهد لا أن نرفضه.

في تلك الأثناء، التقيتُ بنتنياهو وعرفات كليهما، كما اجتمعتُ بمسؤوليهما الأمنيين لإبقاء الضغط قائماً، وفي نهاية الشهر بعثتُ بتقرير إلى الوزيرة يُفيد أن المعيار الذي وضعته للمجيء إلى المنطقة قد تحقق. وهكذا استعدنا من جديد توازننا للقيام بمسعى أكثر جدّية في سبيل المفاوضات. ومن جديد، أُجهض مسعانا هذا بفعل عمل إرهابي آخر.

ففي الرابع من أيلول/ سبتمبر، ضرب المفجّرون الانتحاريون وسط مدينة القدس، فقتلوا خمسة إسرائيليين وجرحوا 186 آخرين في متنزّه بن يهودا للمشاة. كانت مادلين قد سبق وأعلنت أنها ستصل إلى إسرائيل في الأسبوع القادم. ومن شأن إلغاء الزيارة الآن أن يُرسل إشارة إلى الإرهابيين بأنهم قادرون على إحباط مساعينا. وفي إدانتها للإرهاب، أهابت الوزيرة بعرفات أن يبذل جهداً أكبر، في الوقت الذي أعلنت فيه «أننا لا يُمكن أن نستسلم للإرهاب. وانطلاقاً من قناعتي هذه، أعتزم التوجه إلى الشرق الأوسط كما هو مقرّر».

إنما لم يكن هناك الكثير مما يُمكن عمله في تلك الرحلة. فنتنياهو كان واضحاً، ويتحدث من موقع قوة: لن يُقدِّم أية تنازلات في وجه الإرهاب; وحتى لو أراد ذلك، فهو مستحيل سياسياً.

أمضت الوزيرة أُولبرايت قرابة أسبوعا في الشرق الأوسط تجول في كل أنحاء المنطقة ; وحيثما ذهبت، كانت تسمع اللازمة إيّاها: على الولايات المتحدة أن تعمل أكثر مما عملت حتى الآن. وكان جوابها أنه ليس هناك الكثير مما يُمكن عمله إذا ما استمرت التفجيرات الانتحارية. كان في وسعها أن تتحدّث، وقد تحدّثت بالفعل، عن الإجراءات الإسرائيلية التي يجب أن تتوقف كذلك، خصوصاً أن عرفات يتشكّى علناً من انتهاكات الإسرائيليين لالتزاماتهم بموجب اتفاقية أوسلو. لكن عملية بن يهودا ضمنت أن تتمحور تلك الزيارة على الأمن، وبدا أن عرفات فهم أن عملية التفجير قد أضرّت به وفي الوقت غير المناسب بالضبط. عندما تحدثتُ إلى عرفات وأبي مازن عند اختتام زيارة الوزيرة، صارحتهما بأنها كانت فرصة ضائعة. فأقر أبو مازن بأنّي على حق: لم يكن أمام السلطة الفلسطينية من خيار غير أن تعمل ضد حماس. اكتفى عرفات بالاستماع، ولم يُعلّق بكلمة. نظرتُ إليه وسألته ما إذا كان سيعمل ضد حماس؟ أجاب بالإيجاب، وقد فعل في الواقع. إذ شملت الاعتقالات، أقلّه في دفعتها الأولى ـ «أسماك قرش وليس سرديناً» حماس والجهاد الإسلامي ـ إذا ما استعرنا هنا وصفاً كان من الجائز أن يستخدمه بيبي (نتنياهو ). لكن حيث إنه لم يجر أي تفكيك للبنية التحتية لحماس، فقد بدا ذلك كما لو أنه رسالة جديدة موجَّهة إليها: استمري أنتِ في تفجيراتك الانتحارية، وننقضّ نحن عليك كأطنان الحجارة.

ولم يقع أي هجوم انتحاري آخر لمدة تنوف عن السنة كان فيها عرفات يسعى جاهداً إلى قلب الطاولات على نتنياهو. كان يريد آنئذ أن تقع التبعة على بيبي وليس عليه هو. أما من ناحية بيبي، فقد واصل ارتكاب زلاّته بلا كلل، ومنها زلّةٌ كادت تنسف علاقات إسرائيل بالأردن.

* أسرار صفقة إطلاق سراح الشيخ ياسين ومحاولة اغتيال خالد مشعل

* لم يقع أي هجوم انتحاري آخر لمدة تزيد عن السنة، كان فيها عرفات يسعى جاهداً إلى قلب الطاولات على نتنياهو. كان يريد آنئذ أن تقع التبعة على بيبي (المؤلف يشير دائما لنتنياهو بكنية بيبي.. الإيضاح من «الشرق الأوسط») وليس عليه هو. أما من ناحية بيبي، فقد واصل ارتكاب زلاّته بلا كلل، ومنها زلّةٌ كادت تنسف علاقات إسرائيل والأردن.

فقبل الساعة السابعة بقليل من صباح السبت 27 أيلول/ سبتمبر، جاءتني في البيت مكالمة تفيد أن رئيس الوزراء نتنياهو سيتصل بي بعد قليل على خطي الهاتفي المأمون. لم يكن من عادة بيبي أن يتصل بي في يوم سبت ، النهار الذي يقضيه في النوم إلى ما بعد الظهر. لا بد أن شيئاً قد وقع.

ما إن وصلوني به هاتفياً حتى دخل بيبي رأساً في الموضوع: أخبرني أن هناك مشكلة كبرى، وأن الملك حسين يُهدّد بقطع العلاقات مع إسرائيل بحلول منتصف الليل. وقال إن عليّ أن أتصل به، أو أُقنع الرئيس كلينتون بالاتصال به، لمنعه من تنفيذ ما قد يرقى إلى مستوى الكارثة على حد وصفه. كان بيبي لحظتذاك نهباً لمشاعر القلق الشديد.

قلتُ له: «سيدي رئيس الوزراء. عليكم أن تخبروني بما يجري. ما الذي حصل؟».

كنتُ اطلعتُ على تقارير تفيد أن أحد قياديي حماس، خالد مشعل، قد هوجم في عمّان، إلا أنني لم أُعرها كبير اهتمام. فشرح لي بيبي الآن أن الهجوم كان من تدبير الموساد الإسرائيلي، وقد حدث خلل ما في العملية. لقد هاجمه عدة عملاء إسرائيليين يحملون جوازات سفر كندية وحقنوه بمادة سامّة، وأن اثنين منهم قد اعتقلتهم الشرطة الأردنية فيما كانا يحاولان الفرار بطريقة خرقاء. قال إن مشعلاً راقد الآن في المستشفى، وسوف يقضي نحبه حتماً إذا لم يُعط ترياقاً مضاداً للمادة السامّة، وأن الأردنيين يطالبون إسرائيل بتركيبة الترياق من دون أن يعدوا بإطلاق سراح عميلي الموساد. وها هو الملك يوجه إليهم إنذاراً نهائياً، مهدِّداً بقطع العلاقات معهم بحلول منتصف الليل.

ومع وعيي التام بأنني على الخط أتحدث مع رئيس وزراء إسرائيل، إلاّ أنني لم أتمالك نفسي عن نهره من دون تفكير: «بماذا عساك كُنتَ تفكِّر؟». وحين أجاب بأن الهجوم جاء ردّاً على عمليتي التفجير في محانيه يهودا وبن يهودا، سألته: «لماذا لم تذهب إلى الأردنيين وتَرَ ما إذا كانوا سيُوقفون مشعلاً ويسلمونه إليكم سرا ؟». كان جواب بيبي الوحيد أن الموساد كان متأكداً من قدرته على النيل من مشعل. فسألته ثانيةً: «ألم يخطر ببالك أن خللاً ما قد يحصل؟»; وقد صُعقتُ عندما أجابني: «كلا».

أدركتُ عندئذٍ أن لا معنى لتقريع بيبي أكثر من ذلك. فإذا كان حسّه بعدم المسؤولية هو الذي تسبّب بالأزمة فإن لنا مصلحة كبيرة وكبيرة جداً في تفادي إقدام الأردن على قطع علاقاته بإسرائيل، الذي إنْ حصل سوف يكون من العسير إبطال مفعوله، وقد يحفز مصر على أن تحذو حذوه.

قلتُ لبيبي بأن عليه أن يُسلِّم الأردن الترياق في الحال. أبدى ممانعة في القيام بذلك إذا لم يُطلق سراح العميلين الإسرائيليين. قلتُ له: «لقد أوقعتم الملك في وضع حرج; فقد استغلّيتم علاقتكم الخاصة به لأغراض أمنية، وعليكم الآن أن تبادروا إلى تصحيح الخطأ فوراً. ابدأوا بإرسال الترياق، وقدّموا اعتذاراً، مع وعدٍ قاطع بعدم تكرار مثل ذلك مرة أخرى، وبأن هذين العميلين لن يطآ أرض الأردن ثانيةً. وبإمكانكم أن تقولوا له إنه إذا ما شعرتم بوجود تهديد ما داخل الأردن، سوف تأتون إليه وتشرحون له ماهية ذلك التهديد». قال بيبي إنه مستعد أن يوفد داني ياطوم، الذي صار الآن رئيساً للموساد، إلى الأردن في الحال حاملاً معه الترياق، لكنه يخشى من أن يرفض الملك مقابلته. وعدتُه بأن أُقنع الرئيس كي يتصل بالملك لهذا الغرض، إنما يتعيّن عليه أن يُسرع إلى تصحيح خطئه.

اتصلتُ بساندي بيرغر وشرحتُ له الوضع، قلتُ له ثمة ضرورة لأن يتصل الرئيس بالملك، ويُهدّئ من خواطره، ويقترح عليه أن يُطلق سراح العميلين الإسرائيليين سرا، لقاء وعدٍ بأن لا يعودا إلى الأردن أبداً.

أجرى الرئيس الاتصال. وبعد أن نفَّس الاحتقان لدى الملك حسين، أقنعه بألا يقطع العلاقات الدبلوماسية، وبأن يُفرج في صمتٍ عن العميلين الإسرائيليين. وكان يجب أن تكون تلك نهاية القصة، لكنها لم تكن.

طلب الملك من الرئيس كلينتون أن تُلبّى له عدة مطالب: الترياق، الاعتذار، ووعد بعدم حصول شيء مثل هذا مرة أخرى. لكن بيبي كان يخشى أن يستبقي الملك العميلين في الحجز فترةً من الزمن، وألا يستأنف التعاون الأمني معهم; وهو حاجة أساسية للأمن الإسرائيلي بالنظر إلى حدود الأردن الطويلة مع إسرائيل.

لذا، سارع بيبي إلى تقديم «حلوانة» إلى الملك: السماح للشيخ أحمد ياسين، الزعيم الروحي لحماس، الضرير(*) والكسيح (هكذا في الأصل، وهو ما ليس صحيحاً، فالراحل الشيخ ياسين مقعدا ولكنه ليس ضريرا.. الإيضاح من «الشرق الأوسط»)، بالعودة إلى غزة عبر الأردن، وهو امتياز سعى الملك إليه، لكنه لم يجعله شرطاً لتسوية الأزمة. وما بدأ كعملية لإظهار الكلفة الباهظة لقيادة حماس في خارج المناطق، انتهى بالسماح لزعيم حماس الروحي بالعودة إلى غزة عودة الأبطال. عملية سيئة التصوّر منذ البداية، انتهت بخطأ فاضح آخر بعد: تقوية ساعد حماس في العملية ،( بناءً على ما أعرفه من عقل عرفات التآمري، فهمتُ كذلك أنه سيرى أن الرئيس كلينتون سيرى في عودة ياسين إلى غزة جزءاً من مؤامرة إسرائيلية للتواطؤ مع حماس من أجل إضعاف مكانته والمساس به).

* أغضبنا عرفات بالحديث عن نسب إعادة الانتشار

* كُنا في تلك المرحلة نتحدث عن إعادة الانتشار الإضافية. وكان بيبي (نتنياهو) يقول إن 13 في المائة هي كل ما يستطيع عمله من أجل المراحل الثلاث لإعادة الانتشار الإضافية، وهنا أيضاً قلتُ له: «سيدي رئيس الوزراء. لا مجال لمن يقرأ الاتفاق الانتقالي أن يستنتج بأنكم يجب أن تحتفظوا بالقسم الأكبر من الأرض بعد استكمال جميع مراحل إعادة الانتشار الإضافية».

اللافت للانتباه أن بيبي لم يُجادل في هذه النقطة. وحتى عندما تدخلت مادلين وقالت إنه مدعوٌ بعد إلى تنفيذ مرحلتين أولى وثانية معقولتين من إعادة الانتشار، لم يناقشها قط في الأمر. بدلاً من ذلك، سأل إن كنا نقبل مرحلة إعادة الانتشار الأولى التي عرضها في آذار/ مارس ولم تُنفذ. أومأ كلانا ـ مادلين وأنا ـ برأسينا أننا نقبلها. وأردفتُ أقول إننا إنما نركّز هنا على ما يمكنكم عمله بالنسبة للمرحلة الثانية كي تجعلوا المرحلتين الأوليين معاً معقولتين. وجاء دوره الآن كي يومئ برأسه. وقد فعل.

وفي طريق عودتنا إلى الفندق، لم أكن واثقاً من مقدار ما أنجزنا، إنما ذكرتُ لمادلين أنه كان هناك، على الأقل، تطور واحد مثير للاهتمام: لقد ركّز بيبي طوال الوقت على المزيد من إعادة الانتشار; وسمعنا عن قيود إسرائيل بدلاً من تسلّم لائحة بالمطالب التي يتعيَّن على الفلسطينيين الالتزام بها. إن بيبي يُراعي أجندتنا الآن، ولا يحاول تجنُّبها ليس إلاّ.

في اعتقاد مادلين أن بيبي بات الآن يعمل جاهداً للقيام بخطوة أخرى في إطار إعادة الانتشار. سألتني هل أظنّه سيؤدي ما عليه فعلاً؟ قلتُ إني لستُ متأكداً، إنما أخبرتها بأن المفتاح سيكون في حمل عرفات على الأداء هو الآخر; فمن شأن ذلك أن يضغط على بيبي إذا ما عرفنا كيف نجعل من الجمهور الإسرائيلي حليفاً لعرفات.

في اليوم التالي، ضغطت الوزيرة على عرفات لجهة ما يتوجب عليه فعله في مجال الأمن تفصيلاً. أما هو، فكانت لديه أفكار أخرى بالطبع. كان يريد أن تبقى التبعة ملقاة على كاهل بيبي، ووظّف في ذلك الاستراتيجية القديمة القائلة إن خير طريقة للدفاع هي الهجوم. فكان في كل مرة تضغط مادلين عليه، يتحدّث لها عن متاعبه السياسية. قال إنه في موقف حرج أمام شعبه، مكرراً التلاوة عينها عن كل ما فعله نتنياهو: هارحوما، مصادرة بطاقات الهوية وإكراه الفلسطينيين على ترك القدس، منع الفلسطينيين من العمل داخل إسرائيل من خلال اتباع سياسة الإغلاق، هدم البيوت، النكث بالتزاماته حيال إعادة الانتشار الإضافية، مطار غزة، الممر الآمن، السماح للمستوطنين بـ«إرهاب» الفلسطينيين... إلخ. إن كل ما يطلبه هو «التطبيق الدقيق للاتفاقيات» ـ الاتفاقيات التي كنا نحن الأميركيين شاهدين أو متفاوضين عليها.

هنا تدخلتُ، مُشيراً إلى أن بعض الخطوات التي يعترض أكثر ما يعترض عليها، كالإغلاقات مثلاً، إنما جاءت بعد عمليات التفجير التي حصلت في إسرائيل. فإذا كان يُريد أن يساعدنا على إلغاء تلك الخطوات، فلا محيص عن المقاربة المنظومة إلى الأمن التي دأبت الوزيرة على مُطالبته بها. وكان على شفير الاشتياط غضباً حين استطاع السيطرة على نفسه.

لم يسبق لي أو لجمال أن رأيناه على وشك الانفجار ولم ينفجر. فما الذي منعه من ذلك الآن يا تُرى؟ هل استذكر الدرس الذي أعطيته إيّاه كيف ينبغي ألا يُعامل كريستوفر؟ أو كان بسبب ظنّه، وهو ابن مجتمع تقليدي، أنه من غير اللائق الاهتياج والزعيق في وجه امرأة، حتى ولو كانت هذه المرأة وزيرة خارجية الولايات المتحدة؟

أو تُراه مجرد تكتيك آخر من تكتيكاته؟ على كل حالٍ، غيّرت مادلين وجهة النقاش بعيداً عما كنا نُطالبه به إلى الحديث عن مطالبه هو حسب المبتغى. لكن ما كان لديه ليقوله عن إعادة الانتشار الإضافية لم يزد عن أنه سلّط الضوء على الفجوات العميقة القائمة بين الطرفين حول المسألة.

ذكر عرفات من دون قيد أو شرط أن له الحقّ في 30 في المائة (لم يكن عرفات يمّيز قط بين نفسه وبين قضيته، لذلك فإن عبارته الحرفية: «الإسرائيليون يدينون لي بـ 30 في المائة» لم تفاجئني على الإطلاق). لماذا 30 في لمائة؟ ومرة أخرى قال، مكرّراً، كما لو كان يقرأ في كتاب مقدس إلى ما لا نهاية، إن له الحق في 30 في المائة في كل عملية من عمليات الانتشار الإضافية، لأنه وفقاً للاتفاق الانتقالي، المسائل الوحيدة التي لا تدخل في مراحل إعادة الانتشار هي القدس، المستوطنات، ومواقع عسكرية محددة، التي تُركت إلى مفاوضات الوضع الدائم. وتبعاً لحساباته، فإن المستوطنات والمواقع العسكرية المحدّدة لا تُشكّل سوى 9 إلى 10 بالمائة من الضفة الغربية. لذلك، ووفقاً لتقديره، يجب أن يحوز الفلسطينيون 91 في المائة من الأرض عند اكتمال جميع مراحل إعادة الانتشار الإضافية. والمشوّق في الأمر أنه ذكر أن المستوطنات لا تتعدّى الـ 3 في المائة من الضفة الغربية، وجعل نسبة المواقع العسكرية المحدّدة لا تزيد على 3 إلى 4 في المائة (وثمة فارق كبير هنا حتى مع العُماليين في إسرائيل، الذين يستثنون المواقع العسكرية المحدّدة، فضلاً عن المناطق التي تكتسي أهميّة من الناحية الأمنية، من إعادة الانتشار الإضافية ويُقدِّرون مساحتها بأكبر من ذلك فعلياً). والسقف النهائي عند عرفات هو التالي: إذا كان له الحق في 91 في المائة من الأرض باكتمال عمليات إعادة الانتشار الثلاث، فيجب أن يحصل إذاً على 30 في المائة في كل عملية.

هنا حارت مادلين جواباً. أما أنا فقد فعلتُ شيئاً ليس من شيمتي: لقد اخترتُ أن أخبره في تلك اللحظة بالذات أن ليس له الحق، ولا كذلك الحظ، في الحصول على شيء من قبيل الـ 30 في المائة في العملية الثانية من عمليات إعادة الانتشار الإضافية، دع عنك الـ 60 في المائة لقاء العمليتين الأُوليين معاً. وهذا ما انتهك ركناً أساسياً من أركان مقاربتي للمفاوضات: خيرٌ لك أن تترك الاجتماع في كدرٍ من أن تخلف انطباعاً خاطئاً أو سوء فهم. الأول غير سار، لكن الثاني يفرّخ مشاكل أكبر لك على الطريق.

ماذا دهاني حتى حصرت جوابي هكذا؟ لا شك في أنني كنتُ غير معني بأن ينفجر عرفات غضباً. بيد أن ذلك لم يكن مشكلتي الحقيقية: فأنا لم أُهيئ الوزيرة بما فيه الكفاية لجواب عرفات، الذي كان يجب ألا يُفاجئني بحالٍ. ولما كنتُ وإيّاها لا نستطيع البحث في كيفية الردّ عليه في الحال، فقد وضعتُ فقط توكيداً خفيفاً على هذه النقطة، قلتُ: «هناك فارق كبير بين رؤيتكم لما ينصّ عليه الاتفاق الانتقالي حول إعادة الانتشار الإضافية والرؤية الإسرائيلية». لم يجب عرفات بكلمة واحدة; أما مادلين، التي استشفّت قصدي من «التوكيد»، فقالت إن هناك حاجة إلى بحث هذا الموضوع بحثاً إضافياً. ثم طرقت فكرة عقد اجتماع ثانٍ، فوافق عرفات. وحين حثّته على الإتيان بشيء ملموس على صعيد الأمن، تحوّل فجأة إلى شخص متجاوب (لا بل أوحى لي في الواقع ونحن خارجون من الاجتماع، بأن عليّ أن أُرتّب اجتماعاً أمنياً ثلاثي الأطراف لهذا الغرض).