استراتيجية وتفجيرات «القاعدة» (4) الإسلام يرفض قتل المدنيين وكان له السبق في وضع نهاية الوحشية في الحروب

قادة الجماعة الإسلامية يؤكدون أن فتوى أسامة بن لادن بقتل الأميركيين لا تستند إلى الشرع * رفضنا لقتل المدنيين الأميركيين لا يعني موافقتنا على السياسات الأميركية الظالمة

TT

* يحاكم قادة الجماعة الاسلامية المصرية في هذه الحلقة من كتاب «استراتيجية وتفجيرات «القاعدة» ـ الأخطاء والأخطار» أسامة بن لادن زعيم تنظيم «القاعدة» بعد اصداره فتوى قتال الصليبيين والأميركيين عام 1998 . وتأتي محاكمتهم لأسامة بن لادن ، محاكمة أيضا لأفكارهم هم القديمة التي تخلوا عنها عقب مبادرة وقف العنف التي أطلقوها عام 1997 ، وكان من أصدائها هذا الكتاب الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشره . وتناقش هذه الحلقة العديد من الأسئلة التي نراها مهمة في هذا السياق : ما هي الرؤية الشرعية التي يستند اليها تنظيم «القاعدة» للقيام بهذه التفجيرات سواء في أميركا أو الرياض؟ وهل يصح استهداف شخص ما بالقتل على أساس جنسيته ؟ هل الأهداف النبيلة تبرر ازهاق الأرواح البريئة ؟ وهل توجد أدلة شرعية يستندون اليها في هذه العمليات ؟

واذا كان الذين أصدروا بيان جواز قتل المدنيين الأميركيين يعتمدون دائما على أحكام شرعية وأحاديث نبوية في تبريرهم لتلك التفجيرات ، فإن قادة الجماعة الاسلامية المصرية يردون في هذه الحلقة على هذه الاستدلالات بأدلة أخرى حاسمة. ان الحوار بالسلاح لن يؤتي أكلا ، ولن يجلب سوى الدم والخراب ، لذا وجب الحوار ، والاستدلال بالأدلة الشرعية الثابتة .

* فتوى قتل الأميركيين

* لا شك في أن قضية موقف الاسلام من قتل المدنيين هي أول ما تثيره فتوى قتل المدنيين الأميركيين من قضايا، فقد جعلت هذه الفتوى الموقف المتميز للاسلام في هذه القضية موضع شك وتساؤل رغم ان الاسلام كان له السبق في وضع نهاية الوحشية التي كانت علما على الحروب بين الأمم قبله، ورغم ان الاسلام قدم للبشرية تصورا للحرب كيف تكون ـ رغم قسوتها ـ رحيمة لا تهدد كرامة ولا تسحق خلقاً.

فقد صار موقف الاسلام العظيم في هذه القضية محل شك رغم ان الاسلام علم الكون الرحمة في الحروب كيف تكون حين نهى عن التفريق بين الأسير وأبنائه من الأسرى، بل توعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خالف ذلك فقال: «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» أ.هـ ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان تصبر البهائم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ان الله كتب الاحسان على كل شيء، فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة واذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته». واذا كان هذا صنيع الاسلام مع الحشرة والحيوان فهل يتصور منه البطش بالانسان؟! ورغم ما قرره الاسلام من قواعد وأحكام تحكم المعاملة مع المدنيين ابان الحروب، وبما يمثل نقطة تفوق وسبق له على سائر النظم، الا ان البعض ـ وللأسف هم من انصار الفكرة الاسلامية ـ يأبى الا ان يطمس تلك الحقيقة بأفعاله وفتاواه.

فقد ترددت منذ سنوات مضت على الأسماع بعض الفتاوى المنسوبة لبعض العاملين للاسلام تنطوي على اباحة قتل المدنيين لجنسيات معينة أو اباحة قتل النساء والأطفال، وأشهر تلك الفتاوى هي الفتوى الصادرة عن الجبهة العالمية لقتال الصليبيين واليهود بقيادة الشيخ أسامة بن لادن عام 1998 والداعية الى قتل الأميركيين سواء من العسكريين أو المدنيين في أي مكان في العالم.

ولما كانت هذه الفتوى تتناقض مع ما قررته الشريعة في هذا الصدد وجب البيان والتوضيح رفعا للالتباس ومنعا من الابهام وابراز لموقف الشريعة الصحيح من قضية قتل المدنيين وقتل النساء والأطفال على وجه الخصوص.

* موقف الإسلام من قتل المدنيين

* عندما نتأمل في موقف الاسلام من امتداد الحرب والقتال لغير المقاتلين ندرك عظمة هذا الدين وعمق فلسفته الانسانية.

فعندما يأتي النهي القاطع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه عن استهداف النساء والولدان والشيوخ والزمني والرهبان والفلاحين والأجراء; نعلم عندئذ الموقف الحقيقي للاسلام من استهداف المدنيين بالتعبير المعاصر.

وانت اذا تأملت هذه الأصناف: النساء، الولدان، الشيوخ، المعتوهين، الأجراء، الفلاحين، الرهبان، العبيد والوصفاء، لأدركت ان هؤلاء في مجموعهم يمثلون من لا ينتصبون للقتال ولا يشاركون في وقائعه، وهل تعبير «المدنيين» اليوم له دلالة أخرى غير هذا؟ ومن هنا جاء قول جل الفقهاء على حرمة قتل من لم يكن من أهل المقاتلة والممانعة أو المدنيين بالاصطلاح المعاصر.

وهذا النهي عن استهداف المدنيين من غير أهل المقاتلة والممانعة لم يأت نتيجة اختيار فقهي أو ترجيح مصلحي; انما جاء النص على المنع من استهداف أغلب هذه الأصناف ببيان نبوي ووحي الهي مما يرفع درجة هذا النهي في نفس كل مؤمن ومؤمنة الى أعلى درجات الحذر من مخالفته.

* النهي في سنة الرسول عن بن عمر رضي الله عنهما قال: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان».

عن ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم كان اذا بعث جيوشه قال: «لا تقتلوا أصحاب الصوامع».

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم في الحرب.

* فلسفة الإسلام في عدم استهداف المدنيين * (فتوى اسامة بن لادن) لا شك في ان هدف الاسلام عندما يخوض غمار الحروب هو تحقيق صلاح الخلق ومن ثم فهو يبيح من قتل النفوس ما يحتاج اليه لتحقيق ذلك، ومن هنا كان منطقيا ألا يأمر الاسلام بقتل من لم يقاتل جيوشه لأن هذه الجيوش ما انطلقت الا لصالح هؤلاء جميعا، فان أبى البعض منهم الا مقاتلته والاعتداء عليه فقد اختاروا بذلك الموقف منهم، أما من لم ينتصب منهم للقتال فهذا له شأن آخر وله معاملة لها منطق آخر.

فهؤلاء الذين لم ينتصبوا للقتال لا يسعى الاسلام لاستئصالهم، لا يسعى الاسلام لاجبارهم على اعتناق عقيدته والتخلي عن دينهم، انما يريد ان يعطيهم فرصة لمراجعة مواقفهم فلربما يدخل الاسلام قلوبهم طواعية ولربما يمس شغاف قلوب هؤلاء هذا الموقف العادل منهم الرحيم بهم.

وقد يقول قائل: ولكن هذا المنع قد يؤدي الى دخول المدنيين هؤلاء في قتال المسلمين بما يوقع الضرر عليهم من دون ان يتمكن المسلمون من دفع ضررهم هذا. والحق ان الاسلام في التعامل مع مثل هذا الاحتمال كان واقعيا غير مغرق في المثالية النظرية، ولهذا نجد ان اباحة قتل هذه الأصناف اذا ما شاركت في القتال أمر محل اجماع بين العلماء ولنسمع الى الإمام الكاساني الحنفي حين يقول: «والأصل ان كل من كان من أهل القتال يحل قتله سواء قاتل أم لم يقاتل وكل من لم يكن من أهل القتال لا يحل قتله الا اذا قاتل حقيقة أو معنى بالرأي والطاعة والتحريض وأشباه ذلك» أ. هـ ومن نافلة القول ان نذكر هنا ان هذه الأحكام خاصة بالمدنيين من غير المسلمين، أما المدنيون المسلمون فلا يحل قتلهم بحال لان الاسلام يعصم دماءهم طالما لم يقترف أحدهم ما يوجب غير ذلك وفقا لما تحدده شريعة الاسلام من حد أو قود لقصاص.

* فتوى قتل المدنيين الأميركيين «استدلالات خاطئة»

* يتساءل الكثيرون عن المسوغات الشرعية لفتوى قتل المدنيين الأميركيين (فتوى اسامة بن لادن) وأحسب ان الذين أفتوا بها يؤسسون فتواهم تلك على عدد من الأحكام الشرعية تتمثل في الآتي: ان الأصناف التي استثنيت من القتل لورود نص فيها بالمنع لم تعد شرعا معصومة بعد ثبوت مشاركتها في المحاربة والمقاتلة بصورة أو بأخرى.

ويذكرون في هذا الصدد ان الشعب الأميركي كله صار محاربا لرضاه بالسياسات الأميركية ولقيامه بدفع الضرائب للحكومة الأميركية الفيدرالية. ان أي كافر دخل دار الاسلام أو أمكن القدرة عليه بدار الحرب جاز قتله ولا حرج على من قام بذلك في أي مكان في العالم.

تلك هي أبرز مستنداتهم التي يؤسسون عليها فتواهم بجواز قتل المدنيين الأميركيين في أي زمان ومكان.

ونحن هنا اذ نتصدى لنقض هذه الأسس لا ننطلق من الرغبة في تفنيد هذه الأدلة في الحالة المتعلقة بالمدنيين الأميركيين فحسب ولكننا ننظر الى القضية أيضا من منطلق الحرص على سلامة الأحكام الشرعية من تطرق الخلل اليها، فضلا عن ان مثل هذا التخريج الخاطئ فقهيا لربما يتم تنزيله على شعوب في حقيقتها مسلمة بدعوى انها ارتدت ومن ثم صارت مستباحة الدم المدني والعسكري منها على حد سواء وفي أي زمان وأي مكان لا فرق.

ومن نافلة القول التذكير بأن رفضنا لفتوى قتل المدنيين الأميركيين، لا يعني الموافقة على السياسات الأميركية الظالمة تجاه قضايا عالمنا الاسلامي، سواء كانت بالممالأة الصارخة لاسرائيل، والكيل بمكيالين لصالحها على حساب حق الشعب المسلم بفلسطين، أو كانت سياسة الصمت المريب تجاه حركة التحرر في الشيشان، أو كانت سياسة الحصار والخنق لكل ما هو اسلامي حتى ولو على حساب المبادئ الأميركية ذاتها، في اطار تفعيل نظرية صدام الحضارات والوصول لاحكام الهيمنة الأميركية على العالم وثرواته، سواء باللطف أو بالبطش، وذلك كما حدث في أفغانستان والعراق والبقية تأتي.

لكن هذا الرفض لتلك السياسات لا يمنعنا من التزام العدل الذي أمرنا الله به في كتابه: «يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين أن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وأن تلووا أو تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا» (النساء: 135).

أولا: بيان ان العلة التي تبيح القتل في أثناء القتال هي المقاتلة لا الكفر.

يخلط البعض بين أمرين هما السبب الذي يعلق على وجوده اباحة القتال مع فئة ما، والعلة التي تحدد من يجوز قتله أثناء اشتعال هذا القتال الذي توفر له السبب واكتملت فيه شروط اباحته وانتفت عنه الموانع التي تمنع من انفاذه.

فلا شك في ان الكفر أو الشرك هو السبب الذي لا بد من توفره من أجل اباحة قتال أي من الطوائف الكافرة أو المشركة، أما من يقصد بالقتل من بين أفراد هذه الطوائف عند التحام القتال، فهذه مسألة أخرى لا ينبغي الخلط بينها والمسألة الأولى، ولا يصح سوق الأدلة التي تحدد السبب المبيح للقتال للاستدلال بها في قضية من يجوز قتله من الكفار ومن لا يجوز. فهذه القضية لها تفصيل آخر لدى الفقهاء.

1ـ اتفق العلماء على ان هناك أصنافا من أهل الحرب من الكفار مستثناة من جواز القتل أثناء القتال وهي: النساء والأطفال والمجنون والمعتوه والخنثى المشكل.

2ـ ذهب جل العلماء من الحنابلة والحنفية والمالكية وأحد القولين عند الشافعية عدم جواز قتل الأصناف الآتية أثناء القتال: الشيخ الفاني، والزمني، والأعمى، والأجير، والراهب. 3ـ في القول الأظهر عند الشافعية يجوز قتل الأجير والراهب والشيخ والزمني والأعمى والفلاحين.

4ـ لا يجوز قتل الفلاحين عند الحنابلة والأوزاعي، أما الصناع فلا يجوز قتلهم عند ابن القاسم وعبد الملك من المالكية وأجازه سحنون المالكي.

5ـ كل الأصناف السابقة اذا ما قاتلت حقيقة أو معنى فيجوز قتلها باتفاق العلماء.

6ـ والسبب في الاختلاف بين جل العلماء والشافعية مداره على تحديد علة قتل المشركين هل هي الكفر أو الشرك ؟ أم قيامهم للقتال؟ فذهبت الشافعية في الأظهر عندهم ان العلة هي الكفر، أما جل العلماء فاعتبروا ان العلة هي الانتصاب للقتال.

والمتأمل في حجج الفريقين يجد ان قول جل العلماء الذي يجعل الانتصاب للقتال هو العلة، هو الراجح وذلك للآتي:

1ـ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل علة المنع من قتل المرأة هي عدم قتالها وقال: ما بال هذه قتلت وهي لا تقاتل. وهذا نص في محل النزاع لأن وصف الكفر قائم بها ومع ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتالها.

2ـ النهي الوارد في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الأجراء والشيوخ والرهبان، وان طعن في صحة بعضها فانها تتأيد بما روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في هذا الخصوص، وهذا النهي مع قيام وصف الكفر في هذه الأصناف يبين ان العلة الجامعة لمنع قتلهم هي عدم الانتصاب للقتال لا مجرد الكفر.

فاذا كان الشرع يمنع قتل هؤلاء حال اشتعال الحرب، فهل يتصور جواز ذلك في حال عدم اشتعالها؟! وهل يجوز القول بقتلهم في أي مكان في العالم لكفرهم، وقد علمنا ان العلة الصحيحة التي تبيح قتلهم أثناء القتال هي: الانتصاب للقتال لا الكفر.

ثانياً: خطأ القول باباحة قتل المدنيين الأميركيين في أي مكان في العالم.

ان القول باباحة قتل المدنيين ـ كل المدنيين ـ الأميركيين في أي مكان في العالم لا يصح لعدة أسباب:

1ـ ان هذا يعني جواز قصد النساء والأطفال بالقتل رغم ان هذا لا يجوز باجماع العلماء، فضلا عن عدم جواز قصد الرهبان والشيوخ والأجراء ومن في معناهم بالقتل عند جل العلماء.

2ـ ان هذا الاستهداف للأميركيين على أساس جنسيتهم سيترتب عليه تجويز قتل المسلمين الحاصلين على الجنسية الأميركية سواء كانوا من الرجال أو النساء أو الأطفال وهو أمر لا يجوز. وهذا يبين التعميم الخاطئ الذي وقعت فيه هذه الفتوى.

3ـ لا يصح القول باباحة قتل كل المدنيين الأميركيين لرضاهم بالسياسات الأميركية ولدفعهم الضرائب للحكومة الفيدرالية مما يدخلهم في عداد الفئات المحاربة; لأن العديد من هؤلاء لا يؤيد السياسات الأميركية وبعضهم لا يدفع الضرائب، فضلا عن ان منهم مسلمين قد يدفعون هذه الضرائب، ولا يوجب ذلك اباحة دمائهم بحال.

ثالثا: بيان خطأ الفتوى من حيث عدم تفريقها بين أحكام القتل والقتال: جانبت فتوى اباحة قتل المدنيين الأميركيين في أي مكان في العالم الصواب; وذلك لاهمالها الفرق بين أحكام القتل وأحكام القتال وبيان ذلك:

ان استهداف قتل المدنيين الأميركيين من نساء وأطفال وشيوخ ومن في معناهم، لا يدخل في أحكام القتال، حيث لا قتال دائر بالفعل بينهم وبين غيرهم في هذا المكان أو ذاك وانما يندرج ذلك في أحكام القتل للفرد.

فهناك من يعتقد ان كل من جاز قتاله جاز قتله، ويترتب على ذلك الاعتقاد جواز قتل أي فرد من أفراد فئة معينة يباح قتالها سواء كان القتال مستمرا أو منتهيا.

ولا شك في خطأ هذا الاعتقاد; لأن للقتال أحكاما تخصه، وهذا ما دفع العلماء للاسهاب في بيان هذا التفريق وتوضيحه لما يترتب على اهماله من أخطاء لا تخفى.

ولنستعرض أولا طرفا من أقوالهم التي توضح ذلك:

قال الإمام الشافعي: «ليس القتال من القتل بسبيل قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله» أ.هـ وقال بن دقيق العيد: «ولا يلزم من اباحة المقاتلة اباحة القتل; لأن المقاتلة مفاعلة تستلزم وقوع القتال من الجانبين ولا كذلك القتل» أ.هـ فهذه أقوال العلماء التي توضح ان اباحة القتال لا تعني بالضرورة اباحة القتل لذات الشخص، ولعل في ذكر بعض الأمثلة ما يزيد الأمر وضوحا:

1 ـ البغاة الخارجون عن طاعة الإمام لا يجوز قتل أفرادهم قبل اعلانهم القتال والخروج عن قبضة الإمام، وفي هذا المعنى نذكر ما دار بين الإمام على بن أبي طالب، ورجل من الخوارج وقف على باب المسجد والإمام علي يخطب فقال الرجل: لا حكم الا لله، فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل. ثم قال: لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله ان تذكروا فيها اسم الله تعالى، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتال» أ. هـ ولذلك يقول صاحب الشرح الكبير: «وان أظهر قوم رأي الخوارج ولم يجتمعوا لحرب لم يتعرض لهم» مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، الا انهم لم يجتمعوا لحرب ولم يخرجوا عن قبضة الإمام ولم يسفكوا الدم الحرام، فحكى القاضي عن أبي بكر انه لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور أهل الفقه» أ. هـ وكذلك اذا لم يحضر أحد الخارجين عن طاعة الإمام القتال مع الفئة الباغية أو حضر وولى الأدبار أو جرح فإنه لا يحل قتله في أي من هذه الحالات لأن قتاله استبيح لرده الى طاعة الامام وأمنعه من بغيه وخروجه عن قبضته وهو ما تم سواء بالانصراف أو الهروب أو الجرح.

2ـ الصائل على النفس والعرض والمال يجوز مقاتلته ولكنه لا يجوز قتله حال انتهائه عن الصيال والعدوان.

3ـ قطاع الطريق المحاربون يقاتلون لكن اذا قدر على أحدهم منفردا فانه يعاقب بموجب العقوبة المناسبة لجرمه السابق.

4ـ الكافر يجوز قتله أثناء القتال أما اذا أسر، فالإمام مخير فيه على حسب المصلحة التي يراها.

5ـ المانعون للزكاة بخلا يجوز قتالهم، لكن عن الممتنع عن أداء الزكاة للإمام فانه يؤخذ ويكرهه الإمام على أداء الزكاة ولا يحل قتله.

ومما سبق يتضح انه لا يجوز قتل السائح الكافر لمجرد انتسابه لفئة أو دولة يجوز مقاتلتها، لأن مثل هذا السائح قد يكون دخل بأمان للبلاد المسلمة أو دخل بلاد غير المسلمين الذين بينهم وبين دولة الاسلام معاهدة وصلح، وكل هذا يبنى على التفريق بين أحكام القتل وأحكام القتال وفقا لما قرره علماء الأمة من انه لا يلزم من اباحة المقاتلة اباحة القتل على حد تعبير ابن دقيق العيد رحمه الله.

وهذا يعني ان هؤلاء المدنيين رغم انهم لا يصح استهدافهم بالقتل أثناء القتال فمن باب أولى لا يصح قتلهم في غير القتال الا بسبب يبيح ذلك القتل.

وعلى فرض وجود بعض هؤلاء المدنيين في مكان ما من العالم قد قام بهم وصف مبيح للقتل فلربما يوجد مانع يمنع من ذلك كوجود أمان ممنوح لهم ممن يعتد بأمانه من دولة أو أفراد أو وجود صلح صحيح شرعا بين الدولة التي يوجد فيها هذا الأميركي المدني بأميركا.

فاذا رأت «القاعدة» ان قتال أميركا اليوم واجب شرعي فلا يعني هذا جواز قتل كل أميركي مدني في أي مكان في العالم لانه كما قال الإمام الشافعي: «قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله».

وهكذا يظهر لنا ان هذه الفتوى قد خالفت الصواب لأكثر من سبب:

ـ فهي اعتمدت على ان علة المقاتلة هي الكفر، وهذا غير صحيح.

ـ وهي قد عممت القول بقتل كل المدنيين من دون احتراز من وجود أميركي مسلم، أو من لا يجوز قتله من الأميركيين بين هؤلاء المدنيين.

ـ وهي لم تفرق بين أحكام القتال وأحكام القتل.

ـ ورغم هذا الخلل الشرعي الذي يكتنف هذه الفتوى، الا انها وضعت موضع التطبيق في بلدان عدة ومن خلال أعمال اعتمدت أسلوب التفجيرات العنيفة لايقاع أكبر عدد من القتلى الأميركيين، ولتفتح بوابة المواجهة بين «القاعدة» وأميركا على مصراعيها، ولتمتد ساحة المواجهة عبر أقطار عديدة بطول العالم وعرضه، من باكستان وأفغانستان واندونيسيا والفلبين شرقا ومرورا بالعراق والسعودية وكينيا وتنزانيا وأميركا، وانتهاءاً بالدار البيضاء بالمغرب في أقصى الغرب.

* من له حق الفتوى

* في أيامنا هذه تتجدد تلك الظاهرة وتستشري وينجم عنها فساد كبير، حيث يتصدى لمسائل عويصة تتعلق بمستجدات عصرية في أبواب الجهاد والحاكمية والأبضاع والأموال من ليس له أهلية شرعية تؤهله لدخول هذا المعترك الصعب، ولعل هذا الخلل يمثل واحدا من أهم أسباب الأخطاء التي تتوالد وتتزايد في حياتنا اليومية، وخاصة في ما يتعلق بتنزيل أحكام الجهاد على الواقع المعاش، فاغتصاب دور المجتهدين من قبل غير المؤهلين سيؤدي لا محالة إلى نظر قاصر للواقع وعدم إدراك للمصالح والمفاسد المتعارضة وكيفية الموازنة والترجيح بينها، ومن ثم إصدار الأحكام الخاطئة التي تخاصم الكتاب والسنة، ولذلك فإنه من الأهمية أن نشير الى بعض الأمور التي تبين صفات المجتهدين وشروطهم وكيف يزاولون مهامهم لعل ذلك يسهم في تقويم هذا الخلل، ولنلق الضوء أولا على المقصود بتنزيل الأحكام على الواقع لنميزه عن الأدوار الأخرى التي يقوم بها المجتهد.

الاجتهاد الشرعي والمجتهد هو: الفقيه الذي توفرت لديه آلة الاجتهاد والمستفرغ لوسعه من أجل تحصيل حكم شرعي ظني.

والمجتهد حين يمارس عملية الاجتهاد فإنه يزاول أكثر من عمل يمثل كل منها ضربا من ضروب الاجتهاد وهذه الأعمال هي: 1 ـ محاولة حصر الأوصاف التي تصلح أن تكون علة للحكم، وذلك من خلال النظر لنصوص الكتاب والسنة، ومثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن حكم استخدام سمن وقعت فيه فأرة فقال: ألقوها «وما حولها وكلوا سمنكم». فالفقيه يحاول حصر الأوصاف التي يمكن أن تكون أثرت في هذا الحكم وتصلح لتكون علة: هل المؤثر أن السمن لم يتغير بالنجاسة لوجود الفأرة الميتة فيه، أم أن العلة تتعلق بكون السمن كان جامدا، أو يتعلق بفأرة وقعت في سمن فلا يتعدى إلى سائر المائعات، وهذا الضرب من ضروب الاجتهاد يسميه علماء الأصول تنقيح المناط أو العلة.

2 ـ تحديد العلة المؤثرة من بين مجموعة العلل التي استخرجها الفقيه في الضرب السابق ـ أي تنقيح المناط ـ والتي توجد مناسبة بينها وبين الحكم وهو القياس المحض. ومثاله: تحديد علة تحريم الخمر بالإسكار من بين أوصاف أخرى قد تتعلق بمعنى الخمر أو نوعها أو غير ذلك، وهذا النوع يسميه الأصوليون تخريج المناط أي استخراج العلة المؤثرة.

3 ـ التحقق من ثبوت الأوصاف والعلل التي علق الله عليها الأحكام في الأنواع التي سينزل عليها الأحكام في الواقع المعاش، ومثال ذلك: التأكيد من توفر وصف العدالة المشترطة شرعا في الشهود الذين سيشهدون في قضية معينة، أو التثبت من قيام الأسباب والشروط وانتفاء الموانع التي وضعها الله معرفة لحكمه في الواقع الذي سينزل عليه الحكم، وهذا الضرب من ضروب الاجتهاد يسميه الأصوليون تحقيق المناط، أي التأكد من ثبوت العلة في الواقع المحكوم عليه.

وهذه الأضرب الثلاثة للاجتهاد تتعلق بمعرفة النصوص الشرعية والأحكام المستنبطة منها والعلل والأوصاف المؤثرة التي علق الله عليها الأحكام وأيضا معرفة الواقع الذي سينزل عليه هذه الأحكام.

ومن هذا الاستعراض نستطيع القول: إن عملية تنزيل الأحكام على الواقع أو «تحقيق المناط» بالتعبير الأصولي تمثل قمة العمل الاجتهادي الذي يتعلق بالمطابقة ما بين الحكم الشرعي والواقع.

صفات المفتي وتدور هذه الشروط حول ما يساعد على تحصيل الكفاءة المتطلبة لهذه المهمة، ومن ثم فهي تتعلق باتجاهات ثلاثة هي:

1 ـ الإحاطة بمدارك الأحكام الشرعية، وما يعين عليها من علوم، وهنا يدرج العلماء عدة شروط لتحقيق تلك الإحاطة وهي:

العلم بكتاب الله لغة وشرعا.

العلم بالسنة النبوية رواية ودراية.

العلم بمواطن الإجماع كي لا يأتي اجتهاده على العكس من حكم مجمع عليه.

العلم بوجوه القياس.

العلم بالناسخ والمنسوخ من الآيات والأحاديث.

العلم بأصول الفقه.

العلم باللغة العربية.

ولقد حدد العلماء حدودا لما ينبغي تعلمه في كل فرع من هذه الفروع يمكن الرجوع إليها في مواطنها من كتب الأصول.

2 ـ الصفات الذاتية المطلوبة في المجتهد :

اشترط العديد من علماء الأصول توفر عدة صفات فيمن ينال رتبة الاجتهاد وهي:

الإسلام والبلوغ والعقل.

العدالة.

النية الخالصة.

الحلم والوقار والسكينة.

الكفاية وعدم الاحتياج لما في أيدي الناس والسلاطين.

الذكاء والفطنة.

ومن الواضح أن بعض هذه الشروط واجب توافرها وبعضها من شروط الكمال.

وقد يقول قائل إن هذه الشروط تتعلق بمرتبة المجتهد المطلق ولا يسهل توفرها في شخص بعينه في مثل هذا الزمان، وإذا ربطنا الاجتهاد والفتوى وإبلاغ الأحكام وتدريس العلوم بتوفر ذلك فلن نجد أحدا يقوم بهذه المهام، خاصة في تلك الأزمان التي تشعبت فيها العلوم الوضعية وانصرف الناس عن ملازمة الدراسة الشرعية. وبعد هذا الاستعراض التفصيلي لبعض مسائل الاجتهاد يتضح لنا حجم الجناية التي يرتكبها من يقدم على الإفتاء من دون توفر الشروط المطلوبة شرعا فيه، وتظهر فداحة الأخطاء التي ستتولد من جراء اغتصاب دور المجتهدين في معالجة قضايا الواقع لحساب بعض الهواة أو المجترئين. وبالنظر إلى القواعد الست الضابطة لعملية تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع الجزئية سنجد أن تجاهلها كلها أو إهمال بعضها، يقف وراء ظهور العديد من الأخطاء التي تمور بها الساحة الإسلامية عبر ربوع العالم شرقا وغربا. ويأتي الخطأ في تنزيل الأحكام الشرعية على الواقع المعاش، كثمرة من ثمرات تجاهل إعمال هذه القواعد التي قررتها الشريعة لضبط عملية تنزيل الأحكام على الوقائع. فهذه القواعد أشبه بالمرشد الذي يساعد الفقيه عند نظره في فتوى معينة، كي يصل إلى التنزيل الصحيح للحكم الشرعي على الواقع المستفتى له.