استراتيجية «القاعدة» و تفجيراتها «5» أغلب ضحايا تفجيرات «القاعدة» من المسلمين أو ممن لا يجوز قتلهم

الأحكام الاجتهادية تتغير بتغير الزمن والشريعة نهت عن إقامة الحدود عندما يكون الجيش المسلم بأرض العدو

TT

يواصل قادة الجماعة الاسلامية المصرية في هذه الحلقة من كتابهم «استراتيجية وتفجيرات «القاعدة» .. الأخطاء والأخطار»، والذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشره، نقدهم وتقييمهم الشرعي لتفجيرات تنظيم «القاعدة» من الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) 2001 ولتفجيرات الرياض والدار البيضاء العام المنصرم. وتناقش هذه الحلقة من الكتاب الأدلة الشرعية حول صحة تنزيل تفجيرات «القاعدة» على أرض الواقع ، مع مناقشة القواعد الأصلية الضابطة لتنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع والأحداث الجارية حيث تبدو هي أكثر الأخطاء شيوعا . كما يبين المؤلفون في هذه الحلقة العلاقة الارتباطية بين الفتوى والواقع الذي سيتم تنزيل الحكم عليه ، ابتداء من اعتبار الشريعة الاسلامية للمتغيرات الطارئة في الواقع المعيش أثرا في الأحكام التكليفية التي فرضها الله على العباد ، مرورا بتقرير الشريعة جملة من الأحكام لمواجهة الظروف الاستثنائية التي قد يتعرض لها الانسان خلافا للأحكام المقررة في الأحوال الاعتيادية والطبيعية، وصولا الى ان الشريعة قد نهت عن اقامة الحدود والجيش المسلم بأرض العدو ابان الغزو الى ان يعود الجيش مرة أخرى لدار الاسلام، مستدلين عبر هذا كله بروائع السيرة النبوية ، مستحضرين نماذج فقه الواقع من حياة الصحابة رضي الله عنهم . يعد أسلوب التفجيرات بالغة العنف هو الأسلوب الأثير لدى تنظيم «القاعدة» منذ الاعلان عن تشكيل «الجبهة الاسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين»، ومنذ الاعلان عن فتوى قتل المدنيين الأميركيين في كل مكان وزمان.

والناظر في وقائع هذه التفجيرات التي شملت أقطارا عدة ككينيا وتنزانيا واندونيسيا وأميركا وباكستان واليمن والسعودية والمغرب سيجد اننا لسنا بصدد النظر في تفجيرات موجهة الى مستعمر غاشم أو محتل آثم أو انها حادثة حال اشتعال حرب طرفها الآخر دولة من تلك الدول، انما هذه التفجيرات باتت تحدث في أقطار اسلامية وبعض البلدان ليست طرفا في أي مواجهة مباشرة مع تنظيم «القاعدة» أو الاسلاميين.

وباتت هذه التفجيرات تستهدف أيضا مواقع يختلط فيها اناس من مختلف الديانات والجنسيات، ومن ثم صار أكثر ضحاياها من المسلمين أو من غيرهم مما لا يجوز قتلهم، وأدنى تأمل عابر في ديانة وجنسية الضحايا سينتهي الى صدق تلك النتيجة من دون عناء كبير. ولو أخذنا على سبيل المثال بعض التفجيرات التي نسبت الى تنظيم «القاعدة» القيام بها في بعض الدول الاسلامية لوجدنا ان أغلب الضحايا كانوا من المسلمين أو من جنسيات أخرى غير مستهدفة.

ونجم عن تلك العمليات ان أصبحت الدول المستهدفة متوحدة في مواجهة الحركات الاسلامية عامة وتنظيم «القاعدة» خاصة مما أسهم في تعاون تلك الدول وتدويل وعولمة تلك المواجهة بطول العالم وعرضه.

ومع بروز هذه المفاسد ووقوع العديد من المسلمين وغيرهم قتلى دونما سبب يبيح ذلك; كان لزاما علينا تقييم تلك التفجيرات بميزان الشريعة الذي لا يحابي أحدا ولا يجحف بأحد.

* القواعد الأصولية الضابطة لتنزيل الأحكام الشرعية على أرض الواقع عند البحث عن أكثر الأخطاء شيوعا بين الذين يمارسون الجهاد اليوم ستأتي ـ في المقدمة ـ تلك الأخطاء الناجمة عن تلك الأحكام الشرعية بشكل غير صحيح على الواقع المعاش، والأعمال المنسوبة لتنظيم «القاعدة» خير دليل على ذلك.

فقد لا يختلف كثيرون حول الأحكام النظرية للجهاد، ولكنهم عندما يبدأون في الحديث عن الواقع وأحكامه تتباين الرؤى وتتضارب الأحكام وتتزايد هوة الخلاف، فهذا يرى ان المصلحة كل المصلحة في القتال، وآخر يرى الشر كله في انفاذه، والبعض يرى ان أسباب الجهاد وشروطه مكتملة والموانع منتفية، وآخرون يرون ان الأسباب مفتقدة أو الشروط غير مكتملة أو الموانع قائمة، وهناك من يرى ان السلطة الحاكمة ببلاده تتمتع بالمشروعية الاسلامية، وآخر ينفي عنها ذلك، وربما تجد من يعتبر تأشيرة الدخول الممنوحة للسائحين بمثابة أمان لهم بينما لا يعدها البعض كذلك... الى غير ذلك من الأمثلة والتي يتحدث كل طرف فيها على أساس رؤيته للواقع، وهكذا سنجد تباينا كبيرا بين تلك الآراء مرده في الحقيقة الى الاختلاف في تنزيل تلك الأحكام على الواقع، وهذا ما يولد العديد من الأخطاء.

وهذا النمط من الأخطاء قد ينجم عن أسباب عديدة، فهو تارة ناجم عن اسناد مهمة تنزيل أحكام الجهاد الى غير المختصين من العلماء المجتهدين، الذين لا يعلمون القواعد الشرعية الضابطة للقيام بهذه المهمة، وتارة قد ينجم عن اهمال العلاقة الارتباطية بين الحكم الشرعي والواقع الذي سيتم تنزيله عليه، وقد يكون السبب في تلك الأخطاء الخلل في ادراك الواقع على حقيقته، وإذا أردنا ان نجمل الأسباب السابقة في عبارة واحدة فيمكن القول: ان الاخلال بالقواعد الشرعية المنظمة لتنزيل الأحكام الشرعية على الواقع يمثل السبب الجوهري المولد لتلك الأخطاء.

ولقد ذخرت الشريعة الاسلامية بالعديد من النصوص التي توضح العلاقة الارتباطية بين الفتوى ـ أو تنزيل الحكم الشرعي ـ والواقع الذي سيتم تنزيل الحكم عليه، ولقد عنى علماء الاسلام بتحديد رتب المصالح المشروعة التي يجب مراعاتها، والمفاسد التي يجب درؤها عند النظر في الواقع الذي سيتم تنزيل الحكم الشرعي فيه، وربطت الشريعة الغراء القيام بالتكاليف الشرعية بالقدرة على القيام بها، وحددت الشريعة بكل جلاء ان الذين يناط بهم مثل هذه المهمة هم العلماء المجتهدون الذين هم على دراية بالحكم الشرعي وفهم الواقع المعاش بكل تعقيداته.

ولنلق الضوء على هذه الأمور، والتي تمثل في مجملها أهم القواعد الأصولية الضابطة لتنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع الجزئية، والتي يمكن ان نلخصها في الآتي: ارتباط تنزيل الحكم الشرعي باستيعاب الواقع.

عندما قرر علماء الفقه قاعدتهم الشهيرة التي يقولون فيها: «ان الحكم الشرعي على الشيء فرع عن تصوره» كانوا يؤكدون بذلك على تلك العلاقة الارتباطية بين الحكم الشرعي والواقع الذي سيحكم عليه، حيث لا ينبغي ان يصدر حكم على شيء معين الا بعد التعرف على ماهية ذاته، وما يحيط به من أحوال في اطار الزمان والمكان في لحظة اصدار الحكم.

وهذه «القاعدة» يوضحها الإمام ابن القيم باقتدار في قوله: «لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق الا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلاقات حتى يحيط بها علما، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا».

والحقيقة ان ما قرره هؤلاء العلماء يمثل استنباطا دقيقا من نصوص الكتاب والسنة التي تظاهرت على وجوب استيعاب الواقع بتفصيلاته قبل تنزيل الحكم الشرعي عليه أو بعبارة أخرى ضرورة فقه الواقع قبل اصدار الأحكام أو اتخاذ القرارات ورسم الاستراتيجيات.

* الشريعة ووجوب فقه الواقع تتبوأ قضية فقه الواقع موقفا متميزا في القرآن والسنة وعقول علماء الأمة، ويمكن ان نستعرض بعض الشواهد الدالة على ذلك:

أولا: اعتبرت الشريعة الاسلامية للمتغيرات الطارئة في الواقع المعاش أثرا في الأحكام التكليفية التي فرضها الله على العباد ومن أمثلة ذلك:

جعلت الشريعة التيمم بدلا عن الوضوء عند افتقاد الماء أو لخوف مرض أو ضرر وهو ما قرره قوله تعالى: «وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم» (النساء: 43).

وكذلك جعل الاسلام للسفر أثرا في قصر الصلاة الرباعية الى ركعتين وجمع الصلوات، وأباح للمسافر الفطر في نهار رمضان اعتبارا لأثر المشقة التي قد تلحقه من سفره.

وأيضا أباح الاسلام حال الخوف والحرب للمسلمين أداء الصلاة على صورة أخرى غير الصورة المعهودة مراعاة لهذه الظروف، حتى ان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «فان كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها».

فاذا كان الاسلام جعل لمثل هذه التغيرات البسيطة سواء لفقد الماء أو لطروء السفر أو قيام الحرب أثرا في تحديد الحكم الملائم لتلك المستجدات في الواقع، فمن الطبيعي ان تكون هذه هي «القاعدة» الأصلية في الشريعة التي قررتها أمثلة أخرى عديدة بجانب ما ذكرناه آنفا.

ثانيا: قررت الشريعة جملة من الأحكام لمواجهة الظروف الاستثنائية التي قد يتعرض لها الانسان خلافا للأحكام المقررة في الأحوال الاعتيادية والطبيعية، وهو ما يوضح أهمية اعتبار الواقع ومستجداته في تشريع الحكم أولا وكذلك في تنزيل هذا الحكم عليه بعد ذلك لمعرفة مدى قيام شروط الحالة الاستثنائية فيه من عدمها، ومن أمثلة هذه الأحكام ما يعرف بأحكام الضرورة التي من خلالها يباح للمكلف القيام بأمور يحرم اتيانها في الظروف العادية، وذلك كجواز أكل الميتة لمن خاف على نفسه الهلاك مصداقا لقوله تعالى: «انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه ان الله غفور رحيم» (البقرة: 173).

ثالثا: ان الشريعة نهت عن اقامة الحدود والجيش المسلم بأرض العدو ابان الغزو الى ان يعود الجيش مرة أخرى لدار الاسلام، وهذا النهي جاء مراعاة لواقع الحرب والمعركة والتي قد تؤدي اقامة الحد فيها على رجل الى لحوقه بالكفار، وفي هذا الحكم تنبيه على دراسة التفاعلات النفسية التي قد تختلج بها النفوس عندما يراد تنفيذ حكم شرعي عليها في واقع معين وفي ظل ظروف معينة، ولعل هذا ما أشار اليه عمر رضي الله تعالى عنه ـ حين كتب الى الناس: «ان لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا; لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار».

رابعا: ان تنزيل الأحكام الشرعية على الواقع يحتاج للتأكيد من توفر سبب وشروط هذا الحكم وانتفاء موانعه، وهذا لا يتأتى الا بالدراسة الدقيقة لجزيئات الواقع الذي سيتم تنزيل الحكم عليه، وهو ما يستوجب الفقه العميق للواقع.

خامسا: ان العلماء اتفقوا على ان الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والمقاصد والأعراف وسبيل الوقوف على مثل هذه التغيرات هو الإلمام الدقيق بالوقائع المتجددة والأعراف المتغيرة والمصالح الطارئة.

ولقد عقد الإمام ابن القيم فصلا بديعا في كتابه أعلام الموقعين عالج فيه هذه القضية وعنونه بـ«فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد».

ولنعرج على هذه «القاعدة» بشيء من التفصيل:

* مضمون قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان «من المتفق عليه ان جميع الأحكام الاجتهادية التي بنيت على المصالح تتبدل بتبدلها لان الأحكام تدور مع علتها وجودا وعدما. ومن المسلم ان تبدل الأحكام بتبدل الأزمان يقتصر على الأحكام الاجتهادية سواء بنيت على القياس أو المصلحة المرسلة أو العرف، ولكنها لا تنطبق على الأحكام الأساسية التي نظمتها الشريعة بنصوص آمرة أو ناهية قطعية الدلالة والثبوت مثل تعيين الورثة وانصبتهم وما قررته من أصول عامة مثل الوفاء بالعهد، وضمان الضرر، حماية الحقوق.. الخ.

وهذه الأحكام تقررت لجلب النفع للناس ودفع الضرر عنهم، وهي أهداف لا تتغير ولا تتبدل لأن المقاصد العامة للشريعة التي يهدف اليها الشارع في أحكامه ـ وهي كفالة ضروريات الناس وحاجياتهم وتحسيناتهم ـ لا تتغير وفهم هذه المقاصد من الأمور اللازمة لفهم النصوص الشرعية وتطبيقها على الوقائع المتجددة، واستنباط الحكم فيما لا نص فيه. غير ان الوسائل التي توصل الى تحقيق هذه المقاصد، قد تفي بالوصول الى تحقيق هذه المقاصد في زمن معين أو مكان معين وقد تقصر عن بلوغ تلك الغاية في زمن آخر ومكان آخر ومن هنا وجب تغيير هذه الوسائل بما يحقق تلك المقاصد، فتعدل الأحكام.

واهم عوامل تغير الزمان فساد الأخلاق وضعف الوازع الديني، وقد عبر عنها الفقهاء بتعبير فساد الزمان. وقد يكون التغيير راجعا الى تطور ظروف المجتمع الاجتماعية والاقتصادية أو السياسية.. الخ، وتغير أعرافهم وقد عبر الفقهاء عن ذلك بتغير الزمان. وهذا التغير في الحالتين، يقتضي تعديل الأحكام الاجتهادية الفقهية لتتلاءم مع الأوضاع الجديدة.

ومبدأ تغير الأحكام الاجتهادية بتغير الزمان من المبادئ المسلمة في الفقه الاسلامي طيلة عصور تطوره. ففي عهد الخلفاء الراشدين تغيرت بعض الأحكام نتيجة لتغير الزمان، وظل الحال كذلك في عهد الأئمة مؤسسي المذاهب الاسلامية الكبرى. والإمام الشافعي غير بعض الأحكام التي استقر عليها رأيه عندما كان في بغداد بعد ان جاء الى مصر لاختلاف العرف في البلدين، بل ان بعض الأحكام التي أخذ بها الإمام أبو حنيفة لم يأخذ بها صاحباه لتغير عصرهما عن عصره، واختلف رأي الفقهاء المتأخرين عن سابقيهم بسبب تغير الزمان وتغير المصالح».

* فقه الواقع.. من السيرة النبوية عندما اشتد الأذى بالمسلمين في مكة جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه المشورة فأجابهم اجابة كافية شافية: «لو خرجتم الى أرض الحبشة فان فيها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما انتم فيه».

وهذه الاجابة على اختصارها تحمل بين طياتها فقها دقيقا للواقع الذي كانت تعيشه الفئة المؤمنة ليس في مكة والجزيرة العربية فحسب بل في العالم كله.

فقد كان أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ان يدلهم على الهجرة الى بلاد فارس أو الروم، لكنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم المخاطر التي كانت تكتنف ذلك الخيار، ويدرك سهولة استرداد قريش لهؤلاء المهاجرين اذا ما اتجهوا لأي من الوجهتين، فالعلاقة التجارية بين قريش والشام ومثلها مع اليمن قد تتغلب على أي اعتبارات أخرى في تلك القضية، كما ان عمق التباين العقيدي مع فارس وأيضا الروم بدرجة أقل قد يتسبب في اضطهاد هؤلاء المهاجرين; ثم ان الأباطرة والأكاسرة الجبابرة لا يميلون الى احتضان مثل هؤلاء المهاجرين لما قد يجره ذلك من تشجيع على التمرد عليهم اذا ما اتجه بعض رعاياهم أو مناوئيهم الى طلب اللجوء من قريش ليبعدوا عن قبضتهم.

ونفاجأ بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يدلهم على اتجاه ثالث حيث الحبشة أرض الصدق كما سماها لأصحابه، ويفاجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاجأة أخرى تثير الاعجاب عندما يلخص لأصحابه جوهر نظام الحكم هناك «فان بها ملكا عادلا، لا يظلم عنده أحد».

هكذا يأتي الخيار النبوي لهذه الفئة المؤمنة المضطهدة بما يحقق أكثر من نطاق من انطقة الأمان:

ـ فهناك نطاق الأمان الجغرافي حيث تفصل بين مكة والحبشة جبال ومفاوز وبحار.

ـ وهناك نطاق الأمان السياسي حيث رأس النظام السياسي بالحبشة يتسم بالعدل ويأبى الظلم.

ـ وهناك نطاق الأمان الناجم من وهن العلاقات الاقتصادية بين قريش والحبشة.

ـ وهناك نطاق الأمان الناجم عن عدم سيطرة أي من القوتين العظيمتين فارس والروم على نظام الحكم بالحبشة فضلا عن التباين المذهبي بين نصارى الحبشة والروم.

وهكذا نجد ان المقدمة الصحيحة في تلك القصة كانت الاستيعاب الدقيق لمعطيات الواقع مما مهد للوصول الى القرار الصحيح والخيار الرشيد المتمثل في السماح لهؤلاء المضطهدين بالهجرة الى الحبشة حتى يجعل الله لهم فرجا.

وهذا الفقه النبوي للواقع مثل مدرسة تعلم فيها أصحابه الكرام ونهل منها علماء الأمة على مر العصور فتركوا لنا ميراثا قيما يحتاج منا الى وقفة للتأمل فيه والتعلم منه.

* نماذج لفقه الواقع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وسنقتطف من هذه النماذج من سيرة عمر رضى الله تعالى عنه تلك السيرة الثرية التي ستظل وارفة الظلال كثيرة العطاءات لكل العاملين لهذا الدين.

أولا: عدم قطع يد السارق في عام الرمادة والمجاعة: فقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: «لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة». ويعلق الإمام ابن القيم على ذلك فيقول: «قال السعدي: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: العذق النخلة، وعام سنة المجاعة فقلت لأحمد: تقول به؟ فقال: اي لعمري، قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه؟ فقال: لا اذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة».

قال السعدي: وهذا على نحو قضية عمر في غلمان حاطب: ثنا أبو النعمان عارم ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن حاطب ان غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة الرجل من مزينة، فأتى بهم عمر فأقروا، فأرسل الى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له: ان غلمان حاطب سرقة ناقة رجل من مزينة وأقروا على انفسهم، فقال عمر: «يا كثير بن صلت اذهب فاقطع أيديهم، فلما ولى بهم ردهم عمر ثم قال: أما والله لولا اني أعلم انكم تستعملونهم وتجوعونهم حتى ان أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم، وايم الله اذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك. ثم قال: يا مزني بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربعمائة. قال عمر اذهب فاعطه ثمانمائة».

وهذا كله يبين أثر الواقع وتغيره في تنزيل الحكم الشرعي عليه.

ثانيا: نصيحة عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص بشأن فتح مصر:

أرسل عمر بن الخطاب الى عمرو بن العاص يرد على رسالته اليه بشأن فتح بقية مصر: «... فاذا قرأت كتابي هذا فاستعن بالله واربط الخيل وأرسل الأمراء لكل بلد ليقيموا شرائع الدين، وان بمصر مدينتين احداهما يقال لها: اهناس، والثانية يقال لها: البهنسا، وهي أمنع وأحصن وبلغني ان بها بطريركا روميا يقال له البطليوس فلا تقربوا الصعيد حتى تفتحوا هاتين المدينتين.. وأقم انت بمصر وأرسل الأجناد».