كتاب دينيس روس ـ السلام المفقود (الحلقة الأولى): إهداء لأطفال الشرق الأوسط.. وأسرار على مسارات السلام الثلاثة

روس: الملك حسين تعهد لكلينتون بالسير نحو السلام بشرط الاستجابة لاحتياجاته

TT

تنفرد «الشرق الأوسط» وبدءا من اليوم بنشر حلقات غنية بالمعلومات والتاريخ من كتاب الدبلوماسي الأميركي دينيس روس (السلام المفقود.. خفايا الصراع حول سلام الشرق الأوسط) THE MISSING PEACE The Inside Story of the Fight for Middle East Peace وروس غني عن التعريف، فقد عمل مبعوثا لبلاده للشرق الأوسط من 1988 الى عام 2000، أي لاثنتي عشرة سنة كاملة، عمل خلالها مع جورج بوش الأب لأربعة أعوام، ثم لثمانية أعوام مع الرئيس السابق بيل كلينتون. ويقينا فقد أتاحت له سنوات بهذا التواصل أن يكون شاهد عيان ومواكبا، بل وصانعا لأحداث كثيرة في سلام الشرق الأوسط في مساراته الثلاثة، والإشارة هنا الى المسار الأردني والفلسطيني والسوري، فتجده يحدثك عن كواليس اتفاق وادي عربة مع الأردن، فيقدم تحليلا لمواقف العاهل الأردني الراحل الملك حسين، وسياسات الأردن منذ جده الملك عبد الله الأول. ومن الطبيعي أن يقدم روس صورة قريبة للانحناءات والتعرجات التي شهدها المسار الفلسطيني، سواء مع وتائر التغيير الذي صاحب القيادة الإسرائيلية، بدءا من اغتيال رابين، مرورا بفوز نتنياهو، وانتهاء بقدوم باراك، والتأثير المباشر لهذه الشخصيات على مسار الحدث الاسرائيلي والفلسطيني، أو لطبيعة المخاض الذي عايشته القيادة الفلسطينية منذ قمة مدريد واتفاق أوسلو وانتهاء بقمة واي بلانتيشن وكامب ديفيد وصفقة الـ13 في المائة، مستشهدا بما سمعه. وطبيعي أن لا يغفل الصعود والهبوط الذي لازم المسار السوري.

ومن هنا لم يكن غريبا أن يولي المؤلف أيا منها حقه من تغطية تجمع بين ما هو تاريخي صرف، وتحليلي عميق، وبأسلوب أحسنت دار الكتاب العربي ببيروت، التي تعاقدت على نقل نص هذا الكتاب الى اللغة العربية، في نقله لقارئ اللغة العربية. والكتاب يقع في نحو 800 صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على 26 فصلا بالإضافة الى مقدمة واستهلال، وحمل إهداء موحيا يقرأ: الى أطفال الشرق الأوسط.

* في أعقاب الاجتماع، اتصلتُ بفايز وأفهمته بأننا نبذل قُصار جهدنا لاستنباط أفكار خلاّقة لتلبية الاحتياجات الأردنية. قُلت له إن الملك حسين مدعو إلى أن يكون دقيقاً جداً مع الرئيس كلينتون بشأن احتياجاته الأكثر أهمية من سواها. أضف إلى ذلك أنه سيُساعدنا حتماً على استقطاب الرئيس كلينتون ويمنحنا شيئاً نستخدمه مع الكونغرس «حبّذا لو يُخبر جلالته الرئيس بأن رسميين أردنيين وإسرائيليين سيجتمعون معاً عما قريب في كلٍ من الأردن وإسرائيل».

فهم فايز فحوى كلامي، وأشار إلى أن الملك يفكّر في هذه المسألة بالذات، وأنه سيبعث برسالة إلى الرئيس في المساء يُحدّد فيها بخطوط عريضة أهمّ احتياجاته ومتطلباته، والنواحي التي يُمكن أن نكون فيها مفيدين لهم. ووعدني فايز بتزويدي بنسخة من الرسالة حالما تتم صياغتها.

لخّصت رسالة الملك احتياجاته الاقتصادية والأمنية، وتعهَّد عبرها للرئيس بالسير نحو السلام، بشرط الاستجابة لاحتياجاته، طلب مني الرئيس كلينتون، في الحقيقة، إبداء الاستعداد للوقوف بجانبه. وقد ضم إلى رسالته ملحقاً يحتوي على عشرة مقترحات مختلفة أُعدّت للتعامل مع ظروف الأردن الاقتصادية والأمنية الآخذة في التحسّن. أعدّ مارتن المذكرة الإيجازية للرئيس، وضم إليها رسالة الملك وملحقها.

حين دخلنا على الرئيس في المكتب البيضاوي لتقديم إيجاز له قُبيل بدء اجتماعه بالملك حسين، كان قد قرأ الرسالة والملحق. أعرب الرئيس عن الرغبة في الاستجابة لطلبات الملك، وسأل أي المقترحات يُمكنه أن يُعطي بعض الردود الإيجابية عليها. على أية حال، كانت معظم البنود التي اقترحتها على شكل حزمةٍ يتم تقديمها للأردنيين، شبيهة إلى حد ما بما هو مدرج في طلبات الملك: معونة زراعية بموجب القانون العام 480، ضمانات قروض من مؤسّسة الاستثمارات الخاصة فيما وراء البحار، استعداد للضغط على حلفاء أميركا للتخفيف من الديون المستحقّة لهم، وتزويدهم بالذخائر وبالفائض لدينا من الأعتدة العسكرية (كان القانون يسمح لنا بتقديم ما يفيض عنا من أعتدة ومعدات عسكرية إلى بلدان نُصنّفها نحن مساوية لعلاقتنا بدول حلف شمال الأطلسي).

لا مشاحة في أن الملك سعى مع مرور الوقت إلى الحصول على المزيد من المعونة العسكرية والاقتصادية، لكن هذا كل ما طلبه في ذلك الحين.

قمنا بلفتُّ نظر الرئيس إلى الأثر الهائل الذي سيتركه أي تخفيفٍ مهمّ لديون الأردن على نفسية الملك. لكنني شدّدت، وكذلك فعل مارتن، على أن الملك يجب أن يعلم بأنه من دون خطوات مهمّة يتخذها على الصعيد السياسي تجاه إسرائيل، فلن تكون هناك أية فرصة لحلحلة موقف الكونغرس من الدَّيْن. وبعدما أشرتُ إلى أن استعداد الملك للقاء رابين علناً سيُمثّل خطوة كبيرة ولا شك، ذكرتُ بأنني لا أتوقع حصول شيء من هذا القبيل الآن، ولذلك من الأهمية بمكان في هذه المرحلة إقناع الملك بالموافقة على اجتماعات يعقدها المتفاوضون الإسرائيليون والأردنيون في كلا البلدين.

أدرك الرئيس قصدي، إنما بقي يُفضِّل التركيز باتجاه اجتماع الملك برابين. إن أسلوب كلينتون وإحاطته بالتفاصيل الدقيقة، كان لهما دائماً أعمق الأثر في من يلتقيهم. وقد اتضح ذلك جليا في هذا الاجتماع بالذات. فقد أدار كلينتون الاجتماع من دون الاستعانة بأية ملاحظات أمامه، فعكف وبقدرة على استعراض جميع النقاط الواردة في رسالة الملك وملحقها من غير الاستئناس بأية رؤوس أقلام، مما أثار إعجاب الملك وكبار معاونيه. ومن خلال تناوله مسائل المعونة إلى الأردن الأشبه ما تكون بالألغاز، وتبيانه ما نستطيع عمله وما لا نستطيع، استطاع الرئيس أن يُقنع الملك بأنه شخصياً متبحّر بعمق في احتياجات الأردن كافة، وأنه يبحث بنفسه عن طُرُق للاستجابة لها.

وبالنسبة للملك حسين، الزعيم الذي طالما علّق أهمية كبرى على العلاقات والالتزامات الشخصية، فقد أقنعته براعة الرئيس الفائقة في التعاطي مع التفاصيل بأنه، أي الرئيس، يضع الأردن وعاهل الأردن على رأس سلم أولوياته. وبعد استعراض كل مطلب من مطالب الأردن العشرة المدرجة في الملحق، ركّز الرئيس جُلّ وقته على الرغبة لديه في عمل شيء ما للتخفيف بدرجة كبيرة من أعباء الديون التي تُثقل كاهل الأردن. قال إنه يعلم أن ذلك هو المطلب الأهمّ من بين جميع مطالب الأردن الاقتصادية، وبأنه يُدرك بأن من واجبنا أن نُقنع كبار الدائنين الآخرين بالاستجابة لهذا المطلب أيضاً. لكن حتى يكون لنا أثر فعّال في الآخرين، ينبغي أن نتقدم الآخرين بضرب المثل الذي يُحتذى بأنفسنا.

وغير ذلك، أي الاكتفاء بحضّ الآخرين على التسليم باحتياجات الأردن، لن ينفع بأي حال. إن الرئيس يريدنا بالأحرى أن نكون قادرين على الإظهار للآخرين بأننا نعفي الأردن فعلاً من ديونه. وهذا ما سيجعل لنداءاته إلى الآخرين، ولا سيما إلى أبرز الدائنين من حلفائنا، أثراً أقوى بكثير.

بعد ذلك، تحوّل الرئيس للحديث عن واقعنا السياسي، فشرح أن الكونغرس سيرفض إعفاء الأردن من ديونه ما لم تكن في حوزتنا حجّة قوية نستخدمها بالنيابة عنه: «واجتماعكم العلني برابين سيعطيني تلك الحجّة». وأردف كلينتون بأنه سيكون سعيداً جداً أن يستضيف مثل هذا الاجتماع في أي وقت يُناسب الملك ورابين إذا كان ذلك سيسهّل عليه الأمر.

دعا كلينتون الملك إلى التفكير في الموضوع، فردّ الملك بأنه سيفعل، وانفضّ الاجتماع على ذلك. وإثر الاجتماع، سأل الرئيس الحاضرين في المكتب البيضاوي عما إذا كنا نظنّ بأن الملك سيجد لديه الرغبة في القدوم إلى اجتماع كهذا في وقت قريب. أجبته ومارتن بأن لدينا إحساساً يقول إن الملك سيفعلها، إنما ليس على الفور. ولما كنتُ أعرف أن الملك لا يودّ أن يحبط الرئيس، ومع ذلك ربما يكون غير مستعدٍ للاجتماع برابين كخطوة أولى، فقد اقترحتُ أن نسعى في الوقت الحاضر إلى رفع الاجتماعات الثلاثية في الأردن إلى المستوى الوزاري. في تلك الاجتماعات، سوف نقرّب بين الشخصيات السياسية، ويُمكن أن يحضرها كذلك وزير الخارجية الأميركية، ولسوف نجعل منها شيئاً أشبه ما يكون بالمَعْلَم السياسي على الطريق في المنطقة. قال الرئيس: «هذا جيد. ولكن إذا كان في المستطاع كسب المزيد، فأنا مستعدٌ لاستضافة لقاء يُعقد بين الزعيمين» (على غرار ما حصل مع رابين وعرفات في أيلول(سبتمبر) 1993 ، كان الرئيس يومذاك يُفكِّر بمفردات أكثر طموحاً من مفرداتي).

وتلقيتُ الأمر بالمسير. ما إن غادرتُ المكتب البيضاوي حتى اتصلتُ هاتفياً بفايز. كان المفتاح هو العزف على ما خرج به الملك من الاجتماع، أعني انخراط الرئيس شخصياً في العملية. هنا كنتُ كمن يدفع باباً مفتوحاً. ففايز كان لا يزال يفيض عاطفة على الاجتماع، متحدثاً عن أن الملك لم يشهد اجتماعاً كهذا مع أي رئيس أميركي منذ أيزنهاور. أجبته بالحرف: «يجب أن نبني على اهتمام الرئيس من دون تأخير يا فايز. فدعنا لا نضيع دقيقة واحدة». إن الرئيس يتطلع إلى استجابة الملك حيال فكرة الاجتماع برابين. «فلنفعل شيئاً على وجه السرعة; شيئاً قد يُساعدنا على إعداد المسرح له. ماذا لو عقدنا الاجتماعات الثلاثية في البحر الميت، ولتكن على المستوى الوزاري، هذا طبعاً ما لم يكن الملك مستعداً للاجتماع برابين والرئيس في الحال». وكمن يردد صدى كلمات الملك، قال فايز إنه سيُراجع في الأمر ويعود إليّ ثانيةً . لئن كانت هذه ليست «نعم» مؤكّدة، إلاّ أن فايز لم يكن يتصرف كما لو أن هذا الاقتراح في حُكم المستحيل.

وأكد إفرايم بدوره وقع الاجتماع على الملك. أفادنا بأن الملك كان «منذهلاً» أمام الرئيس، وقد «استثارته» زيارة واشنطن. فشرحتُ له ماذا فعل الرئيس للملك، ثم شدّدت على أنني وإن كنتُ لا أتوقع أن يقفز الملك إلى اجتماعٍ مع رابين في الوقت الحاضر، إلا أنه من اللازم أن نثبّت الاجتماعات الثلاثية في الأردن ونرفعها إلى المستوى الوزاري. قال هاليفي إنه سيلتقي بالملك في لندن، وسيُطلعني على ما ستؤول إليه الأمور في القريب العاجل، وقد يكون ذلك في الأسبوع المقبل.

لكنّي لم أسمع منه شيئاً لما يزيد على أسبوعين. فهاليفي لم يقابل الملك في لندن بسبب إصابة الملك بوعكة صحية. كما أفادني فايز، هو الآخر، بأنه لم تُتخذ أية قرارات، وإن كانت الحماسة التي تلت الاجتماع قد بردت الآن، وهو يرى أن الملك وولي العهد ربما يفضّلان عقد أولى الاجتماعات مع الإسرائيليين على الحدود، وعلى مستوى دون الوزاري.

هنا ساورتني الخشية من حدوث تراجع، وضغطتُ على فايز كي يعي أنه لا بد من ثمن إذا أُريد للأمور أن تجري مجراها الطبيعي. كان فايز عليماً بالواقع السياسي في «كابيتول هيل» (الكونغرس الأميركي)، وكان يفهم سبب إلحاحي، لكنه لم يكن قادراً على استخلاص الأجوبة من عمّان، لكن ذلك تبدلّ في 4 تموز(يوليو).

* رابين ترك وبإصرار غريب بيريس خارج الصورة تماما في مشروع اتفاقه مع الأردن

* عُدنا إلى عمّان بعد جولة تمتعنا فيها بمناظر البتراء الرائعة، وهي أوابد تعود إلى الحضارة النبطية المتطوّرة جداً في القرن الرابع. لقد كان يوماً مدوّخاً وعاطفياً. لكن مارتن حُرم من المشاركة فيه لسوء حظه. وفيما كنتُ أطفو، بمعنى الكلمة، داخلاً إلى غرفتي، إذا بمارتن يُعيدني إلى الأرض من جديد بإخباري أنه التقى ولي العهد، وأنه من الواضح أن الأردنيين والإسرائيليين عاكفون على صياغة مسوّدة الإعلان سرّاً.

بعد تركه ولي العهد، اتصل مارتن بإيتان هابر ليقول له إذا كُنتم تتوقعون منا أن نستضيف الحدث يوم الاثنين ونوظّف فيه الجهد الجهيد، فمن غير المقبول على الإطلاق تركنا نتخبّط في الظلام. ردّ إيتان بأنه سيُراجع رابين في الموضوع ويتصل ثانيةً; وحين عاود الاتصال، أخبر مارتن بأنهم يعملون على صياغة معاهدة سلام فعلية، وحوّل الخط إلى رابين. قال رئيس الوزراء لمارتن إن الرئيس والوزير وحدهما يجب أن يعلما بما يجري، وأن شخصاً واحداً فقط إلى جانب إيتان في إسرائيل يعلم بالأمر، وأن إيتان سيُطلعه على العناصر المكوّنة لمشروع المعاهدة الذي يعملون عليه.

وليس بالأمر المستغرب أن تكون النقاط الأساسية فيه لا تختلف كثيراً عما رسمناه نحن. إذ كانت تتحدث عن وضع حدٍ لحالة العداء أو الحرب، وفتح الحدود، والسياحة المحدودة، وربط الخطوط الهاتفية وكذلك شبكتي الكهرباء، وإقامة ممر جوي، والتحرّك السريع نحو معاهدة سلام.

بيد أنه كان هناك بند واحد مفاجئ لنا، ألا وهو الإشارة إلى دور خاص للأردن في إدارة الأماكن المقدسة في مدينة القدس، والإقرار الإسرائيلي بأنه عند التفاوض على الوضع الدائم بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، سوف تضع إسرائيل «على رأس سلم الأولويات الدور التاريخيّ للأردن في تلك الأماكن». ما من شيء يُمكن أن يكون أوضح من ذلك في التدليل على الأهمية التي يوليها الملك حسين لأن يكون طرفاً في أية مفاوضات حول الترتيب النهائي لمدينة القدس. مع ذلك، فهي لم تكشف النقاب عمّا يفعلون بصدد معاهدة السلام الفعلية.

انتقلنا بعد ذلك إلى إسرائيل حيث اختلى كريستوفر برابين، الذي أطلعه على مشروع المعاهدة. وقد شدّد على سمع كريستوفر (كما سبق وفعل على الهاتف) أن اثنين آخرين فقط في إسرائيل يعلمان بأمر المفاوضات. وختم بالقول إنه سيُطلعنا باستمرار على سير النقاشات، وكان من الواضح أنه لا يريد أن تكون لنا يد في تلك المحادثات.

رضي كريستوفر بهذا التدبير، بشرط أن يصلنا نصّ المعاهدة مساء الأحد، أي عشية انعقاد مؤتمر القمة. فوافق رابين.

انتقلنا بعد ذلك إلى إسرائيل حيث اختلى كريستوفر برابين، الذي أطلعه على مشروع المعاهدة. وقد شدّد على سمع كريستوفر (كما سبق وفعل على الهاتف) أن اثنين آخرين فقط في إسرائيل يعلمان بأمر المفاوضات. وختم بالقول إنه سيُطلعنا باستمرار على سير النقاشات، وكان من الواضح أنه لا يريد أن تكون لنا يد في تلك المحادثات.

رضي كريستوفر بهذا التدبير، بشرط أن يصلنا نصّ المعاهدة مساء الأحد، أي عشية انعقاد مؤتمر القمة. فوافق رابين.

عُدنا إلى واشنطن يوم السبت، وقد لحق بنا رابين وبيريز، وكان لنا اجتماع غريب معهما في غرفة رابين بالفندق مساء الأحد. قبل الاجتماع سألني كريستوفر إن كنتُ أظن أن رابين أطلع بيريز على نص المعاهدة. وبالعودة إلى تاريخهما الشخصي، قُلتُ إنني لن أُفاجأ لو كان بيريز لا يزال يجوس في الظلام. وقد صدقت نبوءتي.

وفي الاجتماع، تبيّن لنا بسرعة أن بيريز ليس «ثاني الاثنين»، وأنه غير دارٍ بما سيحدث في الغد. ولم تكن تلك المرة الأولى أو الوحيدة في العملية التي نجد فيها أنفسنا في موقف مُحرج نضطر فيه إلى تلقي تلميحات من رابين حول ما يجب أن نقوله لبيريز (في تلك المرحلة، كان رابين لا يزال ينظر إلى بيريز على أنه منافس أكثر منه شريكاً).

في تلك الليلة، عكفتُ ومارتن على درس نص المعاهدة. لم يتغيّر كثيراً عما رآه كريستوفر في إسرائيل من حيث الجوهر، لكنه كان أكثر صقلاً، ونوّه تنويهاً أكبر بدور الرئيس كلينتون في جعل المعاهدة ترى النور. ولئن لم تحسم المعاهدة أياً من المسائل العالقة بين البلدين، إلاّ أنها كانت مهمّة جداً من حيث كونها إعلاناً سياسياً، وفتحت صفحة جديدة في العلاقات بينهما.

* روس : يوم أن غضبنا من تصرفات الأردن وإسرائيل مع أسلوب عقد قمة ثلاثية

* من سوء الطالع أن الأمور تشابكت بعضها ببعض. فالإسرائيليون لم ينتظرونا إلى أن نبعث بالردّ إلى الملك. فقبل أن نتمكّن من حمل جواب الرئيس، بصورة رسمية، سمعنا أن الأردنيين والإسرائيلين اتفقوا على اجتماع رابين وحسين في 19 يوليو (تموز) على الحدود، ومن ثم يتوجهان إلى واشنطن.

علانا شحوب، وبدا الأمر كما لو أننا تلقينا رسالة سرية من الملك، شاركه فيها الإسرائيليون، ليستخدموها ضدنا. خابرتُ إيتامار وطلبتُ منه تفسيراً. كما اتصل مارتن بإيتان هابر، مدير مكتب رابين وكبير مستشاريه السياسيين، وقال له إنه كان الأجدر بهم أن يُعاملونا بطريقة أليق من مجرد كوننا متعهّدي تقديم طعام «الكُشر».

كانت ردة الفعل الأوّلية من جانب الإسرائيليين هي أنهم لا يجادلون في مسألة الاجتماع على الحدود في 19 منه، فالملك هو من أراده. فاتصل الوزير بالملك حسين ليشرح له مباشرة كيف نرى الأمور ـ إن قُدرتنا على الإيفاء بالنسبة للإعفاء من الديوان إنما هي رهنٌ بقدرتنا على حمل الكونغرس في واشنطن على تغيير رأيه. واقترح الوزير سياقاً للخطوات يبدأ باجتماع المتفاوضين على الحدود في 19 منه، ثم يُعقد الاجتماع الثلاثي في اليوم التالي في الأردن، ومن ثم تُعقد القمة في واشنطن في مطلع أغسطس (اب) ـ وهو تسلسل يسمح له بالقيام برحلة سبق تأجيلها إلى آسيا.

تفهّم الملك حُجّتنا في عقد اجتماع قمة في واشنطن، لكنه لم يكن راغباً في الانتظار طويلاً. وقد قرّر ويريد أن يتصرّف على أساسه.

رجعتُ إلى الوزير وحثثته على تبديل خططه .. إما العزوف عن حضور اجتماع «رابطة شعوب جنوب شرقي آسيـا» (ASEAN) ، أو عقد القمة في موعد أبكر ومن ثم التوجه ولو متأخراً إلى اجتماع الرابطة. كان الملك على حق في استعجاله عقد القمة بأسرع ما يُمكن، فبعد كل شيء هناك خطر وقوع أعمال إرهابية أو حوادث في العالم العربي قد تجعل انعقاد القمة متعذراً.

وافقني كريستوفر الرأي. فعاودتُ الاتصال بإيتامار ولم أتصنّع في كلامي. أما وأن الإسرائيليين يعتمدون علينا في تحمّل ثمن الإعفاء من الديون، من بين أشياء أخرى، «فكان الأجدر برئيس وزرائكم أن يُراعي حاجتنا إلى عقد اجتماع القمة الأوّلي عندنا هنا، وكذلك حاجتنا إلى ملئه بشحنة درامية وإحاطته بجو من الهيصة».

بقيت هناك مشكلتان بالطبع : فلا موعد محدّداً لدينا على روزنامة الرئيس، ولا أية خطة معدّة للقمة نفسها وماذا ستسفر عنه. لم أكن قد تخليتُ بعد عن فكرة اجتماع ثلاثي قبل القمة، إنما صرتُ الآن أقلّ تفكيراً برموزها وأكثر اهتماماً بدورها الجوهري: الإعلان عن تفاهمات محدّدة بين الأردن وإسرائيل. قال كريستوفر إنه سيرتّب موعداً للقمة مع الرئيس، وعلينا نحن أن نعمل على إقناع الإسرائيليين بقبول الاجتماع الوزاري في المنطقة قبل القمة.

بيد أن رابين لم يعد يحبّذ الآن الاجتماع الوزاري، مفضِّلاً عليه عقد قمة مبكرة. ها نحن نواجه، مرة أخرى، مقاومة حول مسألة إجرائية ـ مسألة نعتبرها الآن مهمّة وأساسية للخروج بقمة ناضجة. توجهتُ ومارتن إلى مقابلة إيتامار، واستهللتُ اجتماعنا بالقول إن الأسبوع الجاري لم يكن أسبوعاً موفّقاً بالنسبة للتنسيق الأميركي ـ الإسرائيلي. فمن الرئيس والوزير ونزولاً، خامرنا إحساس بأن الإسرائيليين يستغلّوننا. فعدا عن المسّ بالثقة بيننا، تجدهم يتصدّقون علينا بالغفران كما لو أننا نحن المفترض بهم التنفيذ عن الأردنيين.

وقبل أن يتمكن إيتامار من الردّ، تلقيتُ مخابرة من الوزير، يُخبرني فيها أن الموعد الوحيد المتاح لعقد القمة في واشنطن هو الاثنين في 25 يوليو. قُلتُ لإيتامار إن السيناريو المعقول هو التالي: يجتمع المتفاوضون يوم الاثنين في 18 يوليو (أي بعد أربعة أيام من الآن)، ويُعقد الاجتماع الوزاري في الأردن في 20 منه، والقمة في 25 منه. فأخذ إيتامار على عاتقه مهمة إقناع رابين بقبول هذا السيناريو، وقد فعل ـ أعلمني بذلك في صباح اليوم التالي مع تحفّظ وحيد هو أن تعلن الأطراف الثلاثة هذا السياق التسلسلي بحلول ظهيرة اليوم بتوقيت واشنطن.

وهذا ما تسبّب بإشاعة جو من الهرج منذ الصباح، نظراً للحاجة إلى وضع البيت الأبيض على أهبة الاستعداد، وصياغة نص التصريح، والتأكد من موافقة الأردنيين عليه. تولّى مارتن مهمة كتابة التصريح، وانصرف الوزير وأنا معه إلى الاتصال بالملك حسين. وفيما كان الوزير يتحدث إلى الملك، اتضح لنا أن ما يشغل باله بالدرجة الأولى هو الحرص على تضمين التصريح نقاطاً معيّنة مهمة بالنسبة إلى الأردن. وربما بسبب تواضعه المميّز لم يشأ أن يظهر كمن يُطالب بما يُشبه التقريظ لنفسه، فقال إنه سيحوّلني على الأمير حسن، ولي العهد، ليبحث معي احتياجات الأردن في التصريح.

* قالوا عن هذا الكتاب:

* الرئيس الأميركي السابق كلينتون:

«السلام المفقود» هو الحساب الحاسم لأزمنة متهيجة، حفلت في الغالب بصراعات عانت من التشوهات والعذابات ضمن عملية سلام الشرق الأوسط، يستعرضها من مقدمة ركب ذلك السباق أحد اللاعبين الأساسيين، ذلك هو دينيس روس. فلا يوجد أحد عمل بقوة من أجل السلام أكثر من دينيس، فقد أعطى ذلك السلام كل شيء يملكه، فخدم أمتنا بطريقة جيدة جدا، وها هو الآن يقدم لنا حسابا غنيا عن ما حدث، وذلك أمر مهم لفهم الماضي والمسارات المحتملة للمستقبل.

* هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي السابق:

تمتلك قلة من الأميركيين مشاركة حميمية أكثر في القضايا المعقدة التي تقسم الشرق الأوسط بصورة أكثر من دينيس روس، و«السلام المفقود» يقدم صورة صريحة وتفصيلية ومعمقة لعملية السلام وللمشاركين فيها.

* جورج شولتز، وزير الخارجية الأميركي السابق:

قدم دينيس روس خدمة عامة عظيمة كمفاوض لا يعرف التعب خلال عمله كمبعوث للشرق الأوسط، وها هو يقدم خدمة أخرى عظيمة بهذا الكتاب المعين على التثقف والجيد الإعداد، ولا غنى لأي مهتم بالشرق الأوسط عن قراءة هذا الكتاب.

* وارن كريستوفر، وزير الخارجية الأميركي في ولاية كلينتون الأولى:

لا أعرف، وعلى الإطلاق، أحدا ملتزما بعمق لقضية السلام في الشرق الأوسط أكثر من دينيس روس، وهذا الكتاب لا يعكس فقط تكريس جهده للسلام، وإنما أيضا ذكاؤه في الكتابة عنه بطريقة زاهية الألوان وشاملة.

* مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية في ولاية كلينتون الثانية:

إنه السرد الذكي للتاريخ وهو يدور ويصنع وراء الكواليس، ودينيس روس وحده الذي يستطيع كتابة كتاب كهذا حافل بالحيوية والإثارة والخفايا.