السلام المفقود (10) ـ كيف قايض كلينتون عرفات بفكرة الدولة الفلسطينية

قلت للرئيس: خفف بعض الشيء ولا تلتزم بدولة ذات سلطات أو حدود معينة.. فقال: مفهوم * عاتبت نفسي بطرحي فكرة الدولة إذ رآها عرفات الآن شيئا يحصل عليه دون أن يدفع أي عربون مقدما

TT

انكشفت قصة مونيكا لوينسكي على نحو مثير في 21 يناير، ما بين اجتماعَي نتنياهو وعرفات. وعلى حين غرة، اندلع ما يُشبه الهستيريا الإعلامية حول ما إذا كانت للرئيس علاقة جنسية بالمتدرّبة السابقة في البيت الأبيض، وما إذا كان هو أو صديقه ومستشاره فرنون جوردان قد أشار عليها بحجب الحقيقة عن علاقتهما إذا ما استدعاها للشهادة المدّعي المستقل، كين ستار، أمام هيئة المحلفين الكبرى.

كان تعرف عن الرئيس كلينتون قُدرته الفائقة على التبويب والتفريع; لكنه في ذلك النهار وُضع قيد الاختبار، فظهر في المساء في برنامج «ساعة الأخبار مع جيم لهرر» حيث أنكر أن تكون له أية «علاقة شائنة»، أو أنه أوحى لأحد بألا يقول الحقيقة. واغتنم فرصة المقابلة ليقول إنه يجهد نفسه في العمل الوطني ومن أجل الأمن القومي بالأخصّ، مُشيراً إلى أنه اجتمع برئيس الوزراء نتنياهو حتى ما بعد منتصف الليل ويزمع الاجتماع بالرئيس عرفات غدا، باذلاً كل ما يستطيع من أجل إعادة العملية السلمية إلى السكة من جديد.

وإذا كان بيبي يعمل على البقاء دائماً محط اهتمام، فمن الصعب على الآخرين أن يجاروه في ذلك. فقد اتصل نتنياهو بالرئيس من قاعدة أندروز الجوية، وهو على أهبة المغادرة عائداً إلى إسرائيل، قائلا له بالحرف: «اثبت مكانك. هذه أمور لا تلبث أن تنقضي». كان واضحاً أن بيبي يعرف أن الضغط حلّ الآن على الرئيس وزال عنه.

وصل عرفات في ذلك المساء بالذات. سألني الرئيس إنْ كان هناك من وسيلة لحمل عرفات على إسقاط المرحلة الثالثة من إعادة الانتشار الإضافية; كنتُ أشعر بأن الأمل ضعيف جداً في أن يقبل بذلك، فالمرحلة تلك، برغم كل شيء، تعود إليه بموجب الاتفاق الانتقالي.

سأل الرئيس: «ماذا عسانا نستطيع أن نقدم له»؟ لمحتُ إلى خطوة رمزية واحدة يُمكننا أن نعده بها، قلتُ: «يُمكنكم سيدي الرئيس، أن تخبروه بأنكم تعلمون كم هو صعب عليه التنازل عن المرحلة الثالثة من إعادة الانتشار. لكنكم موقنون بأن مثل هذه الخطوة الآن نحو الوضع الدائم هي أفضل سبيل إلى تحقيق الأماني الفلسطينية; وأنه إذا ما وافق على صرف النظر عن المرحلة الثالثة، سوف تتعهّدون له بتأييد فكرة الدولة الفلسطينية في مفاوضات الوضع الدائم». وأردفتُ: إنها قفزة بالنسبة إلينا، حيث إننا لم نتخذ موقفاً من فكرة الدولة أثناء عملية أوسلو، رغم أننا كنا نعارضها في السابق. وفي الحال أُعجب الرئيس كلينتون بالفكرة، وقال: «أجل، لعلّ هذه تنجح تماماً». وما إن طرحتها، حتى ساورني شيء من عدم الارتياح. قلتُ، عليكم سيدي الرئيس أن تخفّفوا الأمر بعض الشيء. إنكم لن تلتزموا هنا بدولة ذات سُلطات أو حدود معيّنة، وعرضكم سيكون مشروطاً بإلغاء المرحلة الثالثة من إعادة الانتشار الإضافية. قال الرئيس: «مفهوم»; وأملتُ ذلك. لم يُثر الرئيس كلينتون فكرة الدولة إلا في اجتماعه المسائي بعرفات. أولاً، في لقائه مع الرئيس المخصّص لالتقاط الصورة التذكارية، جلس عرفات جامداً وقد خلت قسماته من أي تعبير فيما كان الرئيس يتلقى الأسئلة عن مونيكا لوينسكي.

أما الاجتماع في المكتب البيضاوي الذي تلا ذلك، فكان طقسياً إلى حد بعيد. إذ قدّم فيه عرفات مطالعة طويلة من الشكاوى بحق نتنياهو حتى وهو في صدد الإشارة بانهماك الرئيس شخصياً في محاولة دفع عجلة السلام قُدُماً. شكره الرئيس على رسالته التي تتضمن إعادة تأكيد قرار 1996 حول الميثاق، وحثه على وضع جدول زمني بالخطوات التي يزمع الفلسطينيون اتخاذها في الموضوع الأمني، مقترحاً الأخذ بمقاربة «الالتزامات المتوازية» ذات المراحل التي كنتُ تقدمتُ بها، ومفادها أنه في حال نفذ الفلسطينيون في الحال التزاماتهم الأوّلية حيال الاعتقالات ومصادرة الأسلحة، سيجد الإسرائيليون لزاماً عليهم أن ينفذوا مرحلة جزئية من إعادة الانتشار الإضافية في غضون الأسبوعين الأوّلين من الجدول الزمني; والجزء المتبقي بعد مرور ثلاثة أشهر لا خمسة.

إن هذا لا يدخل في باب الأداء الفلسطيني المديد قبل مباشرة الإسرائيليين بتنفيذ أي من التزاماتهم. وقد سُرّ عرفات بالطرح، لكن حين لمح الرئيس إلى إسقاط المرحلة الثالثة من إعادة الانتشار، حرن عرفات ولم «يشترِ» ذلك، حتى بعدما حاول كلينتون إقناعه بمزايا الانتقال رأساً إلى الوضع الدائم بدلاً من التصبب عرقاً بالركض وراء المرحلة الثالثة، وحجّته هنا أن تلك المرحلة سوف تسلب نتنياهو الرأسمال السياسي الذي يلزمه كي يُسلِّم بالحدود الدائمة. أعرب عرفات عن شكّه في أن يُبرم نتنياهو في أيما وقت اتفاقاً للوضع الدائم، وأنه غير مستعد شخصياً للتنازل عما هو حقٌ له. فعلى إسرائيل أن تنفّذ التزاماتها، ولا سيما تلك المتعلّقة بالأرض.

ولما كان الرئيس قد قابل بيبي أيضاً في المساء وتحديداً في الجناح الشرقي من البيت الأبيض ـ القسم المخصص لإقامة الرئيس في البيت الأبيض ـ كان من المفروض أن يُعامل عرفات بالمثل (وهذه أيضاً مثلت نقطة تحوّل مهمّة من حيث احتمالاتها: إن عرفات الآن يحظى بمعاملة مشابهة للتي يلقاها رئيس وزراء إسرائيل. وهذا ما شكّل بياناً غير سار بالمرة لبيبي، بقدر ما كان بادرة تهدف إلى استثمار المضامين الرمزية في محاولة للتأثير في عرفات من حيث الجوهر).

وفي الاجتماع المسائي في الجناح الشرقي، قرّر الرئيس أن يلعب ورقة الدولة. فإذا قَبِل عرفات التوجه إلى مفاوضات الوضع الدائم، سوف يدعم الرئيس فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة في المفاوضات. وهذه، كما لمح الرئيس، خطوة تاريخية لم يُقدم عليها أي رئيس أميركي سابق. لكنه مستعد أن يخطوها في حال تخلّى الرئيس عرفات عن المرحلة الثالثة من إعادة الانتشار الإضافية والتحرّك بسرعة نحو محادثات الوضع الدائم.

بقي عرفات هادئاً وغير مكترث. كان أبو مازن حاضراً، ولما لمح إلى أن الفلسطينيين ربما يقبلون بما يعرضه الرئيس عليهم، وأن المفاوضات يجب أن تبدأ فوراً، صاح فيه عرفات: «حسناً، سأستقيل وتعود أنت إلى غزة وتدير كل شيء». هنا أطبق أبو مازن ساكتاً. إن عرفات لن يتنازل أبداً عن المرحلة الثالثة من إعادة الانتشار الإضافية، لا بل إنه شرع يُذكِّر الرئيس بأن كل ما يطلبه هو ما تنصّ عليه الاتفاقيات.

لم ينتهِ الرئيس إلى أية نتيجة، حتى بعدما لعب ورقة الدولة. وخلافاً لاجتهادي الشخصي، بقيتُ خارج الاجتماع على أمل أن يُدرك عرفات أن الوقت وقت تقرير لا وقت تفاوض. فجعلتُ ألوم نفسي على طرحي فكرة الدولة على الرئيس. لقد لعب الرئيس ورقة الدولة، فرآها عرفات الآن شيئاً يُمكنه الحصول عليه لاحقاً، وليس له أن يدفع لقاءها أي عربون مُقدماً.

* روس: أبو عمار هو الشخص الوحيد الذي لا أتمنى أن ألعب معه البوكر من بين كل من فاوضت

* ذهبتُ لرؤية عرفات في فندقه في اليوم التالي. كان محمد رشيد قد اتصل بي قائلاً إن عرفات بحاجة إلى بعض التطمينات; لقد حضر إلى واشنطن وهو مفعم بالأمل، فإذا به الآن شديد القلق. لقد وجد الرئيس مستعداً للقفز فوق المرحلة الثالثة، مع أنها جزء لا يتجزأ من الاتفاق الانتقالي. غير أن السؤال الأكبر يظل حول صحة الرئيس السياسية. والقفز المتخيّل كان مرتبطاً في أذهان الفلسطينيين بفضيحة لوينسكي. إنهم يشعرون بأن الرئيس كلينتون ضعيف، وهو لذلك لن يضغط على بيبي كي يفي بالتزاماته; لا بل قد يُعزل حتى من منصبه. فماذا بعد؟ إن عرفات مشغول البال. وهذا ما خلق لي فرصة كي أُوصل رسالةً إلى عرفات. لما كنتُ مُصدِّقاً لإنكار الرئيس، وأشكّ في أنه فعل شيئاً يستوجب عزله من الرئاسة، فقد طمأنتُ الرئيس عرفات إلى أن كلينتون باقٍ حيث هو.

ثم أخبرته بأنه وإنْ كان من ضمن حقوقه أن يصرّ على تنفيذ المرحلة الثالثة من إعادة الانتشار، إلاّ أن الرئيس عرض عليه أن تؤيد أميركا فكرة الدولة ـ وهي خطوة تاريخية، بل سابقة بالنسبة للولايات المتحدة ـ «فكان أن أقنعه جوابكم بأنه ربما كان أخطأ في طرح الفكرة أصلاً». وعليه، فإن الفكرة ليست الآن على الطاولة. فماذا على الطاولة إذاً؟ قلتُ لعرفات إن ظنّي يقول لي إننا ربما نتقدم بباقة من المقترحات قريباً، بما فيها الالتزامات الإسرائيلية حيال الأداء الأمني، وتعليق مؤقّت للتصرفات السيئة، وجدول زمني بالالتزامات المتوجبة على كل طرف، مع وضع معالم على الطريق لاستكمال مسائل المرحلة الانتقالية والمباشرة بمفاوضات الوضع الدائم.

كنتُ مجتمعاً به على انفراد (وحده جمال هلال كان حاضراً)، وقد جلس عرفات طوال الوقت متبلّد الشعور; فقط حين شرحتُ له أن الرئيس كلينتون سيخرج سالماً من القضية ويبقى في منصبه، أظهر شيئاً من الشعور ـ شعور الارتياح طبعاً. ولولا ذلك لبقي خاليا من أي تعبير وجداني. وكثيراً ما يخطر لي أن من بين كل الذين قُيّض لي أن أفاوضهم، الشخص الوحيد الذي لا أتمنى أبداً أن ألعب معه لعبة البوكر هو عرفات.

مع ذلك، كنتُ أعلم أنه قد سمعني. لم تكن عندي أية أوهام البتة حول مسألة الدولة. كان قصدي غير ذلك: أردته أن يفهم أنه قد خيَّب أمل كلينتون ـ وجعل الرئيس أقل ميلاً الآن إلى المجازفة بنفسه من أجل عرفات ـ وأن يُدرك أيضاً أنه عندما يتلقى مقترحاتنا المقبلة، والتي ستتضمن ولا شك بعض البنود التي يعسر عليه هضمها، يجب أن يتأكد من أن هناك ثمناً عليه أن يدفعه إذا ما خيَّب أمل كلينتون مجدّداً.

لقد استنفدت الاجتماعات أغراضها، وحان الآن الوقت لكي نتقدّم بمقترحاتنا. وقد أوصيتُ بأن نُقدِّم تلك المبادرة في السرّ، وبما يُعطي الجانبين مجالاً للاختيار بين التفاوض على شيء ما من دون أية مساعدة خارجية، أو تركنا نخرج بمبادرتنا إلى العلن. وحيث إن كلا الطرفين سيُواجهان مشاكل مع مقترحاتنا على أرجح الظنّ، فلعلّ ذلك يكون حافزاً لهما على عمل شيء ما من دوننا.

* يوم أن أهانني الإسرائيليون بسبب تصريحات لهيلاري كلينتون عن الدولة الفلسطينية

* لو كنتُ أعلم بما كان ينتظرني حال وصولي إلى إسرائيل، لما كنتُ ذهبتُ قط. وإلى يومنا هذا، لا أدري إن كان ذلك قد دُبِّر لي عن عمد، أم أن تطوراً مستجداً وغير متوقع قد حمل بيبي (المؤلف يشير دائما لنتنياهو بهذه الكنية .. الإيضاح من «الشرق الأوسط») على التمثيل أمام مجلس وزرائه، متخذاً مني سناداً يتكئ عليه.

والتطوّر المستجدّ كان التالي: السيدة الأولى، هيلاري كلينتون، وفي حوار عبر الأقمار الاصطناعية أجراه معها شبّان وشابات، إسرائيليون وفلسطينيون مشاركون في مؤتمر لمنظمة بذور السلام (منظمة تجمع وتُقرّب بين الشبان الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب بهدف الإتاحة لهم أن يروا بعضهم بعضاً كبشر حقيقيين ذوي آمال ومخاوف وحاجات ومظالم حقيقية). عُقد في روما، أجابت على أحد الأسئلة، بأن تحدثت عن دولة فلسطينية. وقد ?ستغلّ جناح نتنياهو اليميني هذا التصريح للضغط عليه كي لا يرضخ للضغوط الأميركية، خشية أن تكون الـ 13 بالمئة لإعادة الانتشار خطوة أولى تليها بعد ذلك الدولة الفلسطينية. بدا تصريح السيدة الأولى على قدر كافٍ من البراءة بالنسبة إليّ، غير أن بيبي كان في قمة الاستياء والغضب بسببه ـ أو على الأقل هذا ما أراد لمجلس وزرائه، ولي أن نعتقد.

ما إن حطّت بنا الطائرة، حتى أُخذت رأساً من المطار إلى مكتب رئيس الوزراء. فأدركتُ على الفور أنني في ورطة. كان بيبي قد جمع عدداً كبيراً من وزرائه بانتظاري في قاعة اجتماعات مجلس الوزراء ـ وكان وحده الغائب. اشتبهتُ في أنه يريد أن يدخل علينا دخولاً مهيباً، ويتخذ مجلسه في خُيلاء المتنفّذين، وينبري إلى إلقاء خطبة رنّانة، مما لا يصعب على المرء تخيّله: إن الولايات المتحدة، صديقة إسرائيل، قد أعطت إنذاراً، ولمحت ضمناً إلى أن الفلسطينيين وافقوا على سلوك نهج معقول فيما إسرائيل لم تفعل ذلك; والسيدة الأميركية الأولى (وأظن أن الجميع يحسب أنها تتحدّث بالنيابة عن الرئيس) قد أيّدت الآن فكرة الدولة، وعلى إسرائيل أن تقبل بالشروط التي لا يمكنها القبول بها وإلاّ وصمت بعدوة السلام. إن هذا نكثٌ بالتعهّدات المعطاة لإسرائيل، ومثار شكوك خطيرة في إسرائيل حول صدق نيات الولايات المتحدة.

ومن دون أدنى ريب، وصل بيبي محاطاً بهالة من الزهو، وقال بالضبط الكلام الوارد أعلاه. كأني كنتُ قد قرأتُ نصّه بحذافيره، وعكستُ مضمونه وأسلوبه على السواء. وفيما أنا جالس هناك أستمع إليه، قررتُ أن أقول له ببساطة: «أنت مخطئ»، وأن أطرح عليه سؤالاً لا غير: «لماذا أردتني أن أعود أدراجي وأطير إلى هنا؟». لم يكن لديه جواب حقيقي على ذلك، وبدا ناتان شارانسكي في حالة ذهول، أما إسحاق مُردخاي فقال، في نبرة تكاد تكون اعتذارية، حبّذا لو تصدرون شجباً أقوى لتعليقات السيدة الأولى. أجبته بأن تعليقات السيدة الأولى لا تعبِّر بالضرورة عن سياستنا (وقد قال البيت الأبيض ذلك علناً)، والرئيس يزمع توبيخ زوجته ـ وأكثر من أي رئيس وزراء إسرائيلي وبّخ زوجته على إدلائها بتصريحات قد لا تعكس السياسة الرسمية (قلتُ ذلك وأنا أنظر ناحية نتنياهو، لعلمي أن سارة [زوجته] تُدلي من حين لآخر بتصريحات تسبّب له إحراجاً). بيد أنني لا أنوي منازلته على مزاعمه هذه، بل اخترتُ بدلاً من ذلك التركيز على الأسباب التي حدت برئيس الوزراء إلى مطالبتي بالعودة. أما وأن بيبي قد أدّى «تمثيليته» أمام جمع كبير، ضامناً بذلك أن تتناقل الصحافة الآن ما صدر عنه من كلام، وحيث إنه لا يملك جواباً مقنعاً على سؤالي لماذا استدعاني للعودة على عجل إلى إسرائيل، فقد كان مستعداً عندئذ لتأجيل الاجتماع. في الخلوة معه، قال لي: «لقد وضعتَ مسدساً في رأسي»، فماذا تنتظر مني؟ أخبرته بأنني كنتُ قاب قوسين أو أدنى من ترك الاجتماع احتجاجاً. لقد أُهنت; وتعيّن عليّ أن أطير حول نصف الكرة الأرضية كي أُهان. إننا أصدقاؤه الوحيدون; وحاولنا أن نلبّي احتياجاته; واستطعنا أن نؤثّر في الفلسطينيين، وعلى مسؤوليتي الخاصة عرضتُ عليه فكرة تجسيرية يستطيع الفلسطينيون بسهولة أن يقولوا إنها تمثّل تراجعاً عما سبق لنا اقتراحه ولم يقبلوا به.

عند هذا الموصل، أصبح بيبي تصالحياً. قال إن علينا أن نعمل يداً بيد، وأنه من الممكن وضع العملية على السكة من جديد، وهو يصبو إلى ذلك، وأن عليّ أن أثق بأنه ينوي ذلك فعلاً. إنما «عندي مشكلة حقيقية»، وهي أنه يُلاقي صعوبة أكبر الآن في الأخذ بالـ 13 بالمئة; وهو لذلك في حاجة إلى حيّز لالتقاط أنفاسه; فلِمَ لا ندعه يستخدم زيارته المقبلة لواشنطن لإيجاد حلٍ نهائي للمسائل غير المتعلقة بإعادة الانتشار الإضافية، ومن ثم يُمكنني أن أرجع إلى المنطقة للعمل معه وحده على حل مسألة الأرض؟

وفيما أنا أنصت إليه، توصلتُ إلى قناعة بأنه واقعٌ تحت ضغوط هائلة (وهي ليست بالأمر السيئ بالضرورة). كما ازددت يقيناً من أننا يجب ألا نسوّي نهائياً المسائل غير المتصلة بإعادة الانتشار الإضافية. وحقيقة أنه يريدها على نحو ملحّ، إنما يمنحنا ورقة ضغط، وإنّي أرغب في استخدام تلك الورقة لحمله على التسليم بالـ 13 بالمئة أولاً. كنتُ مستعداً لمحاولة التلطيف من صورة الإنذار، بشرط أن يتعهّد لي، أقلّه في السرّ، بأن يسوّي مسألة إعادة الانتشار الإضافية قبل نهاية شهر أيار/ مايو. إذ بمجرد أن نجتمع به في واشنطن ونُبيِّن له أن ليس هناك من إنذار، سيزول مفعول الضغط عنه ـ ولذلك، أُريد أن انتزع التعهُّد منه هنا والآن.

لعلّه اقتنع بكلامي وقَبِلَ به. ولعلّه أدرك أنه قد تمادى في هذه اللعبة إلى أقصى حد ممكن وسيتعيّن عليه أن يُقرّر في نهاية مايو ماذا يريد. أياً يكن السبب، فقد أبدى استعداده للموافقة على إصدار بيان يقول: «سيجتمع مفاوضون أميركيون وإسرائيليون في واشنطن ابتداءً من 11 مايو ولمدة أسبوع. إن هدفنا المشترك هو التوصل إلى اتفاق، بحيث نكون قادرين على عقد قمة أميركية ـ إسرائيلية ـ فلسطينية بحلول 28 مايو لإطلاق مفاوضات الوضع الدائم».

* آراء.. ورموز: «على بركة الله» عند عرفات (نعم قاطعة) و«إن شاء الله» للتهرب وترك الأمور للأقدار

* في الليلة التالية حين اجتمعتُ بعرفات، انضم إلينا أبو مازن من جديد. بدأ عرفات بقراءة قائمة طويلة من الشكاوى في حق نتنياهو وقلّة نضجه كزعيم. قال إن إسرائيل لا تفي بالتزاماتها، فكيف يسعه والحال هذه أن يفي هو بجميع التزاماته؟ كيف له أن يعرف إن هو قال «نعم» ونتنياهو قال «نعم» أن بيبي لن يصرّ على الأداء الفلسطيني ويبحث عن ذريعة للتملّص من مسؤولياته؟

حدّق فيّ كما لو أنه قد بزّني في كل شيء استطعتُ قوله. أجبته: «لقد فاوضت على اتفاق الخليل أيها الرئيس، وانسحب نتنياهو عن الخليل. ليست لديّ ضمانات أُعطيها لكم باستثناء أننا سنراقب التزامات الجانبين. والمخاطرة التي تخوضونها بالقول «نعم»، تبقى أدنى بكثير من المخاطرة التي ستتحمّلونها بتركي أرجع إلى الرئيس كلينتون بـ«لا» أو بـ«ربما» منكم. ماذا تريدونني أن أقول له؟.

قال بالعربية، قل له: «على بركة الله». ولأول مرة في الاجتماع تلوح البسمة على شفتي أبي مازن (أخبرني لاحقاً أنه كان غير متأكد مما سيفعله عرفات، غير أنه قال «على بركة الله»، وذلك يعني أن عرفات يقول «نعم» بصورة قاطعة، بينما «إن شاء الله» طريقة للتهرّب من المسؤولية وترك كل شيء للأقدار). بعد ذلك قال عرفات بالإنجليزية: أخبر «الرئيس كلينتون أنني قلتُ «نعم» من حيث المبدأ». وشرح لماذا هي «نعم» مبدئية، ذلك لأنه لم يَرَ المقترحات في صيغة مكتوبة، وإنما سمعها تُعرض عليه شفهياً.

* حاولت قطع دابر عريقات فزدته بذلك قربا من عرفات

* أوفد عرفات إلى اجتماع نيويورك في 8 يوليو، صائب عريقات الذي طالما قدّم نفسه إلى عرفات على أنه المفاوض الذي يحمي مصالحه. بقدر ما سعيتُ إلى قطع دابر صائب في الماضي، بقدر ما أدركتِ أن صنيعي هذا قد أسهم في تعزيز صدقيته لدى عرفات، ولذا توقفت عن ذلك إبان مفاوضات الخليل. كنتُ أعلم أنه لن تكون لي أبداً علاقة بصائب كالتي تجمعني مع أبي مازن وأبي علاء; غير أنني أستطيع العمل مع صائب بشكل ناجح وفعّال، إذا ما كان كل منا يعرف القواعد الإجرائية ـ ألا يحاول أن يخدعني، وألا أحاول أن أخدعه.

حضر صائب لرؤيتي في مكتبي، فأخبرته أننا وضعنا نصّاً حول المسائل الأمنية بناءً على المقترحات التي سبق للرئيس عرفات أن قبلها من حيث المبدأ. وقد حان الوقت الآن لكي نصوغ التفاصيل، ونحل جميع المسائل الانتقالية العالقة، ونطلق عجلة مفاوضات الوضع الدائم. راجع صائب الوثيقة وساق بعض الملاحظات عليها، من قبيل أنه يلزمها قدر أكبر من التبادل ولا سيما لناحية الأحكام المتعلقة بالأمن، وقدر أقلّ من التفصيل والتحديد فيما خصّ اعتقال المشبوهين; وقدر إضافي من الغموض حول مسألة التحدث إلينا قبل أن يكون في مقدور الإسرائيليين الإفراج عن السجناء.. الخ. ووعد صائب بأنه سيحاول تسويق الوثيقة مع التعديلات المنبثقة عن مناقشتنا هذه.

* شباب الأمن الفلسطيني بقيادة دحلان عرقلوا المقترحات.. فراوحنا مكاننا

* غادرت الاجتماع وأنا أحسبُ أننا في وضع أفضل مما كان متوقعاً. لكن الأمور ما لبثت أن تعقدت بعد عودة صائب إلى المنطقة. لم يكن عندي شك في أن صائب سيعمل على تسويق الوثيقة كما وعدني. لكن بعد مرور بضعة أيام على رجوعه، أخبر جون هربست ـ قنصلنا العام في القدس آنذاك ـ بأنه عندما سعى إلى مراجعة مسودة الوثيقة مع «شباب الأمن الفلسطيني»، لم يكونوا مستعدين حتى لمناقشتها. قالوا إنها «وثيقة إسرائيلية»، وإنهم لن يتعاملوا بها، سوف يناقشون فقط مذكرة التفاهم الأمنية التي تمّ التوصل إليها في 17 ديسمبر الماضي.

اتصلتُ بأبي مازن وصائب وقلتُ لهما: «هذه قطعاً ليست وثيقة إسرائيلية»، وعندما «نعطيكم شيئاً، من المفروض أن تعطونا جواباً». قال الاثنان إنهما سيريان ماذا يمكنهما عمله في هذا الشأن. لكن جهودهما ذهبت أدراج الرياح، فـ«شباب الأمن الفلسطيني» ـ بقيادة محمد دحلان على ما أعلم ـ عرقلوا المقترحات. وإذا بنا الآن نراوح مكاننا، ولم نتوصل إلى أي تفاهم حول النصّ المعد لصيغة 10 + 3 .

* أبو مازن: نتنياهو يروق لي ولكنه لا يعرف ما يريد وأبو علاء أفضل مفاوض

* لئن اتسم النقاش بالودّ، إلا أنه لم يكن سهلاً أو سلساً على الدوام. وبعد ثلاث ساعات، أخذنا استراحة ثم خرجنا لتناول العشاء. سرتُ وأبو مازن معاً، فيما سار أبو علاء وجمال متقدمين عنا، أسرّ لي أبو مازن بأن نتنياهو شخص من غير السهل التعامل معه، وإن كان يروق له شخصياً. المشكلة معه هي أنه لا يبدو أبداً أنه يعرف ماذا يريد. والمهمة لن تكون أسهل حالاً مع الوضع الدائم، غير أنه لا يوجد هناك من خيار آخر; وقد حان الوقت لتنفيذ كل المسائل الانتقالية والتحرّك إلى الأمام. ومضى يقول إن أبا علاء هو أفضل مفاوض في الطرف الفلسطيني; إنه مفاوض بحق. وفي مقدوره العمل مع الإسرائيليين، حتى مع هؤلاء الإسرائيليين. وذكر أبو مازن أن دوره هو في المعاونة على تمكين أبي علاء من الاضطلاع بالتفاوض.

قلتُ له: «أعرف يا أبا مازن أن ما أعرضه هنا ليس سهلاً، إنما هذا أفضل ما لدينا لنعمله. لا يُمكنك أن تتخيّل مدى الصعوبة حتى في تركيب شيء كهذا معاً. عليك أن تجد طريقة للقبول به، لا تحاول أن تبحث عن أي مسوّغ لعدم الأخذ به». قال إنه سيبذل قصارى جهده.

* مازحت أبو علاء بالمحميات فقال: علينا أن نحمي الأرانب

* في ساعة متأخرة من تلك الليلة، وكنتُ بمفردي مع أبي علاء، شرحت له النقطة عينها. قال: «سيلزمنا تخطيط وتدقيق في الـ 3 في المائة يا دنيس، إنما من دون تنسيق مع الإسرائيليين; وإلا فإنها لن تكون شبيهة بمنطقة (ب)». بات واضحاً لي أن المحميات الطبيعية هي الحل، وقد مازحته قائلاً ما دمتُ أنا من كاليفورنيا، فمن الطبيعي جداً أن أنظر إلى المحميات الطبيعية كوسيلة لحلّ المشاكل. ردّ ضاحكاً: أجل، إنما علينا أن نحمي الأرانب.