الذهاب إلى طبيب الأسنان يشكل كابوسا مخيفا بالنسبة للكثير من الأطفال

الكثير يعتبرونه «شرا لا بد منه»

TT

ينكمش وليد، 6 سنوات، على نفسه ويحشر نفسه في سترة والده، في صالة الانتظار أمام عيادة طبيب الأسنان. الصراخ المقبل من تلك الغرفة المغلقة يرعبه. فمحمد الطفل الذي دخل منذ لحظات الى عيادة طبيب الأسنان، سرعان ما بدأ صراخه يصل إلى آذان الجالسين في الخارج، لينشر في قلب وليد حالة من الرعب.

خوف الصغير ليس وليد تلك اللحظة، بل يعود الى ما قبل ذلك بكثير، عندما كانت والدته تهدده بأنها ستأخذه الى طبيب الأسنان إذا ارتكب خطأ ما. «هذا التهديد يلجأ إليه العديد من الأهالي، فيتسببون بحالة من عدم التجاوب بين الطفل وطبيب الأسنان»، يقول الدكتور محمد قاسم متخصص طب الأسنان، ويشدد على «دور الأهل في تهيئة الطفل نفسيا لعلاج أسنانه، إذ يجب عليهم عدم الربط بين زيارة طبيب الأسنان والتهديد بتنفيذ العقاب بحق الطفل، بحيث يتم تخويفه بأخذه الى طبيب الأسنان اذا ما اقترف ذنبا ما، فيشعر بأن الطبيب هو العقاب».

ويشير الدكتور قاسم الى أن «الأهل يخلقون الحاجز بين الأطفال وبين طبيب الأسنان»، مذكرا ببعض التصرفات الخاطئة التي تجعل الطفل في حالة تشنج عند سماعه باسم طبيب الأسنان، «قد يلجأ عدد من الأهالي الى الكذب على الطفل، فيقولون له إنهم سيأخذونه مثلا الى الحديقة او الى زيارة عائلية ثم يتفاجأ بأنه في عيادة الطبيب»، ويوضح أن مثل هذا التصرف «يترك آثاره السلبية على الطفل، مما يجعله غير متجاوب مع الطبيب، بل انه قد يرفض الجلوس على الكرسي مهما حاولنا إقناعه».

ولخلق صورة إيجابية لدى الطفل عن طبيب الأسنان، دعا الدكتور قاسم الأهل الى الحذر عند الحديث عن طبيب الأسنان أمام الأطفال، «لأن مخاوف الطفل تنتقل إليه من الكبار، خاصة إذا سمع أهله يتحدثون عن الألم الذي يعانون منه عند الطبيب». «سيحفر فمي وسيؤلمني»، هكذا فسر الطفل وليد سبب خوفه من دخول عيادة الطبيب، ويشرح والده كيف عانى الطفل الأمرين من آلام أسنانه اللبنية «لكنه ظل مصرا على عدم القدوم الى العيادة، لأن الصورة التي رسمتها والدته في خياله عن طبيب الأسنان كانت مرعبة». ويوضح الدكتور قاسم أن خوف الأطفال من الطبيب «وهمي ولا أساس له إلا في خيالهم، نتيجة ما يزرعه الأهل فيهم من صور سلبية ترسخ في ذهن الطفل كاستخدام الأدوات المؤلمة، وخاصة آله الحفر ذات الصوت المزعج وإبر التخدير وغيرها». ويلفت الطبيب الى أن معظم مرضاه من الشباب أكدوا له أنهم كانوا يخافون من زيارة طبيب الأسنان في طفولتهم، مما أوصلهم في مرحلة الشباب الى طريق مغلق، وبالتالي لم يعد أمامهم من حل إلا علاج أسنانهم قبل فوات الأوان.

يعيش الطفل أولى تجاربه مع طبيب الأسنان عندما تبدأ أسنانه اللبنية بالتساقط أو عند الحاجة لاقتلاعها بسبب تسوسها، مما يشكل ذكرى غير مستحبة لدى الطفل ويكبر مع هذه التجربة، «لذا على الأهل جعلها تجربة سعيدة»، يقول الدكتور قاسم، فحالة الطفل وليد ليست مستعصية، بل هي مجرد تسوس عادي «صحيح أنه يسبب مشاكل أخرى، لكن لا داعي لتخويفه». ويلفت الطبيب الى أن الأهل قد يخففون من أهمية مشاكل الأسنان اللبنية لأنها ستتبدل لاحقا بالأسنان الدائمة، «لكن ما لا يعرفونه أنه تجب معالجة الأسنان اللبنية كما نعالج الأسنان الدائمة، إذ أن تركها عرضة للنخور يسبب للطفل آلاما مبرحة، مما يؤدي الى قلعها قبل موعد سقوطها الطبيعي، وهذا ما تترتب عليه مخاطر ومحاذير متعددة». ويشرح الدور الذي تلعبه هذه الأسنان في تمكين الطفل من مضغ الطعام والتحدث بوضوح وإصدار الأصوات وتشكيل الكلمات، والحفاظ على شكل الفم والوجه خلال فترة النمو. كما أنها تحفظ المكان للأسنان الدائمة التي ستظهر بعد ذلك، «لذلك فإن علاج تسوس الأسنان في هذه المرحلة المبكرة هام للغاية لعدم فقد أي منها، إذ يعني هذا أن أسنانا أخرى ستحل محلها، وعندما يأتي الوقت لظهور السن الدائم لا يجد مكانا له، وينتج عن ذلك أسنان متراكبة غير متساوية ومزدحمة». ولتجنب هذه المشكلة، يوصي قاسم باستخدام الطبيب لسن بديل يسمى «حاجز المسافة»، وهو يحافظ على مكان الأسنان الدائمة بانتظار نموها.

ينصح الأطباء بأن تكون الجلسة الاولى للطفل عند طبيب الأسنان «لقاء تعارف» لا يستخدم الطبيب خلالها أي أداة علاج بل يكتفي بالتحدث مع الطفل، «وقد يعلمه كيفية تنظيف أسنانه بطريقة صحيحة إذا كان عمر الطفل يؤهله لاستيعاب الأمر.. ويمكن للطبيب أن يتودد للطفل فيطلب منه أن يريه أسنانه ليرى أي مشاكل ظاهرة فيها.. وتنتهي الزيارة بحصول الطفل على هدية رمزية كصورة أو كتيب ملون عن الأسنان. بعد السنة الأولى تبدأ الزيارات الدورية كل 6 اشهر.. ولتجنيب الطفل رهبة الزيارة وتعويده على الأمر، يمكن للأهل ان يصطحبوا طفلهم عند ذهابهم لطبيب الأسنان»، يقول الدكتور قاسم. ويلفت الى أن «الطفل الذي لا يعاني من مشاكل في أسنانه، من الضروري ان يصطحبه أهله إلى طبيب الاسنان منذ عمر الاربع سنوات، لتوطيد علاقته بالطبيب، حيث يترك لديه الانطباع الجيد، إذا ما اضطر لزيارته للعلاج».

يلفت الدكتور قاسم الى أن الزيارة الأولى للطفل الى عيادة طبيب الأسنان بهدف العلاج هي الأصعب: «من أصعب المواقف التي أواجهها، عدم تحمل الطفل أي أداة في فمه، فيشعر بالغثيان ويبدأ بالتحرك، وهذا خطر جدا إذا كنت أستخدم أداة الحفر مثلا. وهناك نسبة كبيرة من الأطفال لا تتحمل الأدوات التي يستعملها الطبيب، أو الأدوية التي توضع في الفم أو حتى الماء. ويعمد معظم الأطباء الى تخفيف حدة هذه المشاكل من خلال إلغاء عامل الخوف والتوتر عبر التقرب من الطفل واكتساب ثقته الى جانب التودد له بوسائل ترغيبية مختلفة. ما قد يدفع الطبيب لإعطاء الطفل دواء مهدئا قبل الجلسة، خاصة إذا كان السبب الأساسي توتر أعصاب الطفل، وفي حالات نادرة قد يلجأ الطبيب الى التخدير العام بهدف معالجة أسنان الطفل غير المتجاوب مع وسائل الإقناع الأخرى». ويشير الطبيب الى أنه يمكن للأهل «تقديم هدية صغيرة ورمزية للطفل بعد الانتهاء من جلسة طبيب الأسنان، إذا أظهر تجاوبا مع الطبيب»، وينبغي عدم التصريح بهذه الهدية للطفل قبل الانتهاء من جلسة معالجة أسنانه، «لأنها ستعتبر رشوة وليس هدية، وهذا الأمر له نتائج سلبية على نفسية الطفل». المشاكل السنية يمكن أن تبدأ عند بروز أول سن في الشهر السادس الى التاسع من عمر الطفل. ولعل إهمال المتابعة في هذه الفترة هو السبب في انتشار آفة نخر الاسنان لدى الاطفال الى حد أنها تسمى «الوباء الصامت». لذا ينصح الدكتور قاسم الأهل بمراجعة عيادة طبيب الاسنان منذ بلوغ الطفل العام الأول «إن مراجعة طبيب الأسنان والعناية الوقائية بالأسنان مثل التنظيف والمعالجة بمادة الفلورايد، كما أن إجراء الفحوصات الروتينية المعتادة على الاسنان يكشف المشاكل التي تصيب الأسنان والتي تمكن معالجتها في مراحل مبكرة عندما يكون الضرر بسيطا جدا». وإذا لم يقتنع الأهل بهذا الأمر، يؤكد الطبيب على ضرورة أن يعرض كل الاطفال على طبيب الاسنان عند بلوغهم العام الثالث.

ومن النصائح التي تجنب الطفل الذهاب لطبيب بهدف العلاج تعويده على تنظيف الأسنان بالفرشاة والخيط بإشراف الوالدين الى ان تكتمل مهارة الطفل في استخدامهما. كما يلفت الى وسيلة متبعة بكثرة لدى الأطباء وهي تغليف الأسنان الخلفية للطفل بالسائل الخاتم Sealant، وهي طريقة يلجأ اليها طبيب الاسنان لمنع تجمع مادة البلاك والمواد البكتيرية المتخلفة من الطعام على تضاريس هذه الأسنان. فتقل بذلك احتمالات التسوس ونخر الاسنان، ويمكن ان تبقى عوازل الأسنان لسنوات عدة بعد وضعها. كما ينصح الطبيب الأطفال بعدم التعرض للاصابات أثناء اللعب، لأن معظم الأطفال يصابون بكسور في الأسنان أثناء الرياضة والتدريب ونتيجة الوقوع. ولأن الأطفال هم الأساس لنشوء مجتمع مدرك لأهمية الحفاظ على الأسنان، حيث يفترض تربية الطفل على فكرة العناية بفمه وأسنانه، نشأ فرع متخصص في طب الأسنان هو طب أسنان الأطفال. ويوضح قاسم أن «الأطفال باتوا يقصدون عيادات خاصة بهم قد تكون مزينة بالصور الملونة والرسومات التي تشرح لهم أهمية الأسنان وكيفية العناية بها، وبالنتيجة ستبدأ العلاقة السلبية بين الطفل وطبيب الأسنان تتناقص في مجتمعنا، ومن المفترض أن تزول نهائيا عند التوصل الى إفهام الأطفال أن طبيب الأسنان ليس بـ(بعبع) مخيف».