غاندي: مسيرة بدأت بالملح وانتهت بالاستقلال

«نريد نفس الحرية التي يريد تشرشل من البريطانيين أن يموتوا في سبيلها» (من اقوال غاندي)

TT

قبل أيام بدأ عشرات الآلاف من الهنود والاجانب مسيرة 24 يوما لمسافة 240 ميلا من احمد اباد في وسط الهند الى داندي على الساحل الغربي، في ذكرى مرور 75 سنة على «مسيرة الملح» التي قادها المهاتما غاندي قائد «العصيان المدني» الذي أدى الى استقلال الهند والهام العشرات من حركات التحرر الوطني فى العالم. بدأت مسيرة هذا الشهر من نفس المعبد الهندي الذي بدأ منه غاندي، وسيأخذ كل متظاهر ملحا من البحر العربي، ويقضي الليلة في نفس المكان الذي انتظر فيه غاندي حتى جاءت الشرطة واعتقلته بتهمة خرق قانون الملح البريطاني. لكن الاشتباكات بين المتظاهرين والشرطة، حيث قتل بعضهم واعتقل آخرون، من بينهم غاندي، لن تتكرر هذه المرة.

ومسيرة الملح هي جزء أساسي من مسيرة كفاح سلمية كان غاندى قد بدأها قبل ذلك بسنوات من أجل تحرير بلاده من الاستعمار البريطاني العسكري والتبعية الاقتصادية، وهما هدفان احتلا نفس الاهمية فى نضال غاندي. ففي فبراير (شباط) 1930، قرر حزب المؤتمر الهندي، بزعامة غاندي، مواصلة استراتيجية العصيان المدني للحصول على الحكم الذاتي، عبر رفض دفع ضريبة الملح التى فرضها البريطانيون، والسير نحو مصنع الملح في داندي تأكيدا لرفض الهنود احتكار البريطانيين لصناعة الملح فى البلاد، وحق الهنود في القيام بتصنيع الملح بأنفسهم، بل واستعادة السيطرة على كل الصناعات الوطنية التى تحتكرها بريطانيا. وكتب غاندي، كان يبلغ 61 سنة في ذلك الحين، في جريدة «يانج انديان» (الهندي الشاب) الاسبوعية، التي كان أسسها قبل ذلك بسنة «ربما فكر البريطانيون في ظلم كل هندي بفرض ضريبة على الماء، ثم وجدوا ان ذلك مستحيلا. ولهذا فرضوا ضريبة على الملح، وبدأو ظلما قاسيا لمئات الملايين من الجوعى والضعفاء». قبل المسيرة بشهر، اي في فبراير (شباط) 1930، ارسل غاندي خطابا الى اللورد اروين، حاكم الهند البريطاني، قال فيه «صديقي العزيز، فكرت لسنوات كثيرة قبل ان أبدأ هذا العصيان المدني، لكني وجدت انه الطريق الوحيد حتى تبقى الهند كدولة، وحتى لا يموت الهنود من الجوع». وحمل الخطاب البريطاني ريجند رينولدز، وهو من قادة كنيسة «كويكور» الليبرالية، ليبرهن على ان المشكلة ليست بين البريطانيين والهنود فقط. وفي الشهر التالي، وعندما لم يتسلم غاندي ردا، اجتمع حزب المؤتمر الهندي، وقرر ان موضوع الملح يؤثر على كل الهنود تقريبا، وانه سيساعد على جمع عدد كبير من الناس. وكانت بريطانيا، كلما واجهت مشاكل مالية وعجزت عن الصرف على حكومتها في الهند، خاصة وقت الحروب، تزيد الضرائب على الهنود، وبالتالي عندما واجهت صعوبات مالية فى العشرينات أصدرت قانونا يخول لها احتكار صناعة وبيع الملح، وتضمن القانون عقوبة بالسجن ستة شهور على كل من يصنع ملحا، حتى اذا ذهب الى البحر وجمع حجارة ملح.

وفي أول خطاب، يوم بداية المسيرة من احمد اباد، خطب غاندي في المسيرة فقال انه «نقسم بأننا اما سننال استقلال الهند، او ندخل السجون. ونقسم ان استقلال الهند سيتحقق بدون عنف». وفي ثاني يوم للمسيرة، في قرية ذابان، قال إن «في الهند ثلاثة ارباع مليون قرية، واذا تطوع عشرة رجال من كل قرية لصناعة الملح لقريتهم، لن نحتاج الى ملح البريطانيين». وفي رابع يوم، في قرية فاسانا قال «اعاهدكم بأن يوما سيأتي يعتذر فيه البريطانيون لنا على ما فعلوا بنا». وفي سادس يوم، في قرية بوريافي، قال: «لن نؤذى اي مسؤول بريطاني. نعم، يحكموننا، لكنهم ضيوفنا». وفي اليوم الخامس والعشرين، في قرية تارسالا، قال انه سيقضي «هذه الليلة في منزل أخ مسلم بناء على دعوته». وقال: «يجب الا نعطي البريطانيين الفرصة ليقسمونا الى مسلمين وهندوس». وعندما وصلت المسيرة الى البحر، نزل غاندي البحر ورفع صخورا مالحة، رمزا لتحدي قانون الملح، وبداية سبع عشرة سنة من العصيان المدني. وخطب غاندي امام اتباعه بأن الهدف «ليس فقط اعلان العصيان المدني في الهند، ولكن، ايضا، اقناع الشعب البريطاني بالعصيان المدني بعد ان يتضح لهم الظلم الذي يلحق بالشعب الهندي». وعمت المظاهرات شبه القارة الهندية، وفي بيشاور (في باكستان، التي كانت جزءا من الهند في ذلك الوقت قبل انفصالها 1947 بعد الاستقلال مباشرة)، تظاهر مسلمون بقيادة جعفر خان، زعيم منظمة «شباب غاندي»، لكن الشرطة الهندوسية رفضت أوامر البريطانيين بإطلاق الرصاص على المسلمين. وأحس لورد اروين، حاكم الهند، بأن الفوضى ستعم البلاد، واستنجد برمزي ماكدونالد، رئيس الوزراء، وزعيم حزب العمال.

ودعا ماكدونالد الى مؤتمر لبحث إمكانية منح الهند الحكم الذاتي، لكنه لم يدع حزب المؤتمر الهندي، وذلك بسبب ضغوط حزب المحافظين الذي عارض الحكم الذاتي. وقال ونستون تشرشل، المتحدث باسم حزب المحافظين، انه لا بد من وقف العصيان المدني قبل التفاوض مع غاندي. وهاجمت الصحف المؤيدة لحزب المحافظين، مثل جريدة «ديلي اكسبرس»، غاندي، كما اتهمت الشيوعيين الروس بالتعاون معه لنشر الشيوعية في الهند. ونشرت كاريكاتيرا لغاندي وهو جالس في حضن دب روسي، ويأخذ منه ملحا، ويضعه على جرح في ذيل اسد وهو رمز الامبراطورية البريطانية. وزاد من تعقيدات الموقف ان غريغوري زينوفيف، امين عام الشيوعية الدولية، وجه نداء من موسكو الى الشيوعيين البريطانيين للتمرد على النظام الملكي البريطاني باستعمال نفس طريقة العصيان المدني التي استعملها غاندي. ولهذا خاف ماكدونالد من ان اي تودد مع غاندي سيزيد اتهام المحافظين له بأنه يهادن الشيوعية العالمية، في بريطانيا وفي الهند.

ورغم ان المؤتمر الطارئ عقد، لكنه لم يتمكن من حل المشكلة: اولا، لأن حزب المؤتمر لم يدع له. ثانيا، لأن غاندي كان لا يزال في السجن. ثالثا، لأن محمد علي جناح، قائد الرابطة الاسلامية، الذي دعي للمؤتمر قال انه ليس مفوضا للحديث باسم حزب المؤتمر. رابعا، اصبح واضحا ان بريطانيا تريد استغلال الخلافات بين الهندوس والمسلمين. وعندما امر رئيس الوزراء ماكدونالد بإطلاق سراح غاندي والتفاوض معه، زاد غضب تشرشل، وزمجر في مجلس العموم «احس ان دمي يغلي، وانا ارى محامي المعابد الهندوسية، وصاحب فتاوي التمرد، ونصف العريان، يتفاوض مع ممثل امبراطور بريطانيا».

لا بد ان تشرشل كان مقتنعا بأن بقاء بريطانيا في الهند سيساعد على تطور الهند. ولا بد ان سنوات الشباب التي قضاها في الهند اقنعته بذلك، ولا بد ان رأيه، وهو الذي قاد بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، كان له وزن كبير. لكن كل هذا شيء، ورغبة الشعب الهندي شيء آخر.

وتندر غاندي، بعد إطلاق سراحه، على إساءات تشرشل له، واتهمه بالنفاق، وقال: «نحن نريد نفس الحرية التي يريد تشرشل من البريطانيين ان يموتوا في سبيلها». واضاف ان «تشرشل يعتقد اننا غير مؤهلين للحرية، لكن ما فائدة الحرية اذا لم تسمح لنا بأن نخطئ، بل وان نذنب؟». واضطر اللورد اروين، حاكم الهند، للتفاوض مع غاندي، واستقبله في يوم تاريخي في قصره الكبير، واتفقا على إلغاء ضريبة الملح، وعلى سفر غاندي الى لندن لحضور مؤتمر شامل عن مستقبل الهند. وعندما أحضر الشاي، وسأل الحاكم غاندي اذا كان يريد سكرا كثيرا او قليلا، تندر غاندي وقال انه يريد ملحا (كان توقف عن أكل الملح قبل المسيرة بسنوات). وكتب وليام شايرار، مراسل جريدة «شيكاغو تربيون»، بأن «رجلا خجولا ونصف عريان جلس مع ممثل الامبراطورية البريطانية، بكل ميدالياته ونياشينه واوسمته، وبرهن على ان هذا الهندوسي لا يقل عن هذا الرجل الابيض».

الصحافي شايرار غطى احداث الهند، وكتب كتاب «ذكرياتي مع غاندي». ثم سافر الى المانيا، وغطى الحرب العالمية الثانية، وكتب كتاب «صعود وسقوط الرايخ الثالث» الذي يعتبر احسن مرجع عن حكم النازية. وقارن بين رجلين: هتلر وغاندي، وقال: «شاهدت هتلر يخطب في صوت عال وكأنه مجنون امام مائتي الف شخص في نورمبيرج، جمعهم الحزب النازي، ووفر لهم احسن طعام وشراب. وشاهدت غاندي يتحدث في صوت خافت في احمد اباد امام مائتي الف هندي، وكأنهم لم يأكلوا شيئا منذ اسبوع». وكان الصحافي الاميركي سأل غاندي: «لماذا يتبعك عشرات الآلاف اينما تذهب؟» فأجاب «لأني نصف عريان مثلهم لكني أقدر على مقابلة أهم رجل ابيض في الهند، ونقل مشاكلهم له».

وفي السنة التالية استقل غاندي السفينة «راجبوتانا» الى لندن لحضور مؤتمر المائدة المستديرة، وسط متابعة اعلامية عالمية كبيرة، بمقاييس ذلك الوقت. وعندما عبرت السفينة قناة السويس، أنشد الشاعر المصري احمد شوقي: «سلام النيل يا غاندي، وهذا الزهر من عندي. واجلال من الاهرام والكرنك والبرد.. من المائدة الخضراء خذ حذرك يا غاندي. وكن امهر من يلعب بالشطرنج والنرد. وقل هاتوا افاعيكم، أتى الحاوي من الهند». وعندما وصل غاندي الى بريطانيا، سأله موظف الجمارك عن الاشياء التي معه، فكتب: «ست عجلات نسيج، وثلاثة صحون اكل منذ ايام السجن، وثلاث علب فيها لبن ماعز، وست سراويل طويلة، وسمعتي التي لا تساوي كثيرا». ورفض غاندي النزول في قصر ضيافة وفرته له الحكومة البريطانية، ونزل مع الفقراء في حي كنغزلي هول في شرق لندن.

ولم يقدر الصحافيون البريطانيون على الانتظار لمعرفة ماذا سيلبس غاندي عندما يقابل ملك بريطانيا، لكن غاندي خيب أملهم ولم يغير ملابسه، وعندما سألوه، بعد أن خرج من قصر بكنغهام، قال: «ملابس الملك كانت تكفيه وتكفيني». وكتب صحافي بريطاني «ها نحن مسيحيو بريطانيا نشاهد مسيحا من الهند ولا نكاد نصدق ما نشاهد». وقال استاذ في جامعة اكسفورد، قضى غاندي ثلاث ليال معنا «زوجتي وانا احسسنا ان قديسا نزل في منزلنا». وتندر الأديب البريطاني برنارد شو «هو المهاتما العملاق وأنا المهاتما القزم». وقال لويد جورج، رئيس الوزراء السابق «لم يهتم الخدم في منزلي بضيف من ضيوفي مثلما اهتموا بغاندي». حتى عمال مصانع النسيج في مدينة لانكشير البريطانية، والتي اغلق عدد كبير منها بسبب مقاطعة الهنود للنسيج البريطاني، استقبلوه استقبالا حارا. وكان تشرشل السياسي الكبير الوحيد الذي رفض استقبال غاندي، لكن، مع عودة غاندي الى الهند، كانت رياح التغيير بدأت تهب.

انتهت الحرب العالمية الثانية في مايو (آيار) سنة 1945، وبعد شهرين، فاز حزب العمال على حزب المحافظين في الانتخابات، وتحول تشرشل، الذي قاد بريطانيا الى النصر، الى زعيم للمعارضة. واصبح كلمنت اتلي رئيسا للوزراء، بعد ان دعا البريطانيين الى كثير من الواقعية وقليل من العاطفة: اولا، ليستفيدوا من دروس انهيار المانيا وايطاليا واليابان بسبب مطامعهم التوسعية. وثانيا، ليتعظوا من احتلال هذه الدول لبعض المستعمرات البريطانية في بداية الحرب.وثالثا، ليستعدوا للتخلي عن هذه المستعمرات. وقال اتلي امام مجلس العموم «تود حكومة صاحبة الجلالة أن تعلن في وضوح انها تنوي بالتأكيد أن تتخذ الخطوات المناسبة التي ستكون نتيجتها تحويل السلطة في الهند الى أيد هندية مسؤولة قبل نهاية شهر يونيو (حزيران) سنة 1948». ورد تشرشل بأن اتلي «يسيء الى سجل حرب مشرفة عندما يصدر هذا القرار الكئيب والمدمر».

وتحسر تشرشل على «انهيار الامبراطورية البريطانية، الذي أراه الآن امام عيني، والتي قدمت للجنس البشري كل عظمتها وكل خدماتها. لقد شهدت كثيرا من الناس يدافعون عن بريطانيا ضد أعدائها، لكني لا اشاهد من يدافع عن بريطانيا ضد نفسها، وهذا شيء يدعو للخجل. بحق السماء، دعونا لا نستعجل الهرولة». هل كان تشرشل عاطفيا ولم يرد زوال الامبراطورية؟ ام كان واقعيا، وعرف ان الامبراطورية ستزول، لكن الهنود، وغيرهم من شعوب العالم الثالث، لم يكونوا مستعدين لحكم انفسهم؟ غير ان اتلي كان ذكيا عندما اختار حاكما للهند ولإنهاء استعمارها لورد ماونتباتن، ابن حفيد الملكة فكتوريا، التي استعمرت الهند في عهدها، وابن عم ملك بريطانيا، الذي كان تشرشل يحترمه كثيرا. كتب غاندي في مذكراته انه فرق بين البريطانيين وحضارتهم وحريتهم، وبين سياستهم الاستعمارية في الهند ودول العالم الثالث. وأثنى على الشعب البريطاني، وعلى الفتيات البريطانيات، لكنه قال انه انه كان خجولا جدا، ولم يقدر على الاختلاط معهن. غير انه قال انه غير نادم على خجله، وقال: «خجلي لم يكن مشكلة ابدا، وبالعكس كان مفيدا. علمني ان اقتصد في استعمال الكلمات، وان افكر قبل ان اتكلم، وألا اعتذر عما قلت. وعلمني ان الصمت نوع من انواع العبادة في طريق البحث عن الحقيقة. وأن الحديث في استعلاء ومبالغة وتخويف طبيعة من طبائع البشر، ولكن الصمت يقدر على تلجيم ذلك».