اللبنانيون و«ضيوفهم».. اغتيالات قبل الحرب وبعدها

TT

اعتمد اللبنانيون، واللاعبون الخارجيون الموجودون على الساحة اللبنانية، القتل وسيلة للتعبير عن الاختلاف السياسي قبل اندلاع الحرب الاهلية عام 1975 بكثير. لكن الحرب الاهلية أدخلت «تغييرات نوعية» في طريقة الاغتيال، كما لعبت دورا في تكثيفها.

ولم يكن الاغتيال دائما وسيلة لإزاحة معارض او شخصية سياسية، ففي كثير من الاحيان قتل اشخاص لمجرد «بعث رسائل الى من يهمهم الامر»، او لـ «تصويب» أداء سياسي ما. واللافت ان غالبية عمليات الاغتيال التي حصلت بقي فاعلها مجهولا على الورق، لكن اللبنانيين واصلوا إطلاق الاتهامات بخصوصها، وقد حظيت إسرائيل وسورية بالنصيب الاكبر من هذه الاتهامات.

ورغم أن هذه الاغتيالات لم توفر الزعماء والرؤساء، اذ أودت برئيسي جمهورية ورئيسي حكومة، الا ان آثار اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري كانت الاكبر من دون شك. اذ ان الاغتيال أدى الى تحول سياسي جذري في لبنان، ولاقى استنكارا دوليا غير مسبوق.

أول الاغتيالات السياسية في لبنان في التاريخ الحديث، كان مقتل النائب والوزير السابق محمد العبود عند مدخل القصر الجمهوري في محلة القنطاري في غرب بيروت. اذ انتظره مسلح من آل العلي، لخلافات انتخابية، وبادره بإطلاق النار لدى خروجه من قصر الرئاسة بعد لقاء مع الرئيس كميل شيمعون في بداية عهده.

وفي ختام عهد شيمعون، اغتيل الصحافي نسيب المتني، يوم 27 مايو (ايار) 1958، الذي كان يشن الحملات على الرئيس شيمعون ومحاولته تجديد ولايته، وقد اتهم المعارضون «المكتب الثاني»، أي استخبارات الجيش، باغتياله. وكانت شرارة ثورة 1958 التي اندلعت في لبنان واستدعت تدخلا اميركيا مباشرا في القضية اللبنانية. وقد تكرر اغتيال الصحافيين 3 مرات بعد ذلك، اذ خطف رئيس تحرير مجلة «الحوادث» سليم اللوزي في مارس (آذار) 1980 خلال زيارة له الى بيروت، وقد وجدت جثته مشوهة الى حد كبير، وأصابعه محروقة بالاسيد. وفي يوليو (تموز) من العام نفسه. اغتيل نقيب الصحافة اللبنانية رياض طه على يد مسلحين مجهولين.

وفي 1966، اغتيل صاحب جريدة «الحياة» كامل مروة في مكتبه برصاص مسدس كاتم للصوت أطلقه أحد عناصر الميليشيات اليسارية اللبنانية. وفي 1973، دخلت اسرائيل مباشرة على خط الاغتيالات، فأرسلت وحدة كوماندوس الى محلة فردان في بيروت وقتلت 3 قادة فلسطينيين، وقد كررت إسرائيل السيناريو نفسه عام 1984 فقتلت امام بلدة جبشيت الجنوبية راغب حرب.

وفي 1975 فبراير (شباط)، كان اغتيال النائب معروف سعد خلال ترؤسه تظاهرة للصيادين في مدينة صيدا بجنوب لبنان، احدى شرارات الحرب الاهلية اللبنانية، ووسط الفوضى التي كانت قائمة في بدايات الحرب، قتلت ليندا جنبلاط، شقيقة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وزوجة الشاعر سعيد عقل في شرق بيروت الذي كانت تسيطر عليه الميليشيات المسيحية، لكن جنبلاط رفض الدخول في ردات الفعل والتقى بعدها زعيم الميليشيات بشير الجميل الذي اكد له ان «الحادث فردي». وفي 1976 دخلت السيارة المفخخة مجال الاغتيالات السياسية، وكان ضحيتها علي حسن سلامة المسؤول عن جهاز أمن حركة «فتح»، أما كمال جنبلاط فقد سقط بدوره ضحية كمين مسلح نصب له في بلدة «بعقلين» خلال توجهه من مقره في المختارة الى عاليه في 16 مارس 1977 . تلت الاغتيال مذابح ارتكبت بحق أهالي القرى المسيحية في الجبل، وبعدما تسلم وليد جنبلاط الإرث السياسي والحزبي من والده، وتوجه نحو تحالف أوثق مع سورية، غير أنه عاد أخيرا ليتهمها (تلميحاً لا تصريحاً) باغتيال والده. وأتت محاولة اغتيال عضو كتلة جنبلاط النائب مروان حمادة في اكتوبر (تشرين الاول) الماضي لتفك عرى هذا التحالف من جديد. اما حرب «توحيد البندقية المسيحية» التي خاضها الرئيس الراحل بشير الجميل خلال الحرب الاهلية، فقد أدت الى الكثير من الاغتيالات والمجازر كمجزرة «الصفرا» بحق انصار الرئيس كميل شيمعون، ومجزرة «اهدن» التي أودت بحياة النائب طوني فرنجية، نجل الرئيس سليمان فرنجية وزوجته وطفلتهما. وقد دفع الجميل نفسه الثمن مرتين، الاولى بمقتل ابنته مايا (سنة ونصف) بتفجير سيارة مفخخة في 23 فبراير 1980، ثم باغتياله شخصيا بتفجير مقر حزب الكتائب خلال مشاركته في اجتماع عقد فيه قبل تسعة ايام من تسلمه مهامه الدستورية كرئيس للبلاد. وقد أدى الانفجار الى مقتل 32 شخصا. وفي الثمانينات ايضا «ازدهرت» عمليات الاغتيال التي طالت فيمن طالت مسؤولين في حركة «أمل» بتفجير عبوة ناسفة 1985، ورئيس القضاء المذهبي الدرزي الشيخ حليم تقي الدين 1983، ورئيس المجلس الاسلامي الشرعي الاعلى الشيخ صبحي الصالح في بيروت 1986 . وبعدما كان رئيس الوزراء الاسبق، رياض الصلح، ضحية لعملية اغتيال في الاردن قام بها لبنانيان وفلسطيني 1951، انتقاماً لإعدام رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي انطوان سعادة الذي ادين بتهمة القيام بانقلاب فاشل، أتى دور الرئيس السابق للحكومة رشيد كرامي الذي قتل بطريقة مبتكرة، اذ انفجرت عبوة زرعت خلف مقعده في طائرة الهليكوبتر العسكرية التي كانت تقله من طرابلس الى بيروت. ولم يؤد الانفجار الى سقوط الطائرة ولا حتى اصابة الوزير عبد الله الراسي الذي كان يجلس قبالته في الطائرة. وقد ادين قائد «القوات اللبنانية» المحظورة سمير جعجع بتدبير العملية وحكم عليه بالاعدام مخففاً الى السجن المؤبد.

وفي 16 مايو 1989، اغتيل مفتي لبنان الشيخ حسن خالد بتفجير سيارة مفخخة لدى مرور موكبه في محلة عائشة بكار في بيروت. ايضا كانت الساحة اللبنانية مسرحا لعدة اغتيالات استهدفت الدبلوماسيين العرب والاجانب، كجزء من الرسائل المتبادلة بين الدول «المتورطة» في الملف اللبناني. وابرز السفراء الذين اغتيلوا في بيروت، كان السفير الاميركي فرنسيس ميلوى الذي خطف لدى وصوله الى بيروت مع المستشار السياسي في السفارة روبرت وارينغ وسائقهما اللبناني قبل ان يقتلوا جميعا. وفي خضم الحرب العراقية ـ الايرانية، اغتيل في بيروت الملحق في سفارة العراق محمد علي خضير عباس مع مرافقه، وبعد نحو اسبوع اغتيال المستشار السياسي للثورة الاسلامية الايرانية محمد صالح الحسيني. وفي 4 سبتمبر (ايلول) 1981، حاول مسلحون خطف السفير الفرنسي لوى دو لامار، ثم قتلوه لدى مقاومته إياهم، وبعدها بعام اغتيل الملحق العسكري الفرنسي غي كفالو وزوجته في منزلهما في غرب بيروت. ودفع الدبلوماسي الروسي اركادي كاناكوف ثمن «تدخل» بلاده في الساحة اللبنانية، اذ خطفه مسلحون مجهولون ثم قتلوه عام 1985. وهناك دبلوماسيون آخرون قتلوا في لبنان كسفير اليمن احمد محمد الشافي 1975، والسكرتير الاول في السفارة التركية اوكتار سيريت 1979، والوزير المفوض في السفارة الجزائرية رابح خرواع 1982، وقنصل النمسا غيرهارد لوتسنبارو 1984. والسكرتير الاول في السفارة الاردنية نائب عمران المعايطة 1994.

وبعدما أقر اتفاق الطائف، لاح أمام اللبنانيين فجر جديد بسبب الدعم المحلي والعربي والدولي الذي ناله الرئيس المنتخب رينيه معوض الذي انهى سنة من الفراغ الرئاسي (بسبب العجز عن انتخاب رئيس عام 1988)، غير أن اغتيال معوض بتفجير استهدف موكبه بعيد مشاركته في احتفال بعيد الاستقلال في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 كان رسالة اخرى ان العنف السياسي سيد الموقف فى الصراع داخل لبنان. ولم تمر الاطاحة بالعماد ميشال عون وحكومته بعملية لبنانية ـ سورية في 13 اكتوبر (تشرين الاول) 1990، من دون ضحايا، اذ اغتال مسلحون ملثمون رئيس حزب الوطنيين الاحرار دوري شيمعون وزوجته وطفليه في منزلهما بعد ايام على الاطاحة بعون. وقد ادين قائد «القوات» المحظورة سمير جعجع باصدار امر الاغتيال وحكم بالاعدام مخففاً الى المؤبد، لكن كما في اغتيال كرامي يصر «القواتيون» على ان سورية هي التي قامت بالاغتيال. وفي 1992، عادت اسرائيل مجدداً الى تنفيذ الاغتيالات المباشرة، وكان الضحية هذه المرة الامين العام لـ «حزب الله» الشيخ عباس الموسوي وزوجته وطفلهما، عندما استهدفت طائرات اسرائيلية موكبه خلال انتقاله من الجنوب الى بيروت. وفي 2002، سقط الوزير والنائب السابق ايلي حبيقة ضحية الكم الهائل من المعلومات التي يمتلكها جراء احتكاكه بأجهزة المخابرات المختلفة. فقتل بتفجير سيارة مفخخة شوهت جثته خلال انتقاله من منزله الى البحر لممارسة هواية الغطس. وفي 14 من العام الجاري، كانت آخر الاغتيالات بسقوط الرئيس رفيق الحريري بتفجير استهدف موكبه، وعلي عكس الاغتيالات السياسية الاخرى التى قسمت لبنان طائفيا وسياسيا، فإن اغتيال الحريري ادى الى نوع من اللحمة الوطنية تعدى المصلحة الطائفية المباشرة والضيقة إلى مصلحة البلاد.