قصص من «سنوات الرصاص» في المغرب

الصحافي عبد اللطيف جبرو يدقق مرويات البخاري

TT

أصبح تعبير «سنوات الرصاص»، وهو ترجمة حرفية عن الفرنسية غير مستساغة في العربية، جاريا على الألسن والأقلام منذ بدأ المغاربة، دولة وهيئات حقوقية واحزابا سياسية، ينبشون ماضي بلادهم السياسي الذي عاشوا في ظلاله، أو ظلامه، طوال العقود التي أعقبت الاستقلال عام 1956 إلى غاية عقد التسعينات، حيث بدأت عملية تعرية المستور وتسليط الأضواء الكاشفة على دروبه المعتمة، حين تولى المهمة أولا الضحايا المدنيون والعسكريون الذين اقترفت في حقهم خروقات وتعديات لم يتخلصوا من آثارها النفسية والجسدية، فصاغوها بأنفسهم في شكل مذكرات، أو استعانوا بمن يتقن صنعة الكتابة.

وإذا كانت الدولة قد اعترفت صراحة بمسؤوليتها وقدمت اعتذارات بصور شتى من بينها إتاحة الفرصة للضحايا ليقصوا علانية للأجيال الحالية ما قاسوه من ألوان العذاب والحرمان وأشكال التعسف، فقد تحولت جلسات الاستماع العمومية والاعترافات إلى ما يشبه عملية تطهير النفس من كابوس ظلت تنوء بحمله لسنوات. وبموازاة شهادات الضحايا، فتح بعض من كانوا في صف الجلادين، صناديق أسرارهم، وأمطروا الساحة الإعلامية بفيض من الكتابات والتصريحات المثيرة عن ملفات وحوادث ما زالت محاطة بالغموض، أبرزهم، عميل المخابرات المغربية السابق، أحمد البخاري، الذي أجريت معه سلسلة أحاديث جمع بعضها في كتاب، تضمنت حقائق مثيرة مذهلة عن عمل الأجهزة السرية في المغرب، ودورها على سبيل المثال لا الحصر، في تصفية الزعيم اليساري المهدي بن بركة، الذي اختطف في وضح النهار من قلب العاصمة الفرنسية باريس، عام 1965، اهتمت بها الصحافة الفرنسية نفسها، التي فتحت صدر صفحاتها هي الأخرى لروايات البخاري. ورغم أن بعض أقواله يحتمل الصدق أو المبالغة إن لم نقل الكذب، فإنها لا تجانب الصواب، أو على الأقل من شأنها أن تهدي المحققين والمؤرخين لمزيد من التقصي والتحري، وهو ما يجري حتى الآن.

لم تتصد الدولة المغربية، باعتبارها المسؤولة أخلاقيا وسياسيا عن أغلب التجاوزات التي طالت حقوق الأفراد والجماعات في المغرب، لمرويات البخاري، ولم تواجهه بروايتها الخاصة للأحداث، وتركت الراوي المثير، في مواجهة مع من تعرض لسيرتهم، من العملاء السريين، الذين لاذ أغلبهم بالصمت، وحتى بعض السياسيين الذين اتهمهم البخاري بالعمل لصالح المخابرات، لم يجرؤا على الكلام واكتفوا بالتنديد بالافتراءات التي روجها العميل السابق، والتي طالت حتى الأموات الذين لا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم.

ولم يكن كذلك في مقدور أغلب الصحافيين المغاربة لحداثة سنهم التصدي بالتقريظ أو التسفيه، لكتابات البخاري، ما دامت المستندات غائبة، غير زميلهم عبد اللطيف جبرو، المواظب على الكتابة في يومية «الأحداث المغربية»، فذاكرته الحديدية اليقظة، وفضوله الصحافي الذي لا يهدأ، ومعايشته للأحداث التي توالت على المغرب منذ مطلع الستينات، واقترابه ومخالطته لأبطالها الرئيسيين والثانويين، والاستماع إلى أقوالهم في سياقات ومقامات معينة، أهلته كل تلك الصفات المهنية والشخصية لإخضاع ما رواه البخاري للتدقيق ووضعه تحت جهاز كشف الكذب، من زاوية نظره وأرشيفه الخاص.

وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى صفة تدوينية مشتركة يتقاسمها البخاري وجبرو، فكلاهما مولع بالأخبار، يعتمد على ذاكرته وسماعه ومستنداته، وهما معا يكتبان من خارج سلطة أية مؤسسة رقابية. ليست مرجعيات البخاري، دائما ملفات المخابرات المغربية مثلما أن جبرو يدافع أو يكشف الحقيقة كما تراءت له، وتجمعت لديه خيوطها، لذلك اختار لكتابه الأخير «سنوات الرصاص» عنوانا فرعيا نقاش مع البخاري، الذي يعترف له بأن كشفه البخاري عن حقائق سنوات الرصاص عملية جد مفيدة، فهذا إنسان، يقول جبرو، يعترف بأنه من أصحاب جهاز «الكاب»، ولا ينكر أنه كان يشارك في جلسات البحث والاستنطاق (ص25). لكن جبرو يستنكر في فقرات موالية، ما ذهب إليه البخاري من كون عبد الرحيم بوعبيد، زعيم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الراحل، تآمر مع الجنرال السفاح محمد أوفقير للإطاحة بالملك الراحل الحسن الثاني عام 1972، لأن الفاصل بينهما جثة المهدي بن بركة، مقدما دلائل وحججا تدحض ما زعمه البخاري، قائلا في مكان آخر من الكتاب (ص81) يدرك القارئ مدى انعدام الدقة في المعلومات التي ظل يتناقلها العاملون في الأمن الوطني وأجهزة الاستعلامات، ما يقود جبرو إلى استنتاج أن البخاري عرف شيئا وغابت عنه أشياء.

والخلاصة أن كتاب جبرو الواقع في 114 صفحة، وهو في الأصل مقالات نشرها في يومية «الأحداث المغربية»، ليس طعنا في روايات البخاري كلها، لأن شهاداته لا يمكن الاستغناء عنها (ص12)، بل مطية استغلها جبرو للإدلاء برواياته الخاصة للأحداث، سواء تلك التي تناولها البخاري، أو التي قفز عليها، لا سيما الوقائع التي عاشها وعايشها، أو كان ضحيتها، مثل قصة اعتقاله عام 1963 على خلفية مشاركته في المؤامرة التي ابتدعها أوفقير للإجهاز على الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أقوى التشكيلات اليسارية آنذاك. وفي دهاليز الاعتقال تعرف جبرو على الضابط ادريس البصري، الذي سيصبح في ما بعد الرجل النافذ في الدولة المغربية، مصححا في بعض الأحيان معلومات البخاري عن رفيقه في الخدمة البصري.

كتاب «سنوات الرصاص» حلقة توضيحية ضمن سلسلة نقاشات عن أحداث لا تفصل لها (جبرو) ذاكرته وذكرياته، وحركت قلمه، وهي في جميع الأحوال رغم طابعها الصحافي، مفيدة للمؤرخ، ليكمل شغله، تنويرا للرأي العام.