لم يكن رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري يريد لأولاده أن يخوضوا غمار الحياة السياسية بكل أشواكها وألغامها، ولهذا فضل توجيه اهتمامهم نحو عالم الأعمال، لكن القدر شاء أن يدفع بهم في أتونها بعدما «خُطف» الحريري وهو في مقتبل حياته السياسية. وهكذا أتى قرار تولي سعد الدين رفيق الحريري العمل السياسي، مضافاً إليه استمرار شقيقة الحريري، النائبة بهية الحريري، في هذا الحقل، ليشكل بداية لتحول عائلة الحريري إلى «عائلة سياسية» تنضم إلى العديد من العائلات السياسية، التي نجت من «الانقراض» السياسي بسبب الحرب الأهلية.
لقد نشأ لبنان في نسخته «التجريبية»، إن صح التعبير، على أكتاف العائلات السياسية، حيث كان يتزعم جبل لبنان قبل توسيعه إلى لبنان الكبير عام 1926، العديد من العائلات الإقطاعية الكبرى. بعدها تولى أفراد من العائلات السياسية رئاسة لبنان قبل الاستقلال وبعده. ويرى منسق «المركز اللبناني للأبحاث المجتمعية»، وأستاذ علم الاجتماع في الجامعة اليسوعية في بيروت، الدكتور عبدو قاعي، أن ظاهرة العائلات السياسية لا تتعلق فقط بالبلدان التي لم تترسخ فيها الديمقراطية كما يسود الاعتقاد، مشيراً إلى وجود مثل هذه العائلات «بأشكال مختلفة» في الدول الغربية. ويقول قاعي، إن العملية لا تزال في لبنان وراثية بشكل مباشر، «لأن بنيته ما تزال طائفية». معتبراً أن لبنان مؤلف من 18 طائفة شاركت في النظام السياسي منذ 194.
ويضيف قاعي، أن الوضع في فرنسا، مثلاً، تغير بسبب قيام ثورة شعبية. معتبراً أن لبنان كان مهيئاً لمثل هذه الثورة، لولا اندلاع الحرب الأهلية التي منعت تقدم لبنان. وقال: «لو كانت الحرب ثورة اجتماعية بدلاً من طائفية، لكان المشهد اختلف، فالحرب أعادت اللبنانيين إلى العائلات، كوحدة للعمل السياسي».
وقد كان رجالات الاستقلال اللبناني «بذرة» لعائلات سياسية ما يزال بعضها قائماً حتى اليوم، وأضيفت إليها عبر الزمن عائلات أخرى. ومن هؤلاء الرجالات: رئيس الجمهورية، آنذاك، بشارة الخوري، ورئيس الحكومة، رياض الصلح، وعبد الحميد كرامي، وحميد فرنجية، وصائب سلام، والأمير مجيد أرسلان، والرئيس علي عسيران، وصبري حمادة، وفيليب تقلا، وكميل شمعون، وبيار الجميل.
وقد عمل نجل الرئيس الخوري في السياسة، فانتخب نائباً في فترة لاحقة لينقطع «النسل السياسي» للعائلة. أما الرئيس رياض الصلح، فقد تولى رئاسة عدة حكومات، لكنه لم يرزق بأبناء ذكور، فغابت سلالته عن الحكم إلى أن عينت ابنته الصغرى العام الماضي وزيرة للاقتصاد والتجارة.
* «انقراض» الشيعة آل الأسعد: انقسام عائلي
* ورَثَّ الرئيس عسيران المقعد النيابي المعروف للعائلة في منطقة الزهراني بجنوب لبنان، إلى نجله علي، النائب الحالي. لكن هذه العائلة، كعائلات شيعية جنوبية أخرى، منها آل الخليل وآل الزين، اضطرت إلى الدخول تحت عباءة القوة الشيعية الصاعدة، حركة «أمل» ورئيسها نبيه بري، رئيس البرلمان الحالي، لضمان استمرارها في الحياة السياسية والبرلمان، راضية بقلة التأثير كأفضل الممكن خوفاً من سقوطها كعائلات كبرى أخرى، منها عائلة الأسعد.
لقد طبعت عائلة الأسعد الحياة السياسية والاجتماعية في جنوب لبنان لعقود من الزمن. وكان آل الأسعد يحملون لقب «البك»، وهو لقب تركي الأصل. فكان كامل بك الأسعد الزعيم المؤسس، تلاه أحمد الأسعد، الذي اشتهر بعبارة نقلت عنه يقال إنه رددها أمام وفد جنوبي جاء يطالبه بإنشاء مدرسة «لماذا المدرسة، أنا أعلم لكم كامل». وكامل هو نجله الذي أصبح في ما بعد رئيساً لمجلس النواب حتى 1985، قبل أن يستبعد لصالح حسين الحسيني، الآتي من حركة «أمل»، والذي تخلى عن الرئاسة للرئيس بري، الآتي مع الحركة إلى المجلس. وعائلة الأسعد الآن منقسمة بين كامل الأسعد ونجله أحمد، الذي انشأ حزباً مغموراً، بالإضافة إلى فرع آخر من العائلة يتزعمه رياض الأسعد.
* آل حمادة: بزوغ خلال الحرب
* وما يحكى عن آل الأسعد يصح على آل حمادة في البقاع، الذين غابوا عن الحياة السياسية منذ بزوغ الحركات الشيعية خلال الحرب الأهلية. لكن اسم نجل رئيس مجلس النواب السابق صبري حمادة، ما يزال يذكر بين الحين والآخر، كما حصل عندما زاره وفد من السفارة الأميركية منذ أشهر، واستدعت الزيارة استنكارات واسعة من قبل القوى النافذة في المنطقة. لقد شنت حركة «أمل» حرباً لا هوادة فيها ضد ما اصطلح رئيسها نبيه بري على تسميته «الإقطاع السياسي»، المتمثل أساساً بآل الأسعد، الذين لم يدخلوا «بيت الطاعة» الجديد كما فعلت بعض العوائل الأخرى. وأدت هذه الحرب إلى تحجيم القوة السياسية والشعبية لآل الأسعد إلى حد كبير.
* العائلات السنية: الزعامات المفقودة
* عاشت الساحة السياسية السنية حالة من الفراغ الكبير في الزعامات الكبيرة قبيل وصول الرئيس الحريري إلى السلطة، فبعض هذه الزعامات قتل، وبعضها أجبر على مغادرة البلاد، وبعضها الآخر فقد الكثير من وهجه، غير أن عائلات قليلة ما تزال ناشطة في العمل السياسي، منها آل كرامي وآل سلام وآل الصلح.
* آل كرامي: الأب والأشقاء
* بعدما كان عبد الحميد كرامي واحداً من رجال الاستقلال البارزين، ورث ابنه رشيد العمل السياسي منذ الخمسينات حتى منتصف الثمانينات، حيث قضى اغتيالاً. وقد ترأس رشيد كرامي 10 حكومات خلال هذه الفترة، ولعب دوراً بارزاً في عهود رئاسية عدة. عندما قتل الرئيس كرامي، وكان عازباً وبدون أولاد طبعاً، برز إلى الضوء شقيقه عمر كرامي، الذي ألف حكومتين في عهدي الرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود، كما انتخب عن المقعد الذي كان يشغله شقيقه ثلاث مرات متوالية. أما شقيقهما الثالث، معن كرامي، فهو يعمل في الحقل السياسي أيضاً إلى جانب شقيقه، لكن لم يسند إليه أي منصب أو دور سياسي بعد، علماً بأن نجل كرامي، فيصل، ينشط في هذا الحقل، وهو يمثل الرئيس كرامي في عدة مناسبات ويلقي كلمات باسمه.
* آل سلام: ثمن الاختلاف في الرأي
* كان الرئيس صائب سلام أحد الموقعين على النسخة الأولى من العلم اللبناني، وهو عمل في الحقل السياسي سنوات طويلة وتولى رئاسة الحكومة عدة مرات، إلى أن اضطر لمغادرة البلاد في الثمانينات بعد «اختلاف في الرأي» مع سورية، كما يقال. ولم يعد سلام إلى بيروت إلا في أواسط التسعينات ليغادرها مريضاً ويعود لاحقاً إلى مثواه الأخير. ورث نجله تمام سلام العمل السياسي، ومؤسسة «المقاصد» الشهيرة، وقد انتخب تمام نائباً عام 1996، لكنه سقط عام 2000 أمام الرئيس الحريري، الذي اكتسح مقاعد بيروت النيابية.
* العائلات الدرزية: بيكات وأمراء آل جنبلاط: الوهج السياسي
* تختصر العائلات السياسية الدرزية حالياً بعائلتين فقط، برزتا في العمل السياسي وتبعتهما بقية العائلات، فآل أرسلان يستمدون قوتهم السياسية من زعامة الأمير عبد المجيد أرسلان، الذي كان وزير الدفاع في حكومة الاستقلال. وقد ورث ولده الأمير طلال أرسلان التركة السياسية بعد صراع غير معلن مع شقيقه الأكبر فيصل، وهو الآن نائب عن منطقة عاليه، لكن وهجه السياسي أخف من وهج وريث «الجهة المقابلة»، النائب وليد جنبلاط، الذي يتحدر من عائلة جنبلاط الكبيرة ذات التاريخ السياسي. ورغم هذه الميول والنزعة الاشتراكية لدى والده كمال جنبلاط التي ترجمها من خلال حزبه «التقدمي الاشتراكي»، إلا أن جنبلاط بك استطاع أن يجمع خلفه قسماً كبيراً جداً من أبناء الطائفة الدرزية. وقد ورث نجله وليد العمل السياسي والحزب معاً، وهو يتولى الآن رئاسة أكبر الكتل النيابية، ويقود المعارضة ضد السلطة. وقد باشر جنبلاط تهيئة ابنه تيمور للعب دور ما في الحياة السياسية لم تتضح تفاصيله بعد.
* العائلات المسيحية: حرب الزعامات
* شهد لبنان العديد من العائلات المسيحية التي لعبت أدواراً بارزة في الحياة السياسية، كعائلات إده والجميل وشمعون وسعيد ولحود وفرنجية والهراوي وسكاف وفرعون. وبُعيد اندلاع الحرب الأهلية خاضت هذه العائلات حروباً عدة لـ«تحسين الوضع»، وعمدت عائلة الجميل إلى تحجيم العائلات الأخرى حتى الثمانينات، عندما بدأ دورها بالتراجع. ومن أهم العائلات المسيحية:
* آل الجميل: شبكة تحالفات
* كان بيار الجميل واحداً من الذين ساهموا بطريقة أو بأخرى في استقلال لبنان، وقد أسس الجميل حزب الكتائب اللبنانية قبل الاستقلال عام 1943، وترأسه حتى وفاته في عام 1984. لكنه لم يستطع تحقيق حلمه بتولي الرئاسة، إنما فعل ذلك ولداه بشير، الذي اغتيل قبيل تسلمه مقاليد الرئاسة، وأمين، الذي انتخب خلفاً له، قبل أن يترك البلاد عام 1989 بدون رئيس، خائفاً على حياته بسبب الصراع مع «القوات اللبنانية»، التي أنشأها شقيقه وترأسها حتى وفاته، والجنرال ميشال عون الذي عينه قائداً للجيش، ثم رئيساً لحكومة عسكرية مؤقتة. عاد أمين الجميل إلى لبنان أواخر التسعينات وأمن وصول نجله بيار إلى المجلس النيابي بواسطة شبكة تحالفات نسجها. علماً بأن لأمين الجميل ابناً آخر، هو سامي الجميل، الذي يقود حركة طلابية متنامية. ويسعى آل الجميل الآن بقوة لاستعادة حزب الكتائب إلى العائلة، وهم يقودون حركة «إصلاحية» كتائبية دخلت في صراع علني مع قيادة الكتائب الحالية.
* آل شمعون: منذ حكومة الاستقلال
* كان كميل شمعون وزيراً في حكومة الاستقلال الأولى، وأصبح لاحقاً الرئيس الثاني بعد الاستقلال. أنشأ حزب «الوطنيين الأحرار» وترأسه حتى وفاته. ولى ابنه الأصغر، داني، قيادة الميليشيا المسلحة للأحرار، لكن بشير الجميل حجّم قوته العسكرية عبر عملية عسكرية عرفت باسم «مجزرة الصفرا»، نسبة إلى منطقة الصفرا، شمال بيروت، التي جرت فيها. وفي عام 1991 اغتيل داني شمعون، فأتت ابنته تريسي إلى بيروت في محاولة لوراثة والدها، لكنها فشلت، فعاد النجل الأكبر لشمعون، دوري، إلى البلاد وترأس الحزب، كما يترأس منذ 1998 بلدية دير القمر الشوفية، مسقط رأس والده.
* آل فرنجية: من جيل إلى جيل
* كان حميد فرنجية من رجالات الاستقلال أيضاً، وقد ورث ابنه سليمان العمل السياسي في منطقة زغرتا وانتخب رئيساً للبنان، لكن الحرب اندلعت في عهده، وقتل ابنه، النائب والوزير طوني فرنجية، على أيدي مجموعة من «القوات اللبنانية»، التي كانت تسعى حينها (عام 1978) إلى «توحيد البندقية المسيحية»، فتولى شقيقه روبير، قيادة ميليشيا «المردة»، التابعة للعائلة، حتى كبر نجل طوني، سليمان، فتولى العمل السياسي في العائلة، وانتخب على رأس لائحة نيابية منذ عام 1992، كما عين وزيراً عدة مرات، وكان اسمه من بين المرشحين الدائمين للرئاسة في لبنان.
* آل إده: ضمير لبنان
* طبعت عائلة إده الحياة السياسية منذ ما قبل الاستقلال اللبناني. وكان اميل إده، ثاني رؤساء لبنان عند تأسيسه 1926 وقبل استقلاله. وفي الخمسينات لعب ريمون إده، الملقب بـ«ضمير لبنان»، دوره كأحد أبرز أركان المعارضة في عهد الرئيس كميل شمعون. وبعد اندلاع الحرب الأهلية ودخول القوات السورية إلى لبنان، غادر إده الى منفاه في باريس، حيث بقي حتى وفاته. وكان إده عازباً، فورثّ العمل السياسي وحزب «الكتلة الوطنية»، إلى ابن شقيقه كارلوس، الذي لم يكن منخرطاً في العمل السياسي من قبل.