وثيقة قروانية عن تلاوة القرآن منذ القرن الأول للهجرة

عبد الوهاب بوحديبة في كتابه «ثقافة القرآن»

TT

الدكتور عبد الوهاب بوحديبة من المؤسسين الأوائل لقسم علم الاجتماع في الجامعة التونسية.

ومن إصداراته كتابه «الجنسانية في الإسلام» و«لأفهم»، وهو عبارة عن بحوث تنظر في جدلية المجتمع والدين والثقافة.

مؤخرا، أصدر بوحديبة كتابا عنونه بـ «ثقافة القرآن» الذي أثير حوله جدل واسع لدرجة أن باحثا هو الدكتور منجي الكعبي أصدر في مدة قياسية لا تتجاوز الثلاثة أشهر كتابا نقديا يرصد فيه بعض الملاحظات حول كتاب «ثقافة القرآن».

يختلف هذا الإصدار الجديد عن بقية مؤلفات عبد الوهاب بوحديبة، فهو نص عبارة عن إجازة في تدريس علم القراءات منحت للشيخ عمر بوحديبة في 31 مارس 1762، ورأى صاحب الكتاب أنها تؤسس من جهتها للنص القرآني في وسط مجتمع القيروان خلال القرن الثامن للميلاد لذلك فهي تتنزل في قلب ثقافة القرآن ذاتها.

والإجازة الوثيقة التي يهتم بها الكتاب هي عبارة عن قطعة مقاسها (53 x 40.5 سم) من الرقع البديع المصنوع من جلد الغزال مكتوبة بالخط المغربي الدقيق والمتأنق. وينقسم نص الإجازة إلى قسمين :

القسم الأول يهتم بالتجويد ويقدم أسانيد رواية النص القرآني من جيل إلى جيل عن الرسول صلى الله عليه وسلم. أما القسم الثاني فهو خاص بالمقرئ الشاب ويتضمن التوصيات التي تقدم مثل هذه المناسبات. لكن الملفت للنظر فيها أنها تحضه على عدم الاكتفاء بمستواه الحالي من الكفاءة وتحرضه على «الازدياد في العلم» وعلى «خفض جناحه» بكل تواضع، والقيام بمهمته بكل أمانة ودقة، وعدم التردد في الرجوع إلى الوراء إذا أخطأ في تلاوته، قصد القيام بقراءة ثانية سالمة من الأخطاء. ويجب ألا يدفعه الغرور فيأنف أمام الحاضرين من التراجع، لأنه من الضروري أن يرتل النص المقدس بأصله وحذافره وجزئياته عن الرسول صلى الله عليه وسلم. لذلك كان تدريب المجاز على القراءات بطيئا وطويلا، علما بأن نظام الإجازة وصيغتها وطريقة العمل بها من خصائص التعليم الجامعي الإسلامي. ولكن من هو صاحب هذه الإجازة؟

إنه عمر بوحديبة المتوفى عام 1802 ينتمي إلى هيئة فقهاء القيروان وكان معاصرا لنخبة من كبار العلماء أمثال محمد بوراس ومحمد الخنقي ومحمد عطاء الله. وقد عين قاضيا سنة 1800. ويسترسل صاحب الكتاب في الحديث عنه فيقول: «وكان من تقاليد طلبة العلم أن يغتربوا وأن يقصدوا مدنا نائية مثل القاهرة أو مكة أو المدينة أو دمشق أو فاس، لكن الشاب عمر لم يقطع مسافة بعيدة بل اكتفى بتونس العاصمة وزيتونتها. ولما عاد إلى القيروان تولى عدة وظائف، فكان مقرئا مرتلا وشاهد عدل، ومدرسا بجامع الزيتونة في مسقط رأسه وأخيرا قاضيا ابتداء من سنة 1800، في عهد حمودة باشا. ولقد نشأ الشيخ عمر في أسرة ظل فيها القرآن ودراسته النظرية والعملية من المشاغل اليومية العادية. وكان والده الحاج محمد فقيها هو أيضا، مشهورا بنسكه وورعه وتجويده للقرآن، وهو الذي أيضا لقن ابنه الشاب عمر المبادئ الأولى لثقافة القرآن، فحفظه إياه وقراءاته ودربه على فن التجويد وحببه إليه، كما شجعه على الأخذ عن كبار مشايخ القيروان في ذلك العصر وعلى إعداد إجازته على يد الشيخ الثقاقلي البكري».

ويضيف بوحديبة أنه لو كان الشيخ عمر معاصرا لملك فرنسا لويس الخامس عشر ولو كتب له أن يولد في الشمال لعاش عهد الثورات الأمريكية والأوروبية. ولئن كان قيروانيا ومسلما فمن المرجح أنه لم يسمع قط بحملة بونابرت التي أثرت تأثيرا كبيرا في التاريخ المعاصر وكذلك لم يسمع بالتقلبات الكبرى التي زعزعت الغرب والشرق الأدنى، وإنما كانت تشغله أحداث أخرى جرت طوال القرن الثامن عشر المليء بالفتن والانتفاضات السياسة التي أصابت القيروان جميع انعكاساتها. فقد كانت لمدينة عقبة مكانة دينية زيادة على بعدها عن الساحل وموقعها الجغرافي ومكانتها التاريخية والثقافية في وسط البلاد، وهو ما جعلها في صدارة المنافسات والدسائس والحروب الأهلية الشرسة بين الحفصيين والشابية، وبين العثمانيين والإسبان، وبين العديد ممن رشحوا أنفسهم للسلطة على اختلاف أنواعهم، مثل القرصان درغوث باشا، جواب البحار والجزر والسواحل الذي لعب هو الآخر، دورا داميا في القيروان.

وحول الدلالة الرمزية لهذه الوثيقة أبرز الدكتور عبد الوهاب بوحديبة بأن هذه الوثيقة تعتبر شاهدا أساسيا لما أسماه «ثقافة القرآن»، والتي يقصد بها جملة السمات المميزة التي طبع بها القرآن المجتمعات المعتنقة للإسلام. وهذه السمات تجلت بطرق مختلفة على مستوى الأشكال أو على مستوى النفس الذي وحد بين رؤى العالم والتصرفات الفردية أو الجماعية والرموز والتصورات الحياتية العادية. كما كشف بوحديبة عن العلاقة بين الإيمان بالقرآن وثقافة القرآن، معتبرا أن السر الحقيقي للعقيدة الإسلامية يكمن في هذا الإيمان، لأن القرآن يتضمن إطارا عقليا برمته وليس مجرد وحي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. إنه كلام تأسيس بلا شك، ولكن يتعين اعتباره دوما حضورا للقدسي في التاريخ وناقلا للأحداث وارتباطا متجددا بالأصول. وليس التجويد مجرد قراءة بل هو دعاء وصلاة وانبعاث للقدسي. بل هو الحضور عينه ولقد أوكلت للمرتلين مهمة تمكين المؤمنين من تقبل النص القرآني وإدراكه في صفائه وكذلك مهمة الإبانة عما لا يستبين. إنه عمل جليل يقتضي من المرتلين وقارا وشعورا بالمسؤولية ودراية كبيرة بفن التجويد. وقد كانوا يتدربون عليه بكامل الدقة والعناية وعلى مدى السنين. وفي خصوص تعدد طرائق التلاوة وتنوع أساليبها يذكر بوحديبة أن السنة أقرت ذلك واستبعدت الغناء. ويقول في هذا السياق: «ولا شك أن المفروض في القرآن ترسيخ الإيمان ولكن هل يمكن أن يحدث الطرب؟ أين يقع الحد الفاصل بين الأحاسيس الرقيقة والانفعالات القوية قد تبلغ حد الغشية، وهو ما يثير استنكار جميع الناس؟ ذلك أن تلحين القرآن بدأ منذ القرن الأول للهجرة، فأصبح الغناء في خدمة النص المقدس والعكس بالعكس، مما أدى إلى معارضة شديدة من قبل الفقهاء. وبينت هند شلبي أن محاولات لتلحين القرآن وقعت في إفريقية إلى عهد متأخر، لكنها زالت تماما في الفترة التي كتبت فيها هذه الوثيقة. وكان المقرئون- كما هو الشأن اليوم ـ يدعون إلى مجالس صوفية يتذوق فيها مرتادوها الغناء والموسيقى الوترية أو النقرية. وكانت المزامير وغيرها من آلات الموسيقى محرمة في المساجد ومباحة فقط في الأعراس أو للإعلان عن حلول شهر رمضان وانتهائه.

ويرى بوحديبة أن هذه الوثيقة (أي الإجازة) تلقي أضواء على مدينة القيروان في الزمن الواقعي، كما يقال، وعلى ما عاشته من بلايا ومحن، تخلصت منها بعد ذلك. وهذا الوضع التاريخي بما جرى فيه من أحداث يعطي وزنا أكبر للعلاقة الخالدة بالقرآن الكريم. فعن طريق الإسناد، تبرز جدلية ترسيخ كلام الله الأزلي في الواقع الحياتي العادي. ولئن كان يفصلنا قرنان ونصف القرن عن نص هذه الإجازة فلقد تمكن صاحب الكتاب من إجراء حوار حقيقي وربط صلة جديدة بالأصول والجذور. ذلك أن الزمن الذي يمر في ثقافة القرآن ليس مجرد وعد بالنعيم أو مجرد وعاء للخلود. ولعله يعسر على من كان متجردا من الإيمان ـ إذ لا معنى لهذا النص دون غوص في اللامحدود ـ أن يتصور إلى أي مدى يمكن للنص القرآني وللحضور الرباني أن يتماثلا. ففي هذا «الحاضر» يمر الزمن ويبرز في طياته الخلود، في لمحة عابرة. ومن خلال الزمن الذي لا ينفك عن الوثب من سند إلى سند، ينحبس زمن آخر لا يحول.

جدل حول الكتاب

* قلنا في بداية عرض محتوى الكتاب إنه حصل بعض الجدل حوله. ومن الملاحظات التي أجراها الدكتور المنجي الكعبي في كتابه التعليق عن كتاب «ثقافة القرآن» ما يتصل بالعنوان نفسه الذي رأى أنه يثير التوقف أكثر من القبول. والتحليل الذي أورده الكعبي قال فيه إن «الثقافة اسم يطلق على كل ما هو غير الوضع الأصلي والطبيعي للأشياء، قبل تبني مفهوم الثقافة في مجتمعاتنا الحديثة بصعوبة، باعتباره مفهوما أجنبيا وقع تسويقه بهدف التغيير في مقوماتنا العربية والإسلامية، حتى أن بعض أجهزتنا التقليدية الموكلة في السباق بالأوقاف والإرشاد والتربية والتعليم زالت أو انفصلت لتفسح المجال للثقافة بمؤسساتها بالمفهوم الأجنبي. فالثقافة، كما لا يخفى، تدخل لتقويم الأصل وتغيير شكله وجوهره أحيانا. والنسبة بالياء إلى القرآن أسلم من الإضافة إليه. فإنه لا يضاف إلى القرآن إلا كل ما هو إسلامي مبرأ من التأثير اللائكي، فتقول : مدرسة قرآنية، أفضل من علوم القرآن، لعدم الحصر وهكذا. وتكاد الإضافة تختص بألفاظ معلومة كتفسير القرآن وما في معناه، وإعجاز القرآن ونحو ذلك، للحرج الواضح في عنوان مثل ثقافة القرآن، إذ ان القرآن هو كلام الله المنزل، وهو أحكام مرعية وتربية يتربى المرء عليها، وليس مسألة ثقافة، قابلة للأخذ والرد والنقاش والرفض.

وربما «ثقافة قرآنية» أنسب للموضع الذي اختاره المؤلف طالما تجانف عن العبارة التقليدية «آداب القران» ولكن ما العمل وثقافة الشخص حتما يرشح بها اختياره. أو كما قيل اختيار جزء من عقله، أو قطعة من عقله؟ ولكن لا أحد يشكك في ثقافة الأستاذ بوحديبة العالية. فقط، لا بأس بدعوته لقبول التمايز بين الثقافات، فما هو ثقافي هناك قد يكون غير ثقافي هنا.