في كتابها «سلطانات الشاشة» تجمع الباحثة منى غندور بين سيدات عصر ذهبي في تاريخ السينما: عزيزة أمير وفاطمة رشدي وآسيا داغر وبهيجة حافظ وأمينة محمد، اللواتي ولدن في بداية القرن الماضي، ومثَّلن سيطرة العنصر النسائي على السينما إلى جوار رجال الفن السابع في بدايات صناعة السينما المصرية، وأثبتن أنهن لا يقللن عن الرجال جرأة وموهبة في اقتحام هذا الفن الوليد، بل وحددن موضوعات السينما وآفاقها المستقبلية، وكنَّ الكشافات لعالم جديد لعبن فيه دوراً كبيراً
لولا ذلك الجهد والعشق لما كان لتلك المسيرة المتعثرة أن تبني صناعة حقيقية، وتستمر في تقدمها الحثيث والخارق أيضاً رغم ضعف الإمكانيات، في ظل تقاليد مجتمعية تمنع بنات الأسر من الظهور على خشبة المسرح أو شاشة السينما. وقد كان لظهور منيرة المهدية أول ممثلة مصرية مسلمة مفاجأة للجمهور المصري في وقت لم تظهر فيه سوى الشاميات المسيحيات واليهوديات.
في كازينوهات ومسارح شارع عماد الدين، شارع الفن، وعلى مدخل سينما رمسيس، وقفت سيارة ترجل منها سائق بيده رسالة تحمل صورة لسيدة يسلمها إلى رجل المسرح الصاعد يوسف وهبي، السيدة ترغب في التمثيل وهي من أسرة محافظة، هذه الرسالة، سجلت ولادة عزيزة أمير. أما أمينة محمد فسوف تهرب مع ابنة أختها أمينة رزق من شارع روض الفرج وتنطلق إلى شارع عماد الدين حيث الدنيا أوسع. في الشارع نفسه ستلتقي فاطمة رشدي بالرجل الذي سيغير لها حياتها: قديس المسرح عزيز عيد... وهكذا كل قصة لا تخلو من جرأة واندفاع، في مغامرة هدفها المسرح والسينما، وتفوق أحياناً خيالات صانعي الخيال أنفسهم، يقودهن الشغف بالمجد والتوق إلى الخلود في امتطاء السينما، كأنما الصورة هي الخلود بعينه، لا يردعهن اعتبار ولا يوقفهن حاجز، فتقتحم عزيزة أمير بيت يوسف وهبي بقميص النوم باكية تطلب منه أن يعلمها التمثيل، فيكتب دوراً خصيصاً لها تؤديه في مسرحية «الجاه المزيف». تتنقل بين المسارح، إلى أن تعلن عن تأسيس شركة سينمائية «إيزيس» فتنتج أول أفلامها «نداء الله» إخراج وداد عرفي المخرج التركي الذي لا يتقن العربية، فيسقط سقوطاً ذريعاً، فتضع قصة جديدة «ليلى» ضمت إليها فصلين من الرواية السابقة، لتصبح أول فيلم روائي طويل في السينما المصرية من إخراج استفان روستي. ينجح الفيلم نجاحاً باهراً، ويهنئها الاقتصادي المعروف طلعت حرب بقوله: «لقد صنعت يا سيدتي ما يعجز عن صنعه الرجال». تتابع العمل تحت ريادة الجندي المجهول محمد بيومي المؤسس للنهضة السينمائية في مصر. يعقبه فيلم «بنت النيل» وتشارك في فيلمين تركيين «المؤلفة المصرية» و«كفري عن خطيئتك». وتتتابع أفلامها «بسلامته عايز يتجوز» مع نجيب الريحاني، «بياعة التفاح»، «الورشة»، «ليلة الفرح»، «ابن البلد»، «وادي النجوم»، «طاقية الإخفاء»، ما يزيد عن عشرين فيلماً بين إخفاق ذريع ونجاح ساحق، إلى آخر أفلامها «آمنت بالله».
حياة عزيزة أمير، أسطورة عجيبة من الأزواج والعشاق. كانت ذات فتنة طاغية، وجمال مصري صميم، امرأة رقيقة مع شطارة، فنانة موهوبة، أولعت بالسينما وأضاعت ثروتها عليها، وأشقت بعض من عملوا معها.
أما آسيا داغر القادمة من لبنان، المرأة ذات الإرادة الحديدية، ولا يضارعها أحد في عشقها للسينما، فلم تعرف المستحيل ولا اليأس. عملت هي أيضاً في التمثيل والإنتاج، وارتبط اسمها بالمخرج أحمد جلال وقريبتها ماري كويني. بدأت مشوارها الإنتاجي بـ 1000 جنيه وآخر انتاج لها وصل إلى 190000 جنيه، قدمت خلال مسيرتها 49 فيلماً وعملت مع 18 مخرجاً، فقدمت هنري بركات وحسن الإمام وإبراهيم عمارة وأحمد كامل مرسي وحلمي رفلة وكمال الشيخ وحسن الصيفي وغيرهم ممن سيصبحون أساطين السينما المصرية.
وإذا انتقلنا إلى بهيجة حافظ، نجد أن أول فيلم مثلته هو «زينب» من إخراج محمد كريم. لم تكن ممثلة وإنما موسيقية حصلت على دبلوم في الموسيقى من باريس عام 1930. بعد نجاحها في «زينب» أسست شركة منار فيلم مع زوجها، أنتجت فيلم «الضحايا»، تبعه «الاتهام»، «ليلى بنت الصحراء»، «ليلى البدوية»، «زهرة»، وسوف تمثل فيما بعد في «القاهرة 30» لصلاح أبو سيف دوراً صغيراً كضيفة شرف.
على الرغم من صلابة بهيجة حافظ وجمالها ودأبها ورهافتها الفنية وشهرتها المدوية، لم يصبها الحظ، واضطرت في سنواتها الأخيرة إلى الانزواء، وماتت وحيدة بطريقة لا تليق بها ولا بجدها وما قدمته للسينما. ولقد ذهبت ضحية للكمال والمستحيل اللذين سعت إليهما دونما كلل، وقتلها زمن أبى الاعتراف بها.
أما فاطمة رشدي فبدأت حياتها الفنية في فريق الكورس والإنشاد مع سيد درويش ونجيب الريحاني إلى أن التقت بالمخرج المسرحي عزيز عيد الذي سيعلمها التمثيل، تتزوجه وتصبح نجمة فرقة رمسيس، بعدها ستولد الفرقة المسرحية التي تحمل اسمها، وتقدم 15 مسرحية في سبعة أشهر، وتخفق في أول تجربة سينمائية لها مع بدر لاما في «فاجعة فوق الهرم» يؤكدها الهجوم الكبير الذي نالته من الصحافة لضعف مستواه، ولولاها لمني الفيلم بخسارة فادحة. وسوف يقنعها المخرج وداد عرفي، ويخرج لها فيلم «تحت سماء مصر» لكنها ستحرقه لأنه كان أقل مستوى من الفيلم السابق.
انصرفت بعدها إلى المسرح ولعدة مواسم ثم زاوجت بينه وبين السينما، عودتها إلى الشاشة كانت بفيلم «الزواج» كمؤلفة ومخرجة وممثلة، ثم فيلم «الهارب» مع بدر لاما، و«ثمن السعادة»، ومن ثم فيلمها المهم مع كمال سليم «العزيمة» رائد الواقعية المصرية. حاز الفيلم على نجاح كبير، فيما فشل فيلمه «إلى الأبد». بعد ذلك ستشارك في فيلم «العامل» و«الطريق المستقيم» وتتالى أفلامها «بنات الريف»، «مدينة الغجر»، «غرام الشيوخ»، «الريف الحزين»، «عواصف»، «الطائشة»، «دعوني أعيش»، «الجسد».
تنحسر الأضواء عن فاطمة رشدي مع التقدم في السن وضياع الصحة، تاركة وراءها ما يناهز200 مسرحية و16 فيلماً سينمائياً، وحياة عاشتها بالطول والعرض.
لفتت الفتاة ماري كويني، ابنة أخت آسيا داغر، أنظار المخرج وداد عرفي فأشركها في فيلم «غادة الصحراء»، بعده ستواكب خالتها آسيا وأحمد جلال إلى أن انهار التحالف الثلاثي، فشكلت مع جلال شركة سينمائية، بدءا بفيلمين «رباب» و«ماجدة» ثم أخذا بتأسيس ستوديو «جلال» فظهر لهما «حرم الباشا» و«أم السعد» لكن المرض يأتي على جلال ويكون «عودة الغائب» آخر أفلامه. تتعاون ماري مع عباس كامل في فيلم «كنت ملاكاً» ثم تنتج أول أفلامها «السجين 17» فالـ «الزوجة السابقة»، «الهام»، «ظلموني الناس»، «ضحيت غرامي»، «أنا بنت ناس»، «ابن النيل»، «أسرار الناس»، «نساء بلا رجال».
أثبتت ماري كويني عندما انسحبت من التمثيل في قمة مجدها وأنوثتها، وتفرغت للإنتاج وإدارة الاستوديو أنها كانت مرصودة لمهمة أكبر، وقائمة أفلامها التي تتالت تشهد على مقدرتها الفذة «مكتوب عالجبين»، «لسانك حصانك»، «ماليش حد»، «قلوب الناس»، «دستة مناديل»، «ربيع الحب»، وإنجاب ظاهرة إسماعيل ياسين في سلسلة أفلام كوميدية. بعد عدوان 1956 وظفت ماري كويني الخط الوطني في أفلامها «حب من نار»، «رحمة من السماء»، وفي عام 1958 أنشأت أول معمل لأفلام السكوب في مصر. وسوف تنتج فيلم «غرام في الصحراء» مشتركاً بميزانية ضخمة، تبعه «المليونير الفقير» و«دنيا البنات». وفي عام 1963 ستصيب السينما إجراءات التأميم التي قامت بها الثورة، فأممت الاستوديوهات ومن بينها استوديو جلال. قامت بإنتاج فيلم «فجر يوم جديد» ليوسف شاهين، ثم عملت منتجاً منفذاً لحساب القطاع العام ما بين 1967/1971 فقدمت أربعة أفلام «عندما نحب»، «إجازة صيف»، «أنا الدكتور»، «مذكرات الآنسة منال». وسوف تمهد وفاة عبد الناصر لتصفية القطاع العام في عام 1971، وتعود ماري منتجة مستقلة في عام 1972 في أول فيلم لابنها نادر جلال «غداً يعود الحب» تتلوه سبعة أفلام.
أمينة محمد قصة مختلفة، جاءت إلى السينما من أسرة فقيرة، كانت تهرب لتتفرج على المسارح في روض الفرج مع قريبتها أمينة رزق. بدايتها السينمائية مع المصور محمد بيومي في فيلم «ليلة في العمر» لم يعرض لتفاهته. وأتت فرصتها السينمائية الحقيقية مع فيلم «شبح الماضي» وتلاحقت أفلامها مع توجو مزراحي «الدكتور فرحات»، «100 ألف جنيه» ولحساب استوديو ناصيبان «الحب المورستاني». في عام 1937 ستؤسس شركة إنتاج «امينة فيلم» وتنتقل بفيلمها الأول «تيتا وونج» من مصاف ممثلات المسرح الثانويات إلى مصاف البطلات الخالدات، ورغم نجاحها أغرقها الفيلم بالديون. سافرت إلى أوربا، تجولت فيها وعملت في ملاهيها، ومع قرع طبول الحرب عادت إلى مصر وشاركت في أدوار سينمائية صغيرة عبارة عن مشاهد راقصة، ثم عملت مساعدة مخرج وخاضت في أعمال كثيرة لم تكن أكثر من مغامرات خاسرة.
كتاب منى غندور لا ينقصه الجهد ولا البحث الممتاز، ويصلح مرجعاً جيداً لتاريخ السينما ولهواة الفن السابع وعشاقه، ويؤكد على الدور النسائي في صناعة السينما المصرية وربما لولاه لما كانت السينما المصرية بهذا التنوع المثير الذي خسرته فيما بعد. ويصح القول في الكتاب بأنه لولا شغف الكاتبة العميق بالسينما لما خرج الكتاب بهذه الجودة الاستثنائية.