الشرق الاوسط تنفرد بنشر نصوص مجهولة للأديب اللبناني سعيد تقي الدين

في ذكرى رحيله السادسة والأربعين

TT

عرفت بعض العائلات في لبنان، ما يسمى سجل العائلة الذي يؤرخ لأصحاب البيت الواحد لحظاتهم التي تستحق التوقف عندها. ومن حسن الحظ أن لعائلة الأديب اللبناني المعروف سعيد تقي الدين، سجلها الذي ما يزال محفوظاً لدى أحد الأقرباء، فيه دوّن الأديب الساخر كما فعل والده قبله، مقاطع جميلة ومؤثرة خطها بقلمه. هذه الكتابات كما السجل أيضاً، بقيت مجهولة إلى اليوم، «الشرق الأوسط» تنشر مقاطع منها في الذكرى السادسة والأربعين لرحيل هذا الأديب الكبير.

ذاكرة سجل العائلة، مثل ساعة «بيغ بن» البريطانية، تؤرخ بالشهر واليوم، وكدت أقول بالدقائق والثواني. لذلك فإن سجل عائلة محمود تقي الدين، يكشف لنا بوضوح كل التباس حول عمر ابنه الأديب سعيد، كما يكشف عن جوانب مهمة من حياته.

إثر ولادة سعيد تقي الدين، كتب والده ما يلي: «نهار الأحد الواقع في 15 نوار 1904 غربي و3 نوار 1320 مارثي واول ربيع اول 1322، أنعم الله علينا بولد ذكر دعيناه سعيدا تبركا باسم جده، واحياء لذكره الحميد نسأله تعالى أن يكون سعيدا في دنياه وأخراه. وبمناسبة ولادته نظم الياس افندي رزق الله الآتي:

بحروف النور ألفاظ بدت...

كتبتها أنمل المولى الوحيد

جملة واحدة مضمونها...

عش طويلاً يا بن محمود السعيد

والهنا يا آله أرّخ لكم

... ابن روح الجد في هذا الحفيد

لم يقتصر سجل العائلة على ما كُتب عن سعيد، بل حفل ايضا بما كتبه هو عن نفسه والآخرين. في المرة الاولى واثر عودته من الفلبين بعد اغتراب دام 23 سنة، كتب في السجل ما يلي: «نهار السبت في 17 نيسان 1948، رجعت الى بعقلين من الفلبين، وقد كنت غادرت لبنان في 9 ديسمبر 1925. عدت من بيروت، وبعد ان ذهبت تواً فخشعت على قبر أبي وعمي أمين (شاعر ونائب، اصدر في القاهرة عام 1910 مجلة «الزهور» الأدبية)، ونثرت الزهور، دخلت البيت الذي فيه ولدت. زوجتي بياتريس كانت في رفقتي. وأما ابنتنا ديانا (وحيدته، عازفة تعيش حالياً في واشنطن)، فقد بقيت في بيروت، وكانت جاءت الى البيت هنا منذ اسبوعين».

بعد حوالى العام، وتحديداً في 15 أيار 1949 دوّن سعيد بالحبر الأخضر، الذي أدمن على استعماله، بعض الاخبار العائلية والسياسية المحلية، إضافة الى منزل العائلة الذي تمنى لو يصبح مزاراً. والجدير أن ابن أخيه زياد يحقق اليوم الوصية التي سجلها عمه منذ اكثر من نصف قرن. ولنقرأ النص الذي استغرق ثلاثة ارباع الصفحة في السجل الكبير الحجم: «لقد هجرنا هذا السجل مثلما هجرنا هذا البيت. فقد حدثت امور كثيرة كان يجب تدوينها. فها ان بهيج (شقيقه) سافر الى ايطاليا ففرنسا كأحد مندوبي المجلس النيابي اللبناني للاشتراك في المؤتمر البرلماني. ورجع بديع(شقيه) من فرصته الصيفية واشترك معي في العمل التجاري، ثم عين موظفا في الاونسكو بمعاش خمسماية دولار ومقره باريس. وسافر خليل (شقيقه) عن لبنان ممثلا اياه في مؤتمر الاذاعة في نيس. وقد جئنا البارحة الى بعقلين: بهيج ومنير (شقيقيه) وزوجته وطفلته ومالك ابن عمتنا حسيبة واديب ابن عمنا احمد وحافظ وسمير وصهرنا خليل علم الدين. واليوم جاء خليل ونديم ورجعا الى بيروت، وسبب هذا المجيء هو الانتخاب للمختار. فقد قسمت البلد الى منطقتين، وقد رشحنا عن حارة الفوقا حامد ابن عمنا محمد، ورشح الحزب القومي الاجتماعي اسعد حسن سليمان الغصيني، ولم تظهر نتيجة الانتخاب. ولكن فوز حامد بيضون مضمون. في آخر هذا الشهر نقيم حفلة تذكارية، اذاعة على الراديو، لعمي امين. وعلى الارجح توضع له صورة زيتية في دار الكتب مع عظام اللبنانيين. صرفنا معظم الشتاء بعيدين عن هذا البيت. ولقد اصلحناه وحسنّاه وجددنا اثاثه، غير انه موحش لا تتصارخ الأولاد في فسحاته وغرفه. لكن من الراجح ان نصيّف فيه. غير انه، وان لم يعد بيتاً نسكن فيه، فليبق مزارا نحج اليه».

قبل الانتقال الى صفحة أخرى تحتضن توقيع سعيد، أسجل الملاحظتين التاليتين: الأولى، ان الانتخابات النيابية لم تأخذ من اهتمام سعيد بدليل انه لم يرشح نفسه في احدى دوراتها. ومن المرجح ان اهتمامه بانتخاب مختار بعقلين يعود الى مسايرة اخوته، ناهيك من أن المرشح كان ابن عمه. الثانية، ان سعيد انتمى بعد اقل من ثلاثة اعوام الى الحزب القومي. ونتيجة اعتناقه عقيدة سعاده، بات اسعد الغصيني اقرب اليه، انتخابياً، من ابن عمه محمد.

وفي العاشر من آب 1951 عاد سعيد الى السجل ليكتب: «حوادث كثيرة جرت لم تدون. لعل السبب هو اننا صرنا ننظر الى ما كان يعتبره الاقدمون حوادث جليلة، وكأنه من عاديات الحياة. ظفر بهيج بالنيابة ثانية في 15 نيسان وكان أقرب منافسيه فضل الله تلحوق الذي ناصرته قائمة كمال جنبلاط. نالت ديانا شهادة السوفومور. ظهر لي مجموعة «غابة الكافور» (مجموعة قصصية)، واعيد طبع «لولا المحامي» (باكورة مسرحياته الخمس ـ 1923). كثر زرع التفاح في بعقلين. قدمت ديانا عدة حفلات موسيقية. قتل رياض الصلح الزعيم العربي ورئيس الوزارة اللبنانية السابق، في عمان. وبعد ايام اغتيل في المسجد الاقصى ـ القدس، الملك عبد الله بن الحسين. علقت صورة عمي امين في المكتبة الوطنية مع صور اللبنانيين الذين يحسبون خالدين». هنا، غاب سعيد عن المنزل والسجل خمس سنوات بسبب الخلاف العائلي، الذي نتج عن انتمائه الى الحزب القومي. وفور عودته الى سجل العائلة، استأنف مدوناته المختصرة كأخبار وكالة رويترز، فقال في 10 ديسمبر (كانون الأول) 1956: «خلت ان السطور أعلاه كانت آخر ما اكتبه. ولكني رجعت الى البيت في زيارة يوم. أحداث كثيرة جرت ما دوّناها. لعل هذه السجلات الخاصة لا مبرر لوجودها. اذ لا أهمية لكل ما، ولكل من، لا يذكره الناس الا اذا نبشوه في سجل خاص: الكتاب الذي يؤلف والشخص الذي يولد. البيت متصدّع من الهزة العنيفة في 16 آذار 1956. أمي تصلحه. جئت لانفض بعض السموم من نفسي. اكتشفت ان الحبال لم تتقطع كلها ـ هذه التي تشدني الى هذه المرساة: شمس بعقلين (مصيف لبناني). وفي الليل الماضي هطلت الثلوج. جففتُ وبخرّتُ ما خلت انه قد اختلط بدمي. جميل ان تبقى في الحياة منطقة نزهة استشفاء». وكانت مساهمة سعيد الأخيرة في تحرير سجل العائلة في 22 شباط 1957: «رجعت من بيروت بعد دفن رفيقي المقدم غسان جديد (قائد المدرسة الحربية في حمص). اغتاله مأجور من المكتب الثاني السوري. لهذا الخبر بقية ستملأ هذه الصفحات ـ بأي لون»؟

وبعد.. إذا كان سجل العائلة هو احد المراجع الرئيسية لكتابة سيرة سعيد تقي الدين، فإن ابرز ما في السجل والسيرة العتيدة، هو الذي دونه بعد المصالحة العائلية التي اعقبت الخلاف الناجم عن انضوائه في الحزب القومي. فقد كشف فيه عن عمق انسانيته الضاجّة بالحب والتسامح، وخلو نفسه من الحقد.

مقالان من نصوصه المنشورة

* يا دنيا فيك صونيا

* لا ندري أهي فتاة أم عجوز، مقيمة بيننا أو عابرة سبيل. ولكننا وقد قرأنا رسالتها الصادرة عن بيروت في «الهيرالد تريبيون» بالعدد 4 فبراير(شباط). نوقن أن عصمة هذه السيدة أو الآنسة، تعالج الامور بعمق وتفكير من يكتب فيما هو يمضغ علكة «ركلي» ويفض قنينة كولا. ومن الجريمة ان تكون الصحافة منبرا لنشر سخف يؤثر على مشاكل تعني الموت أو الحياة.

اكتشفت «صونيانا» من مشاكل دنيانا «ان النيل زود مصر دائما بالماء»، وأزاحت الستار عن سر ان «لبنان يسكنه مسيحيون ومسلمون» واستخفت بأننا «نتهم» اميركا بأنها ساعدت على خلق اسرائيل ويسرت لها الاعانات. ونحن لا نتبيت كيف ـ نحن نتحدث عن سيدة ـ شردت عن الحقيقة، اذ قالت «لا فائدة من الاعانات، إذ انها لا تولد إلا كراهيتنا». إنما نريد ان نذكر انها ادعت ان النقطة الرابعة لم يتقبلها لبنان إلا بعد ان انذرنا هارولد ماينور السفير الاميركي بقطع الاعانات.

يجب ان تفهم السفارة الاميركية والنقطة الرابعة ومكنة الدعاية الاميركية هنا، اننا نعتبر ان واجبهم الاول نحونا ان يروجوا لنا في اميركا، لا ان يروجوا لأميركا بيننا، واننا ننتظر من النقطة الرابعة والمستر ماينور تلغرافين الى «الهيرالد تريبيون» يعلقان على «صونيانا»؛ وهذا واجب بديهي نترقب تحقيقه، على صفحات التربيون. اما اقتراح «صونيا» لتحديد النسل كحل للمشكلة، فهي نصيحة وجيهة، كان من الواجب على الاصدقاء ان يتقدموا بهما الى ابوي «صونيا» في يوم زواجهما...

* النقطة الأولى

* رحبنا بجمعية اهل القلم كما نرحب بكل شيء في هذا البلد يريد ان ينتظم، أكان هذا الشيء ادباء، او بياعي كعكا، او جمعية التحديق بالبحر المتوسط. ونحن نشمئز من التسول الشائع عندنا حتى اصبحنا نتقن فن الشحاذة وأمسى العمل الاكبر لبعض مؤسساتنا التفنن باستخراج المال من الاغراب والموسرين. فنحن نفهم اهمية المال ونريده نقاطا تنفجر من عرق ايدينا. غير ان الادباء وقد انتظموا في مؤسسة سموها «اهل القلم»، وحالتهم فوضى، ووسائل الانتاج المادي هزيلة كما نعلم، فإننا لا نرى غضاضة ان تتناول منظمتهم بعض الاموال من خزينة شعب هم بعضه، وتكون هذه الاعانة النقطة الاولى التي تنزل من مداد اقلامهم، شرط ان تأتي هذه الهبة الحكومية غير مشدودة بخيوط الالتزامات.