سعيد رمضان مهندسه الأول.. واستثمارات التنظيم تمتد إلى آسيا وأوروبا

TT

ربما كانت بداية الدعوة الحديثة للنهوض الجماعي في عموم البلاد الإسلامية، هي صيحات جمال الدين الأفغاني الذي أقسم لمسلمي العالم أنهم لو بصقوا معا لأغرقوا الظالمين. ثم ما أتى بعد هذه الصرخة من تداعيات تبلورت في مصر في الثورة العرابية 1882 وما تردد من اصدائها في تحركات مسلمي الهند وفي الثورة المهدية في السودان، الأمر الذي دفع العرابيين إلى إطلاق صيحات تستحث مسلمي العالم وإلى تغليف صيحاتهم بتملق السلطان العثماني باعتباره رمزاً للخلافة الإسلامية برغم أن عبد الله النديم وهو أحد قادة الثورة والمتحدث باسمها كان يهمس في أذن أصدقائه الأوروبيين «كم نتمنى أن ينهدم عرش السلطان على رأسه». ومع بدايات القرن العشرين بدأت ارهاصات أخرى، فعندما اندلعت الحرب الطرابلسية دعا عزيز المصري وعبد الرحمن عزام إلى التطوع لتشكيل فيلق مصري مسلم ليدافع عن مسلمي طرابلس ضد الغزو. ثم جاء كتاب «أم القرى» للشيخ عبد الرحمن الكواكبي الذي تخيل اجتماعا يضم ممثلين لكل المسلمين في العالم عقد أثناء موسم الحج تبادل فيه المجتمعون «هموم مسلمي العالم». لكن انهيار الخلافة الإسلامية على يدي الثورة الكمالية في تركيا أشعل في السلطان فؤاد جموح الدعوة لمؤتمر إسلامي عالمي لانتخاب خليفة للمسلمين، وبطبيعة الحال كان فؤاد يتطلع لهذا الموقع، لكنه وبرغم تصدي الأزهر بكل ثقله لمناصرة مطامع السلطان فؤاد فشلت هذه المحاولة فشلا ذريعا. وقد أصدر أصحاب الدعوة مجلة سماها «المؤتمر» لتنشر في أرجاء المعمورة هذه الدعوة، ويكتب رشيد رضا في عددها الأول يدعو «إلى أول مؤتمر إسلامي عام يشترك فيه علماء الدين والدنيا من كل الأمم الإسلامية، ومهمته هي وضع قواعد للحكومة الإسلامية المدنية التي يظهر فيها علو التشريع الإسلامي واختيار خليفة وأمام للمسلمين. لكن الصراع علي موقع الخليفة بين حكام البلاد الإسلامية أفشل المؤتمر الذي عقد في ذي القعدة 1344 (13 مايو 1926) بحضور هزيل وقرارات أشد هزالا. ومن خضم هذه المعركة بدأ أول تنظيم شبه دولي يدعو لوحدة المسلمين سعياً نحو الخلافة. فرشيد رضا يؤكد في مجلة المنار «أن جميع المسلمين آثمون بعدم نصيب امام يجمع كلمتهم» ومن ثم ولكي لا يكون آثما فقد دعا هو ومحب الدين الخطيب صاحب المكتبة السلفية وبعض تلاميذ الشيخ عبد العزيز جاويش لتأسيس جمعية الشبان المسلمين (غرة جمادي الآخر 1346 ـ 25 نوفمبر 1927) وأنشأوا لها فروعا في يافا وحيفا والقدس والعراق، وزادت فروعها لتصل إلي عشرين فرعا في عام 1930. وكان حسن البنا حاضرا في هذه المعركة، فقد كان وثيق الصلة بكل من رشيد رضا ومحب الدين الخطيب. وكان يستشيرهما في أمور جماعته الوليدة. جوهر التنظيم الدولي للإخوان هو إذن الدعوة لتوحيد المسلمين من أجل خلافة راشده. وقد سار المرشد الأول علي هذا الدرب بتمهل لكنه كان يعرف ما يريد. وبإيجاز سنمر سريعا علي بعض زوايا مسيرته هذه. فمنذ عام 1938 قامت علاقة مثيرة للدهشة بين المرشد والإمام يحيي حميد الدين. حيث أوفد الإمام ابنيه سيف الإسلام أحمد وسيف الإسلام عبد الله لحضور مؤتمر لندن لبحث القضية الفلسطينية، وطلب إلى البنا ايفاد مترجم للإنجليزية معهما، فأوفد محمود أبو السعود سكرتيرا ومترجماً لهما، ثم كان البنا مستشاراً سياسياً لحسين الكبسي الذي حضر الاجتماع التأسيسي لجامعة الدول العربية (1944). وبدأ البنا يصدر تعليمات محددة لطلاب الجماعة بالعمل على استقطاب الطلاب اليمنيين بالمدارس والجامعات المصرية. وإذا تقدمنا مع الزمان نجد إخوانيا آخر هو الشيخ تقي الدين النبهاني وهو فلسطيني انتقل إلي الأردن، لكنه ما لبث أن اختلف مع الإخوان معلناً أنهم أسرعوا بالتصادم مع الدولة عام 1948 قبل تكوين العقائد، وأسس حزب التحرير الإسلامي. لكن هذا الخلاف لم يفسد للود قضية، فصالح سرية (جماعة الفنية العسكرية) كان من رجال النبهاني ونشط في صفوف جماعة الإخوان في الضفة الغربية. وانتقل أيضا للأردن، وعندما وصل إلى مصر عام1971 لإعداد رسالة دكتوراه في جامعة عين شمس عاش في كنف الإخوان وأقام علاقات وثيقة معهم وخاصة مع المرشد المستشار حسن الهضيبي والسيدة زينب الغزالي. ورويداً رويداً تمتد أذرع جماعة الإخوان لبناء التنظيم الدولي. ولعل الجماعة قد استفادت إلي حد كبير من محنتها الثانية والتي بدأت عام 1954 فقد هاجر العديد من قيادات الجماعة إلي السعودية وإلي دول الخليج وتمركزوا هناك ليقيموا ركائز إخوانية. كما هاجر زوج ابنه الإمام حسن البنا الأستاذ سعيد رمضان ليتنقل من السعودية إلى بلدان الخليج ثم استقر به المقام في ميونيخ حيث انشأ بتمويل كبير لا تستطيعه إلا دولة ثرية «المركز الإسلامي» هناك. ويمكن القول إن هذا المركز كان بداية الميلاد الحقيقي للتنظيم الدولي. فمن هناك تخرج الكثيرون منهم اندونيسيون وعديدون من شرق آسيا وأفارقة وعرب. وكمثال فإن الزعيم التركي ورئيس الوزراء السابق رجب طيب أربكان انضم للإخوان، وهو يدرس الهندسة في ألمانيا وتتلمذ هناك في المركز الإسلامي في ميونيخ. وإذا أتينا إلي الحرب الأفغانية، فإن أصبع التنظيم الدولي كانت موجودة دوما، فهناك كمثال أساسي د. عبد الله عزام الذي ولد في قرية سيلة الحارثية قضاء جنين (1941) وانخرط في جماعة الإخوان وهو دون الخامسة عشرة. وقد أكد عزام أكثر من مرة أن كتابات البنا وضعت الأساس العام للحركة الإسلامية. وطوال زمن المحنة (1954 ـ 1971) كان سعيد رمضان هو المهندس الأول والمنظم الأساسي للتنظيم الدولي، ولكن، وفور الإفراج عن الكوادر الأساسية سافر عدد منهم إلي الخارج ليقوموا بإعادة هيكلة هذا التنظيم. ويمكن ملاحظة أمرين أساسيين: أولهما: ارتباط التنظيم الدولي بشبكة الاستثمارات المالية للجماعة. وثانيهما: سيطرة قيادة الجهاز الخاص (السري) على الشبكتين شبكة التنظيم الدولي وشبكة الاستثمارات المالية. ومع ذلك فإن وقوع مشكلات وخلافات في المواقف وربما خلافات حول الهيمنة عليى التنظيم الدولي، وإصرار إخوان مصر على أن مرشد التنظيم الدولي هو ذاته مرشد الجماعة في مصر، قد أدى إلى عدد من الانقسامات في هيكل التنظيم الدولي لعل أشهرها انقسام حسن الترابي بعد أن حاول عبر هيمنته علي الحكم في السودان الهيمنة علي التنظيم الدولي للجماعة. ومن هنا بدأت القيادة المصرية للجماعة تدرك ضرورة المرونة، وخاصة فيما يتعلق بالمواقف السياسية، وإن كانت لم تزل تترك مسألة التنظيم الدولي غائمة وفقا للمعتاد عند الجماعة. لكن يبقي الحبل السري موجوداً دوماً عبر مسارين هما البيعة والمال. اما عن الاستثمارات الإخوانية عبر العالم، فتتناثر معلومات عن استثمارات واسعة في مصر وأندونيسيا وأوروبا ودول إفريقية. لكن أكثر هذه الاستثمارات شهرة هو «بنك التقوى»، الذي يرأس مجلس إدارته يوسف ندا، والذي تحدث عن مشروعات وتعاملات بعشرات ومئات الملايين، معلنا أنه، بالإضافة إلى موقعه في بنك التقوى، فإنه مسؤول العلاقات الخارجية في جماعة الإخوان. أما البنك الذي تعرض بعد أحداث 11 سبتمبر (ايلول) لحملة أميركية جمدت أرصدته واتهمته بأنه قام بعمليات غسيل أموال لابن لادن، وقام بتمويل بعض أنشطته فقد نشر موازنته عن عام 1994 معلناً عن نفسه «بنك التقوي المحدود ـ البهاما»، موضحاً أن الميزانية المجمعة للبنك في 31 ديسمبر 1994 مبينة بالدولار هي 258.676.162 دولار. ولكي لا يثور أي جدل حول هوية البنك، فإننا نورد نعياً باسم أسرة البنك الدكتور أحمد الملط الذي قالت عنه إنه «كان مع الإمام الشهيد حسن البنا من الأوائل الذين أسهموا في رعاية الغرسة الأولى لجماعة الإخوان المسلمين، ثم بقي من بعده يتعهدها وإخوانه الأبرار بالرعاية والذود عنها بالنفس والنفيس». ولا يمثل «بنك التقوى» سوى أحد من جوانب الاستثمار المالي للجماعة، فقد أشرنا إلى استثمارات أخرى لعل أشهرها تلك الأموال التي توفي سعيد رمضان وهي في ذمته، ويقال إنها العديد من ملايين الدولارات. وقد باءت محاولات عديدة لخال أولاد سعيد رمضان سيف الإسلام حسن البنا في استعادتها للجماعة، ولعل هذا الفشل كان أحد أسباب خفوت صوته في صفوف مكتب الأرشاد، الذي هو عضوا فيه. ويبقي أخيرا أن التنظيم الدولي باستثماراته الهائلة يشكل مورد مالياً متناميا للجماعة، كما أنه يمثل ظهيرا سياسياً واستراتيجياً لها. وحتى في تحالفاتها أو صراعاتها أو مفاوضاتها مع الآخرين يظل التنظيم الدولي محلقاً، فللجماعة أظافر عدة بعضها مرئي والآخر ليس مرئياً. ولذلك تصمم قيادة الجماعة على أن تظل العلاقة بالتنظيم الدولي وباستثماراته حكرا على الجهاز السري وحده.

* مؤرخ متخصص في الظاهرة الإسلامية