سرّ امتداح الكواكبي لأحد رموز الطغيان والفساد أبي الهدى الصيادي

صاحب «الطبائع» داهن ودافع عن «راسبوتين» السلطنة العثمانية

TT

هل كان أبو الهدى الصيادي صديقاً لعبد الرحمن الكواكبي؟ قد يفاجئ هذا السؤال القراء، خاصة أن كل الدراسات، أجمعت على أن المرشد الروحي للسلطان عبد الحميد، والملقّب بـ«راسبوتين» السلطنة العثمانية، كان من ألد أعداء الكواكبي.

مثلاً، يقول عباس محمود العقاد في كتابه «الرحالة: عبد الرحمن الكواكبي» ان نقابة الاشراف «انتقلت من بيت الكواكبي الى بيت الصياد، شيخ الطريقة الرفاعية وشيخ مشايخ الطرق بعد ذلك، في انحاء الدولة التركية. ولكنها لم تنقل للشك في نسب الأسرة الكواكبية أو لثبوت نسب الأسرة الأخرى.. وإما انتقلت لرضى الولاة عن زعيم هذه الأسرة، ونفورهم من الأسرة الكواكبية». ورأى العقاد ان انتزاع لقب «الأشراف» من الكواكبي وتجييره لأبي الهدى، كان «المثل القريب الذي لمس فيه عبد الرحمن عيوب الحكم في الدولة، وأدرك به مواطن الحاجة الى الإصلاح».

وكان الإمام محمد رشيد رضا نوه بمعلومة عداوة الكواكبي للصيادي في رثائه للرحالة ك في مجلته «المنار» عدد ايار ـ حزيران 1902، لمجموعة اسباب، اولها، نقابة الاشراف. يقول رضا «ان الشيخ أبا الهدى أفندي الشهير كان من أعدائه. ويقال ان السبب الاول في ذلك اباء الفقيد ان يصدق على نسب الشيخ ابي الهدى هذا. وان الشيخ ابا الهدى صار نقيب اشراف حلب. وكانت هذه النقابة من قبل في آل الكواكبي».

ويضيف حفيد الكواكبي وسميه د. عبد الرحمن إلى جريمة سرقة الصيادي لنقابة الاشراف من جده، جريمة أخرى هي محاولة سرقة حياته. حيث يعود الحفيد الى ربيع 1882 يوم كان عارف باشا والياً على حلب. فمنذ وصول هذا الوالي، بدأ مسلسل مؤامراته على الكواكبي، لسبب بسيط، وهو انه «كان صديقاً لأبي الهدى الصيادي وصنيعته». ولكن اخطر المؤامرات حين ارسل الوالي «رجال البوليس الى منزل الكواكبي حيث ادعوا انهم وجدوا بين اوراقه ورقة صغيرة تفيد انه يخابر الدولة الانكليزية ليسلمها البلاد». وسرعان ما اصدرت المحكمة في حلب حكماً بإعدام المتهم، استأنفه الكواكبي، وطلب نقل المحاكمة الى بيروت، رافضاً تعيين محام لأنه، وهو الحقوقي، يريد الدفاع عن نفسه. وينقل الحفيد هذا المقطع من دفاع جده عن جريدة «القاهرة» العدد الصادر في يونيو(حزيران) 1903: «ان البلاء قد اكتنفني من قبل الآن، وكان مصدره السيد ابو الهدى افندي الذي اغتصب نقابة اشراف حلب من عائلتي، ولأني اطالبه بحقوقي ولم اسكت عنها، قاومني وعارض اعمالي واشغالي الى أن أعياه الأمر فرماني بهذه التهلكة بواسطة عارف باشا الذي هو من جملة صنائعه. ولما لم يجد علي علة، لأنني قضيت زهرة العمر في خدمة دولتي وأمتي وسلطاني، افترى علي افتراء بهذه الورقة الصغيرة التي قالوا انهم وجدوها بين اوراق اولادي، وكلها، كما ترون، اوراق مكتبية لتعليم الاولاد الكتابة.. فلو سلمنا بوجود ورقة كهذه فإنني كنت بلا شك أخفيها، مع ما أخفيته من الأوراق غيرها، فضلاً عن ان وريقة كهذه سياسية، نتيجتها الحكم بالاعدام، يستحيل أن أتغافل عنها لتكون مع أولادي». وبعد ثلاثة اشهر أصدر قاضي بيروت حكماً ببراءة الكواكبي، وتبين ان الورقة مزورة. وفي اللحظة التي وصل فيها الكواكبي الى حلب، تلقى الوالي قراراً من الآستانة بعزله. ويضيف الحفيد في مقدمة «الاعمال الكاملة للكواكبي» نقلاً عن عمته عفيفة، ان بين المرحبين بوالدها «أبو الهدى الصيادي الذي عانقه وقال له: «الحمد لله على السلامة يا ابن العم. فأجابه والدها: وعليك السلام، ولسنا بأبناء عم».

أما الحفيد الآخر لمؤلف «طبائع الاستبداد» القاضي سعد الكواكبي، فقد خصص فصلاً كبيراً لهذا الموضوع في كتابه «عبد الرحمن الكواكبي ـ السيرة الذاتية»، وقال ان رفض الكواكبي الاعتراف بنسب الصيادي الى الاشراف لم يكن «السبب الوحيد في معاداة الصيادي له وتحري السلطة عليه. وانما الحقيقة الكبرى كانت في تصدي الكواكبي لفساده وتسلطه على الحكم واطاحته بكل من يفكر في معارضة السلطة، ولنشره البدع الدينية السيئة، وتسخيره الطرق الصوفية للشعوذة».

يلاحظ مما تقدم من الامثلة وغيرها من المراجع التي تؤيد عداوة الكواكبي للصيادي، انها كلها أعلنت بعد وفاة الكواكبي، بما في ذلك دفاعه عن نفسه في محكمة بيروت. فمحمد رشيد رضا نوه بالعداوة تلك في رثائه للكواكبي. وابنته عفيفة روت لحفيدي عبد الرحمن، ما قاله والدها للصيادي، بعد وقت طويل من وفاته مسموماً في القاهرة عام 1902. وعبد المسيح الانطاكي بدأ ينشر وقائع المحاكمة وغيرها من الوثائق التي زوده بها الكواكبي في جريدة «القاهرة»، بعد عام من رحيله. وكل كتابات الكواكبي المنشورة خلال حياته لم تتضمن كلمة سلبية واحدة ازاء الصيادي. وبالعكس، ثمة آثار له تتضمن كلاماً طيباً ومديحاً بحق الصيادي، اكتفي بالتوقف امام مراجع اربعة منها.

في عدد 6 ديسمبر(كانون الأول) 1877، نشر الكواكبي في جريدته «الشهباء» الخبر التالي:«في يوم السبت الماضي شرّف من الآستانة العلية لحلب جناب الفاضل الاديب نقيب السادة الاشراف فضيلة السيد محمد افندي ابو الهدى».

وعلى ذكر «الشهباء»، فإن الكواكبي لم يتمكن من اصدار اكثر من 16 عدداً منها، بسبب تعطيل الوالي لها واعتقال صاحبها. ولم يكن حظ الجريدة الكواكبية الثانية «اعتدال» افضل من شقيقتها، وبقي الكواكبي هدفاً لاستبداد الولاة بعد تعطيل جريدتيه بصورة نهائية. وقد ذكرنا كيف ان عارف باشا لفق للكواكبي تهمة التعامل مع دولة أجنبية، وكاد ينجح في إعدامه، ولم يمض وقت طويل على ولاية جميل باشا من بعده، حتى بدأ الكواكبي وسائر الحلبيين يترحمون على عارف باشا.

ذلك ان هذا الوالي المثقف الذي اتقن الفرنسية، استغل علمه ونفوذ والده نامق باشا في قصر يلدز، الذي كان مستشاراً للسلطان، من أجل جمع المال وممارسة الفساد والاستبداد. وحين توفي جد السياسي الحلبي رشدي الكيخيا، وكان يحتل رأس لائحة أثرياء حلب، حاول الوالي جميل باشا الحصول على جزء من ثروة الفقيد. ولما رفض أولاده، أودعوا السجن، مع محاميهم الكواكبي، اضافة الى العديد من احرار حلب. ومن سجنه، تمكن الكواكبي من ارسال عدة برقيات الى السلطان ووزير الحقانية (العدل) والصدر الاعظم (رئيس الوزراء) والى «صاحب السمو أبو الهدى أفندي».

وقال الكواكبي في البرقية المذيلة باسم موكله ان «ولاية حلب، وهي الوطن العزيز لسعادة ابي الهدى» تعاني منذ سنوات من نير الاستبداد. وأن معظم مواطنيها، وبخاصة نبلائها ووجهائها وكبار موظفيها، يتعرضون «لمضايقات الوالي الكيدية، وباتوا غير آمنين على حياتهم». وطالبت البرقية المودعة في محفوظات الخارجية البريطانية، الصيادي بنقل مأساة حلب الى «أمير المؤمنين» السلطان عبد الحميد.

وفي رسالة له من اسطنبول الى ابنه أسعد في حلب، عام 1895، يقول الكواكبي: «اذا رغبتم اعدادية الطبية في استانبول»، فيمكن الاستعانة «بأبي الهدى افندي».(الأعمال الكاملة للكواكبي ص 542).

ووصل مديح الكواكبي للصيادي ذروته في الرسالة التي نشرتها جريدة «القاهرة الحرة» في 13 فبراير (شباط) 1896، وذيّلت بتواقيع عدة شخصيات حلبية، في طليعتهم، عبد الرحمن الكواكبي وأخوه مسعود. والرسالة جاءت رداً على ادعاء احدى الصحف المناهضة للصيادي بأن مشايخ حلب واعيانها لم يكتفوا بنفي انتماء الصيادي الى اهل البيت، بل اعتبروه من الكافرين.

قال مدبجو المقال والكواكبي في طليعتهم: «يسوءنا ويسوء الحق والانصاف، ان يتماضغ بعض الافواه قول الزور في سيد كريم لم يوف حقه من المديح والثناء على ما قام به من عمل الصالحات والانتصار للدين والموحدين والنصح والاخلاص لإمام المسلمين». والسيد الكريم المشار اليه هو «العالم الشهير الذي ملأ الخافقين عاطر نشره وشاع في المشرقين طيب ذكره، شيخ شيوخ الطريقة العالية الرفاعية، حضرة صاحب السيادة والسماحة السيد ابي الهدى افندي الصيادي الرفاعي الحسيني».

وأكد أصحاب الرد، في مكان آخر، أن الذي دعاهم لمراسلة «القاهرة الحرة» ليس التزلف للمولى المشار اليه، كما ربما يزعمه السفلة الحاسدون «لأن الصيادي أسمى وأعلى من أن يحتاج للتزلف اليه. وانما القصد من تحرير هذه الأسطر التنويه بكذب أولئك الخاسرين». وللدلالة على كذبهم «نعلن على رؤوس الأشهاد أن الحلبيين لم يولد فيهم بعد من لا يفختر بسماحة السيد المشار اليه، فضلا عن ان يجسر على التقوّل عليه بالباطل المحض».

ما هو مبرر كل هذا المديح للصيادي، من صاحب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»؟ في سياق رثائه للكواكبي، يجيب محمد رشيد رضا، وهو الذي عرفه وصادقه، ان «من آداب الفقيد العالية، انه كان يثني على صفات الشيخ ابي الهدى كالمروءة والكرم والذكاء والثبات، وقلما كان يخوض بانتقاده الا مع الخواص الذين يعرفون الحقائق. فكانت عداوتهما عداوة العقلاء».

اذا كان طبيعياً ان ينشر الكواكبي خبر زيارة الصيادي لحلب في جريدة «الشهباء» قبل تعيين عارف باشا والياً عليها، فما هو مبرر قبول الكواكبي مساعدة الصيادي لابنه في اسطنبول؟ واذا كان مفهوماً، الاستنجاد بالصيادي لمساعدة موكله احمد الكيخيا، فما هو مستعص عن الفهم، موافقة الكواكبي على وضع توقيعه في ذيل المقال الذي كال للصيادي المديح؟ لذلك، حين اطلعت حفيد الكواكبي القاضي سعد على مقال «القاهرة الحرة« رجّح ان اسم جده قد دسّ في ذيلها. لكن الكواكبي حينها، لم يعترض ولم يرسل تكذيبا للجريدة؟

يبقى ان مناهضة الكواكبي للصيادي، تنسجم مع نهجه في محاربة الفاسدين والمستبدين في السلطنة العثمانية. لكن موافقة الكواكبي لتلقي مساعدة الصيادي لامر عائلي، ناهيك من وضع اسمه واسم اخيه مسعود في ذيل المقال الطويل الذي لم يترك صفة ايجابية الا وألصقها بالصيادي، فمن الأمور الغريبة عن نهج صاحب «طبائع الاستبداد» وتشكل ثغرة في سجله كأحد أبرز أبطال الحرية في تاريخنا الحديث.