بدأت إسرائيل حفريات في قرية بتير الفلسطينية، جنوب القدس، تحت حراسة عسكرية مشددة، وفي ظل تكتم إعلامي شديد. وقد سيطرت سلطة الآثار الإسرائيلية على الموقع، بمساعدة قوة من الجيش، وبدأت العمل وفق خطة مدروسة، قالت مصادر ان هدفها البحث عن الهيكل، بعد ان فشلت كل المحاولات السابقة، في تحقيق أهدافها التي تربط بين الآثار والميثولوجيا التوراتية.
تقع قرية بتير على بعد 8 كم جنوب غرب القدس. والموقع الذي تجري فيه الحفريات، عبارة عن تلة مرتفعة، يطلق عليها اسم «خربة اليهود»، شهد عمليات تنقيب غير شرعية خلال سنوات طويلة من قبل مواطنين عاديين، واستخدمه الجيش الأردني بعد عام 1948 نقطة عسكرية مشرفة على خط الهدنة، الذي رسم على أراضي القرية.
وعرف الموقع كأحد القلاع التي استخدمتها الطائفة اليهودية في ثورتها ضد الرومان، أوائل القرن الثاني للميلاد. وكانت آخر حصن سقط، حين نشبت معركة فاصلة بين القائد العسكري اليهودي باركوبا، والحملة التي أرسلها الإمبراطور الروماني هدريان، وتمكن الأخير من إخماد الثورة عام 135م.
بعد احتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967 زار الجنرال موشيه ديان، الذي قاد النصر الإسرائيلي، «خربة اليهود» اكثر من مرة، وحاول القيام بتنقيب شخصي، وهو ما فعله في عدة مواقع فلسطينية جمع خلالها كميات كبيرة من القطع الاثرية، آلت بعد موته إلى المتحف الإسرائيلي.
ويقول حسن عوينة، نائب رئيس المجلس البلدي في القرية، ان الإسرائيليين نفذوا حفريات في الموقع عام 1984، لم تسفر عن شيء. ويضيف عوينة لـ«الشرق الأوسط»، فوجئنا قبل أسبوعين بحضور مندوبين من سلطة الآثار الإسرائيلية وسط حراسة، واخذوا بالتنقيب في الموقع، الذي تبلغ مساحته نحو 20 دونما مزروعة بأشجار الزيتون، ويملك الأرض سكان القرية. ويقول عوينة ان المجلس البلدي لا يملك أي سلطة تحول دون قيامهم بالتنقيب، وينظر بخطورة لما يجري، لأنه قد يرتبط بنشاطات استيطانية ويسفر عنه إغلاق المنطقة وسيطرة الجيش الإسرائيلي الدائمة عليها، مما يهدد معيشة السكان.
وقالت مصادر اثارية إسرائيلية لنا، ان سلطة الآثار الإسرائيلية خططت منذ اكثر من عام للتنقيب في الموقع، وأنها أعدت خرائط تفصيلية، تعود لما تعتقد إسرائيل، انه الهيكل الثاني. وأكدت مصادر في المجلس البلدي أن الإسرائيليين ابدوا نيتهم التنقيب في الموقع منذ اكثر من عام، وانهم على الأرجح اختاروا ما اعتقدوا انه وقت مناسب، اخذين بالاعتبار المسائل الأمنية.
وكانت إسرائيل قد فشلت خلال عمليات بحث محمومة تحت وفي محيط المسجد الأقصى، من العثور على أي أثار، لما تقول انه هيكل سليمان، مما جعلها توسع البحث في الحصون التي ارتبطت بالثورة اليهودية على الرومان. ويوجد أمل لدى اثاريين إسرائيليين بالعثور على بقايا للهيكل أو أية أثار تعود لفترة ما قبل الميلاد تتعلق بالديانة اليهودية، في قرية بتير، وهو ما فشلت فيه الجهود الأثرية في الأراضي المقدسة التي بدأت غربيا ثم إسرائيليا، منذ أواسط القرن التاسع عشر.
وأول حفريات للبحث عن الهيكل بدأت في القدس خارج البلدة القديمة، عام 1863م، نفذتها بعثة فرنسية ترأسها عالم آثار يدعى ديسولسي، اكتشف قبورا، اعتبرت أنها تعود إلى عصر الملك داود. لكن أهم ما وجده ديسولسي في الموقع يمكن أن يناقض هدفه، حيث عثر على مخطوط بالآرامية نقل إلى متحف اللوفر في باريس.
وتواصلت البعثات الأثرية البريطانية والألمانية، ومن بينها ما قدمه المهندس الألماني كونراد تشيك من تصميم للشكل الذي كان عليه الهيكل، وتبناه الاثاريون الإسرائيليون الذين عادوا بقوة السلاح إلى موقع «خربة اليهود» لاستئناف بحثهم المحموم الذي يربط بشكل قسري بين علم الآثار وميثولوجيا الكتاب المقدس. وعندما وصلنا إلى الموقع، منعنا من دخوله، ثم سمح لنا المسؤول عن الموقع، بشرط الاطلاع على الصور التي نلتقطها وشطب ما يريده منها، وهو ما تم.
ورفض المسؤول عن التنقيب تقديم أية تفاصيل، قائلا: «بدأنا التنقيب منذ أسبوع فقط». ورفض الإفصاح عما توصلت إليه نتائج الحفريات الأولية أو عن غاية البحث وهل تتعلق بالهيكل.
وابرز ما كشفت عنه الحفريات في الموقع حتى الان، بقايا جدران، في حين يستمر العمل دؤوبا، تحت حراسة رشاشات مشرعة، للكشف عما تحويه نقاط مستطيلة تم تحديدها، وفقا لخريطة موضوعة سلفا.
ولا يمانع المسؤول الإسرائيلي في الموقع، في حضور ممثلين عن دائرة الآثار الفلسطينية قائلا: «لا يوجد ما نخفيه، وسيتم الإعلان عما نكتشفه وفقا للأصول المتبعة». واضاف «جاء ممثلون عن دائرة الآثار الفلسطينية وسمحنا لهم بالتقاط الصور، وطلبنا منهم المجيء وقت ما يريدون». لكن دائرة الآثار الفلسطينية ترى ان التنقيب الإسرائيلي غير شرعي ومخالف للاتفاقيات الدولية، التي تحظر على الدولة المحتلة التنقيب في الأراضي الخاضعة لها.
وقال آثاري فلسطيني: «من مصلحة إسرائيل مشاركة اثاريين فلسطينيين بصفتهم الرسمية في أعمال التنقيب غير الشرعية هذه، ليكونوا شهود زور على ما يحدث». واضاف لا يمكن الجزم عما تبحث عنه إسرائيل، لكنني متخوف كثيرا، وأخشى أن يتم الإعلان عن الموقع كأحد المواقع الأثرية اليهودية، مما يستتبع عمليات تهويد للأرض وطرد السكان، خصوصا إذا كان الإعلان يتعلق بالهيكل أو أية حصون يهودية. وعرض مهندس المجلس البلدي أمامنا خريطة تبين مسار الجدار الفاصل الذي تنوي إسرائيل بناءه حول القرية، والذي سيؤدي إلى خنقها، مشيرا إلى أن التنقيب في «خربة اليهود»، بغض النظر عن النتائج التي سيكشف عنها، يعني سيطرة إسرائيل على مزيد من أراضي القرية. ويقول حسن عوينة: «لا اعرف من أين أتت تسمية الموقع خربة اليهود، لكنها تسمية شعبية شائعة، ولا يمكن التأكيد ما إذا كان لها علاقة باليهود أم لا، والخوف هو تجيير ذلك لأغراض سياسية».
ويطل الموقع على البلدة القديمة من قرية بتير وعلى عينها الرئيسية الشهيرة التي اغتسلت تحت شلالها وشربت من مائها إحدى اشهر نساء القرن العشرين جاكلين اوناسيس، التي زارت القرية نهاية خمسينات القرن الماضي عندما كان اسمها جاكلين كينيدي، رفقة زوجها الذي قضى اغتيالا جون كندي. وارتدت جاكلين الثوب الفلسطيني، وسارت في شوارع القرية، حيث يختلط التاريخ بالسياسة بالعنف الدموي الذي لا يتوقف، ويشكل المشهد البانورامي لجبال ووديان القدس الذي يكشفه الموقع، رمزا لا يخفى عن حكاية مستمرة لا تلوح في الأفق نهاية لها من أي نوع.