نهر الليطاني .. حلم إسرائيلي متجدد لسرقة المزيد من المياه اللبنانية

المياه هدف استراتيجي غير معلن في الحرب القائمة على لبنان

TT

«نهر الليطاني» أحد أكثر الكلمات التي تكررت خلال العدوان الإسرائيلي الحالي على لبنان، وهو اكبر الأنهار اللبنانية، وبالرغم من ذلك فان الكثير من اغلب الوسائل الإعلامية العربية المختلفة التي تكرر كثيرا في تقاريرها المقروءة والمسموعة والمرئية الاعتداء الإسرائيلي على الأراضي اللبنانية منذ انطلاقه، لم تنظر إلا من خلال منظور واحد وهو ما تروجه إسرائيل من خلال خططها العسكرية عن اعتزامها تشكيل منطقة أمنية عازلة من جنوب النهر شمالا حتى الخط الأزرق جنوبا بطول 20 كيلو مترا لوقف تهديد صورايخ حزب الله له.

وللعارفين بخبايا الأمور لا يعتبر هذا الاجراء من قبل اسرائيل من باب المصادفة، فإسرائيل تخفي في أجندتها بالإضافة إلى أهدافها المعلنة هدفا آخر غير معلن، وهو هدف مائي استراتيجي وهو الأهم بالنسبة للجانب الإسرائيلي من خلال الوصول إلى جنوب نهر الليطاني والمكوث أطول فترة ممكنة لتحقيق حلم قديم في سرقة اكبر كميات من المياه اللبنانية وإحداث اكبر تغييرات ممكنة للسيطرة على مياه النهر، وهذا يصب في قائمة الاطماع الإسرائيلية بالمياه العربية عموما والمياه اللبنانية خصوصا.

ولعل ما يرجح هذه الفرضية هو الجانب التاريخي الذي يحمل العديد من المحطات التي تعكس تلك الاطماع التي جدد التحذير منها تقرير حديث صدر اخيرا عن المنظمة العربية للتنمية الزراعية في السيطرة على المزيد من مصادر المياه في فلسطين، حيث استولت على 90 في المائة من المياه السطحية والجوفية بالأراضي العربية المحتلة علاوة على الاستيلاء على ما مقداره 300 مليون متر مكعب من مياه نهر الأردن، واستيلائها بصورة غير مباشرة على مياه الأنهار في جنوب لبنان «الحاصباني والليطاني والوزاني».

ومن خلال المتابعة اليومية لما يعرف بالحرب السادسة، يتبين ان لدى إسرائيل أهدافا مائية غير معلنة بالوصول إلى نهر الليطاني ويتبين أن إسرائيل قد تسعى لتكرار اجتياحها في عام 1978 المعروف بـ«عملية الليطاني»، حيث أنشأت ما يعرف بالشريط الحدودي وتم إنشاء دويلة «سعد حداد» على ما يقارب الثلاثين كيلو مترا على مجرى النهر. ثم انسحبت بسبب انشغالها بمفاوضات السلام مع مصر لتعود مجددا عام 1982 لاحتلال الأراضي اللبنانية حتى عام 2000.

وتتحرك حاليا إسرائيل من خلال اتجاهين، فالاتجاه الأول وهو ذو طابع عسكري، حيث كانت تعتزم الوصول إلى جنوب النهر لتحقيق تلك الأهداف، ولكن مقاومة حزب الله العنيفة للقوات البرية الإسرائيلية في الجنوب اللبناني جعلت إسرائيل تقلص مسافة المنطقة العازلة فقط بريا مؤقتا، اما على مستوى الغارات الجوية فكان هناك تكتيك آخر يخدم ما تسعى إليه إسرائيل في الوصول إلى الليطاني من خلال مطالبة أهالي شمالي النهر بإخلاء أراضيهم، ثم الضربات المكثفة على القرى المتاخمة لمجرى النهر والجسور الموجودة على النهر، لإجبار الأهالي على إخلاء مدنهم وقراهم بحجة ان تلك المناطق تحتوي على قواعد لحزب الله.

وآخر الخطوات في الجانب الجوي تحذير إسرائيل بضرب أية سيارة تتحرك جنوب الليطاني بحجة منع نقل الإمداد العسكري لقوات حزب الله في الخطوط الخلفية، وحسب ما ترشح من انباء من ان المجلس الوزاري الأمني المصغر في الحكومة الإسرائيلية، سيعقد اجتماعا، من أجل المصادقة على طلب قيادة الجيش لتوسيع العمليات الحربية في لبنان إلى ما بعد نهر الليطاني، وذلك بدعوى ان هذا الاجتياح ضروري لأجل تصفية منصات الصواريخ التي يستخدمها حزب الله هذه الأيام في قصف المناطق الشمالية في إسرائيل.

وفي حال ما تمكنت الأخيرة من تحقيق ذلك فعليا على ارض الميدان، فانها ستحقق الهدف الآخر وهو هدف السيطرة على مياه نهر الليطاني. ولتحقيق الهدف المائي غير المعلن لإسرائيل بالسيطرة على مياه النهر من خلال الاتجاه الثاني ذو الطابع السياسي والدبلوماسي من خلال القرار الأميركي ـ الفرنسي.

وفي متابعة لـ«الشرق الأوسط» للشق المائي في الهجوم الحالي لإسرائيل، تجولت في المواقع الإعلامية العربية لاستكشاف الهدف المائي غير المعلن للهجوم الإسرائيلي الحالي على لبنان، فقد لوحظ من خلال الجولة قلة وجود تحليل للجانب المائي في هذه الحرب من قبل المختصين في المياه العربية، لكن «الشرق الأوسط» ومن خلال (صفحة المياه) لهذا الأسبوع تسلط الضوء على إبراز التحليلات التي تميل بنسبة كبيرة إلى الناحية التاريخية في الصراع العربي الإسرائيلي فالى تفاصيل الجولة.

فمن جانب تحليل الجانب الثاني المتمثل في التحرك الاسرائيلي الدبلوماسي والسياسي لتحقيق الهدف الثاني، يقول الكاتب في مجلة «فلسطين» سميح خلف في مقالة نشرت الأسبوع الماضي على موقع المجلة على الإنترنت «من النظرة الأولى للمشروع والقراءة الأولية له فهو محاولة جديدة للالتفاف على أساسيات وجذور المشكلة القائمة بين كيان استيطاني مع مشروعية الوجود العربي الشمولي والإقليمي المحيط بفلسطين، فما زالت أميركا والغرب بشكل عام يتعاملون مع قضية الصراع العربي الإسرائيلي بمنطق إقليمي له رؤية واحدة وهو حفظ الأمن لإسرائيل ولا يضعون أيديهم على ما يجب أن تدفعه إسرائيل من استحقاقات لتوفير عملية الأمن للمنطقة برمتها» ويذهب خلف في تحليله بأن القرار لن يخدم الحل الشمولي لأساسيات المشكلة.

وبين ان المنطقة العازلة في جنوب لبنان التي تسعى إسرائيل ومشروع القرار الى تغييرها والتي تضمن لإسرائيل الحصول على كميات وافرة من نهر الليطاني ومصادر المياه الأخرى، مما يعني عدم قدرة اللبنانيين على الاستفادة الكاملة من مياههم، حيث اعتبرت الحكومة الإسرائيلية أي عمل يقوم به اللبنانيون يخص انسياب نهر الليطاني، حالة حرب مع الكيان الإسرائيلي، مشيرا الى ان مشروع القرار يتحدث عن حل بعيد المدى، أي بمعنى حل مرحلي للمشكلة وليس حلا دائما وهذا يترك الباب مفتوحا أمام الأطماع الإسرائيلية في تنفيذ مخططاتها العدوانية في المنطقة العربية.

ومن جانب الناحية التاريخية من اطماع اسرائيل في نهر الليطاني سردت النائبة الأردنية السابقة توجان الفيصل في مقال نشر الأسبوع الماضي في صحيفة (الراية) القطرية قائلة: «انه بالنسبة لليطاني بالذات، فإن أطماع الصهاينة فيه أيضاً بدأت قبل قيام دولتهم. ففي عام 1943 وضعت احدى الشركات الصهيونية المعروفة تحت مسمى «لجنة مياه فلسطين»، دراسة قالت فيها إن مياه الليطاني لا يمكن ان تستخدم كلها في لبنان، مما يؤكد نية الصهاينة الاستيلاء على جنوب لبنان لتأمين وصولهم لنهر الليطاني، قبل أن يولد حسن نصر الله أو أي من محاربي حزب الله، وقبل قيام دولة إسلامية في إيران، بعقود.

ومن الأدلة الدامغة على هذا الهدف قول إيجال ألون، الذي كان قائداً للقوات الصهيونية عام 1948: لولا أمر من بن غويون بوقف القتال، لكانت قواتنا قد احتلت الليطاني وحررت جزءاً آخر من وطننا»!! وتابعت: وفي عام 1949 تجددت المطامع بالليطاني، فزعم مندوب الوفد الإسرائيلي إلى محادثات الهدنة أن أساس ترسيم الحدود كان افتراض وجود سلام وتعاون اقتصادي بين إسرائيل وجيرانها، ومن هنا فإن أوضاع الحرب تجعل حدود التقسيم غير مقبولة.

وعبر خبيري المياه الدوليين هيز وسافج اللذين عملا تحت إمرة لجنة «لودرملك»، تمكن الصهاينة من استخلاص مشروع لتحويل نهر الأردن يتضمن تحويل نهر الليطاني أيضاً، دونما اعتبار للحدود القائمة بحكم الهدنة.

وفي ذات العام 1949، أثارت إسرائيل في لجنة التوفيق الدولية مسألة مياه الليطاني واستخلصت من اللجنة في تقريرها الصادر في نهاية العام، توصية بتأجير سبعة أثمان مياه الليطاني لإسرائيل، وذلك بتحويل مياهه إلي وادي الأردن!.

وفي الجانب التاريخي أيضا، ولكن لمرحلة ثانية، يسرد الباحث عدنان مصطفى بيلوني دراسة تحليلية استراتيجية بعنوان «الأمن المائي العربي» قبل شهرين من الهجوم الإسرائيلي على لبنان ضمن الإصدارات الخاصة لمجلة «عشتار» وقد نشرتها صحيفة «الوحدة» السورية الأسبوع الماضي عبر موقعها على الإنترنت، حيث أشار الباحث إلى انه في الواقع لولا الضغط الصهيوني الفاضح لما تداعى الرئيس الأميركي إيزنهاور في السادس عشر من شهر اكتوبر (تشرين الأول) عام 1953 إلى الإعلان عن تكليف مستشاره «اريك جونستون» بمهمة التفاوض كممثل شخصي له مع دول المنطقة المختصة لمحاولة إقناعها بالموافقة على مشروع استثمار موحد للمواد المائية في حوض وادي الأردن.

وتابع الباحث: لقد عكس المشروع الإسرائيلي المضاد الذي قدم لجونستون في جولته الثانية مدى استخفاف إسرائيل بالحقوق العربية ومدى استهتارها بأي عرض لا يلبي متطلبات خططها الاستيطانية التوسعية وسمي هذا المشروع باسم واضعه المهندس الأميركي «جون كوتون» فلقد ضخمت تقديراتها لإيرادات المياه فرفعت إلى 2345 مليون متر مكعب بدلاً من 1450 مليوناً المقدرة أخيرا من جونستون، إذ طلبت أن يخصص لها منها ما لا يقل عن 1290 مليون متر مكعب واصرت على ادخال مياه الليطاني في حساب التقاسم وقررت أن نصيبها من مياهه يجب الا يقل عن 400 مليون متر مكعب لتبقي لصاحب النهر ما لا يزيد عن 300 مليون متر مكعب فقط «إن اليهود يخوضون مع العرب معركة المياه وعلى نتيجة هذه المعركة يتوقف مصير اليهود في فلسطين فإذا لم ننجح في هذه المرة فكأننا لم نفعل شيئاً، هذا ما توصل اليه «دافيد بن غوريون» عندما اختصر لب السياسة العدوانية التوسعية في جنوب لبنان.

وأضاف الباحث، استغلت إسرائيل غزوها للبنان لتحقيق حلم قديم كان يراودها وله جذور تاريخية وهو الاستيلاء على كمية مياه عذبة من الليطاني لا تقل عن 150 مليون متر مكعب سنوياً لتنفيذ برنامج وضعته.. مدته عشر سنوات لري 25 الف هكتار وايواء نحو مليون مهاجر جديد، إذ ان نهر الليطاني يشكل عند الإسرائيليين عاملاً استراتيجياً لتكريس احتلالهم لجنوب لبنان «حالياً مزارع شبعا»، الذي بدأ على حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل إسرائيل بشريط شائك يبلغ طوله ضمن الأراضي اللبنانية التي احتلتها عام 1982 ثلاثة كيلومترات وبعمق خمسمائة متر داخل هذه الأراضي.

وفي أوائل عام 1986 استكملت إسرائيل انجاز جميع الخطوات اللازمة لقضم منطقة واسعة من الأراضي اللبنانية في منطقة مرجعيون وحاصبيا وكانت إسرائيل قد باشرت هذه العملية منذ عام 1982 إذ انجزت شق طريق يصل منطقة الحولة بنبع الوزاني، ثم أقامت جسراً على ضفتي مجرى نبع الوزاني واستمرت هذه المنطقة تحت الاحتلال الاسرائيلي تستثمر وتستنزف مواردها إلى أن انسحبت إلى حدود الهدنة مع لبنان 1949.

وفي جانب متصل يبين أهمية النهر لإسرائيل، قامت إسرائيل بإقامة نفق بطول 17 كيلومترا لسحب مياه نهر الليطاني إلى داخل أراضيها وقد قامت بذلك إبان احتلالها للأراضي اللبنانية.

وتشير الوثائق الاسرائيلية القديمة إلى حلم قديم لدى القادة الاسرائيليين بان يكون نهر الليطاني الحدود الشمالية لبلادهم وهذا ما عبر عنه ديفيد بن غوريون في عام 1967 في رسالة الى الرئيس الفرنسي شارل ديغول: «أمنيتي في المستقبل ان يصبح الليطاني حدود اسرائيل الشمالية. وفي وثيقة سرية كان قد أعدها بن غوريون في 17 أكتوبر (تشرين أول) 1941 كشف أطماع الحركة الصهيونية بمياه الليطاني، حيث جاء فيها «إن أراضي النقب القاحلة تحتاج إلى مياه نهري الأردن والليطاني ومن الضروري ان يكونا مشمولين داخل حدودنا».

ويعد نهر الليطاني من أهم الأنهار اللبنانية، الذي يصب في البحر المتوسط على بعد نحو 70 كلم جنوب بيروت وعلى مسافة 6 كلم شمال صور، وتبلغ مساحة حوضه 2168 كلم مربع وطول مجراه 170 كلم وتصريفه الوسطي عند المصب 793 مليون متر مكعب/ سنة.

ويشكل هذا النهر العصب المائي للبنان وترتكز عليه مخططات الإنماء المائي ـ الزراعي المتكامل لمناطق البقاع الجنوبي وجنوب لبنان لري مساحة 54 ألف هكتار ولتزويد 264 بلدة وقرية يبلغ مجموع سكانها الحالي 794 ألف نسمة، أي نحو خمس سكان لبنان.

وقد قامت إسرائيل بعدوانها على الدول العربية عام 1967 وكان الماء أحد أسبابها بالطبع، واحتلت إسرائيل مصادر مياه نهر الأردن ومرتفعات الجولان، فحصلت على 75 في المائة من المياه من الأراضي التي احتلتها، أي 53 في المائة من الضفة الغربية وروافد نهر الأردن و22 في المائة من هضبة الجولان السورية، وفي غزوها لبنان عام 1982 استكملت إسرائيل سيطرتها على مياه الليطاني، وحولت مياهه إلى الجليل، وهكذا حققت حلمها الصهيوني التاريخي، وانتقلت إلى مرحلة جديدة في العمل عندما أعلنت على لسان خبيرها المائي (توماس ناف) في عام 1991 ان «المياه في الأراضي العربية المحتلة باتت جزءاً من إسرائيل»، وهو ما أكد عليه في ما بعد رئيس وزرائها الأسبق ونائب رئيس الوزراء الحالي شيمون بيريس عندما اعتبر أن أزمة المياه في المنطقة ستكون أهم من النفط.

إن صدور قرار جديد من مجلس الأمن لوقف اطلاق النار لن يكون قرارا حاسما لإرساء عملية السلام بين لبنان واسرائيل على الدوام طالما لم يتم التوصل الى اتفاق بين البلدين في مجال الحقوق المائية وذلك لوقف التعدي الإسرائيلي على المياه اللبنانية في حالتي السلم والحرب، وجعل قضية المياه هلامية ستنذر بحروب جديدة في المستقبل.

ان احتفاظ اسرائيل بمزارع شبعا لم يتم من فراغ، بل لكونها تحتوي على مخزون مائي هائل، إن المياه بالنسبة لاسرائيل قضية استراتيجية وهي حياة أو موت وغير قابلة للتفاوض وتعمل عبر حكوماتها المتعاقبة وفق هذا المنظور، حيث تستغل الوقت للسيطرة على اكبر كم من المياه العربية بالسلم والحرب. اما بالنسبة للدول العربية فالمياه قضية هامشية قابلة للتفاوض في المراحل الأخيرة وهذا ما ينذر بحروب مستقبلية!. مما يجدر ذكره في هذا المقام ان الأردن هو الدولة العربية الوحيدة التي توصلت الى تسوية نهائية بشأن المياه ضمن اتفاقية السلام بين البلدين عام 1994.