مَن يسمع باسم ستيفان زفايغ؟، المترجم إلى أكثر من عشرين أو ثلاثين لغة في العالم؟. لقد وُلد عام 1881 في فيينا، ومات منتحراً في البرازيل عام 1942. وبين هذين التاريخين، كتب زفايغ الكثير وأصبح من أشهر كتّاب أوروبا. كان صديقاً لفرويد، وريلكه، ورومان رولان، وعشرات الكتّاب الآخرين في فترة ما بين الحربين العالميتين. وكان مؤمناً بالنزعة الإنسانية وحبّ السلام والتواصل بين الشعوب.. لكنه هُزم في نهاية المطاف بعد صعود النازية والفاشية في ألمانيا وإيطاليا وسواهما. وهكذا انتصرت البربرية على الحضارة، لكن ينبغي ألاّ نستبق الأمور. فقبل ذلك، عاش زفايغ وجيله فترة سعيدة ومنتجة. فحتى عام 1914، تاريخ اندلاع الحرب العالمية الأولى، عاشوا في هناء وسلام. وبين عامي 1918 ـ 1939، عاشوا أيضاً فترة عشرين سنة بدون حروب، لكن ينبغي القول بأن هذا الجيل لم يكن محظوظاً في الحياة، فهو وحده الذي شهد حربين عالميتين خلال عشرين سنة فقط. ليس غريباً، والحالة هذه، أن يكون كتّاب أوروبا ومفكّروها في تلك الفترة مليئين بحسّ التشاؤم والخوف من الحياة. فكل آمالهم في النزعة الإنسانية والحضارة والتقدم والرقي، تكسّرت على صخرة الواقع المر، والنزعات القومية المتعصبة من ألمانية وفرنسية.. إلخ، وانعكس ذلك في كتاباتهم بطبيعة الحال.
لكن مَن هو زفايغ بالضبط؟، إنه كاتب نمساوي وُلد في فيينا في عائلة صناعية غنية جداً من أصل يهودي، وهكذا ابتسم له الحظ منذ نعومة أظفاره. وقد درس الفلسفة في جامعة فيينا، وبعد أن تخرّج لم يكن بحاجة للعمل لكي يعيش، فقد ورث عن عائلته ثروة طائلة تكفيه وأكثر، وهكذا تفرّغ للأدب والكتابة بشكل كامل. منا نحن الكتّاب لا يحلُم بهذه الحالة المثالية؟، لكن على الرغم من ذلك، فإن ستيفان زفايغ لم يكن مرتاحاً في الحياة، كان هناك كابوس أسود يضغط عليه ولا يعرف ما هو، لذلك فإنه كان يتحرك باستمرار ولا يستقر في مدينة واحدة أكثر من شهرين أو ثلاثة أشهر، وهكذا تعرّف على جميع مدن أوروبا من باريس، إلى بروكسيل، إلى امستردام، إلى جنيف، إلى لندن، إلى روما.. إلخ.
وهكذا أقام صداقات مع عشرات الكتّاب والفنانين الأوروبيين، وأصبح مؤمناً بانتصار النزعة الإنسانية وعقلانية التنوير التي سوف توحّد أوروبا. وحاول تجاوز العصبيات القومية الضيقة لكيلا يعترف إلاّ بعصبية واحدة: هي النزعة الإنسانية والفلسفية الأوروبية، لكن لماذا كان زفايغ يسافر باستمرار؟ لماذا لم يكن يستقر على حال؟، لأنه كان يهرب من نفسه في الواقع، فهذا الشخص الذي ابتسمت له الحياة منذ ولادته لم يكن مستقراً نفسياً على عكس ما توحي به المظاهر، وكان يخشى الهدوء لأنه يجبره على الاستبطان الداخلي، على التحليل الذاتي للذات، وهذا ما لا يريده، أو ما لا يستطيعه. فمواجهة الذات عملية قاسية، بل هي أقسى من مواجهة الأعداء.
هل لهذا السبب راح زفايغ يهتم بالكتّاب الإشكاليين: أي المعذبين والمعقّدين نفسياً؟، لا ريب. وقد اشتهر بكتاباته عن دستويفسكي، وكلايست، وهولدرلين، ونيتشه، وسواهم. لماذا كتب عن دستويفسكي ولم يكتب عن تولستوي مثلاً؟، لأن تولستوي لم يكن معذباً في الحياة ولا فقيراً. ولم ينزل إلى أعماق الهاوية المظلمة مثلما فعل دستويفسكي. وفي رأي زفايغ أن الكاتب المهزوم أو المعذب أهم من الكاتب المنتصر أو السعيد. فعذاب الفرد، وشكوكه، ومخاوفه، واغراءاته، وضعفه، هي التي تشكل قيمته في نهاية المطاف. والسيرة التي كتبها عن دستويفسكي لا تهتم بسرد وقائع حياته منذ البداية وحتى النهاية، بقدر ما تهتم بتحليل عميق لشخصية الفنان. لقد نزل زفايغ الى جحيم دستويفسكي، الى دهاليزه السفلية، الى هاويته العميقة لكي يفهمه حقاً، لكي يعيش معه. وكان يقول عنه: دستويفسكي لا معنى له اذا لم نعشه في دواخلنا لم تكن دراسته عن دستويفسكي ذات طابع جامعي، أكاديمي، بارد. لا. زفايغ لا يستطيع ان يكتب ببرود عمن يحبهم. وهكذا راح يتحدث بكل حماسة وانفعال ذاتي عن روايات الكاتب الروسي الكبير من الأبله، الى الاخوة كرامازوف، الى الجريمة والعقاب، الى ذكريات من بيت الموتى، الخ... وهي روايات رائعة تغطس في نوع من الفسق. يقول زفايغ عن عالم دستويفسكي الروائي: ينبغي ان ننزل الى أعماق سحيقة، ونعبر متاهات طويلة عريضة قبل ان نصل الى شخصية ذلك العملاق. فرواياته فريدة من نوعها، قوية، جبارة، كما انها بعيدة ومرعبة. وكلما أردنا النفاذ الى اعماقها اصبحت أكثر سرية. لقد كتب زفايغ احد اهم وأجمل الكتب عن دستويفسكي. وكل ذلك في مائة وخمسين صفحة فقط. ولكنك لا تستطيع ان تحذف منها سطراً واحداً. ثم يطلق عليه في النهاية هذا الحكم الصائب: بالنسبة لدستويفسكي لا يوجد جحيم. يوجد فقط الطهر أي مكان وسط بين الجنة والنار. فالانسان المعذب الذي يحترق هو أكثر واقعية من الانسان المغرور، الناجح، أو البارد الذي تجمد قلبه في الشرعية البورجوازية. فالكائنات الحقيقية هي تلك التي تعذبت، والتي تحترم العذاب. وعن طريق العذاب توصلت الى السر النهائي للعالم. ان من يتعذب هو أخونا عن طريق الشفقة والرحمة. ان دستويفسكي هو النموذج الأكبر على الكاتب الذي بنى عالماً بأسره: أقصد العالم الداخلي بكل احلامه، ومخاوفه، وجنونه. انه أكثر كتاب روسيا روسية. وقد أبدع حالات وشخصيات كونية تتجاوز في قوتها قوة الشخصيات العادية. لقد كان هدف زفايغ ان يبين لقرائه من هو الذي بنى عالماً بالفعل، وباسم ماذا؟ كان يريد ان يقول: ان بناة العالم ليسوا هم الجنود، أو الحكام، أو الأباطرة، وانما الفنانون والكتاب. فهم ايضا مناضلون، ولكن في الظل. لقد ناضلوا من أجل أفكارهم، من أجل احلامهم. وكل طاقاتهم كرسوها لخدمة الانسان. وبدلاً من ان يدمروا، فإن هؤلاء المبدعين عمروا وبنوا. انهم يقدمون عملاً يدعو للسلام بين الشعوب في جميع انحاء الكون ولانهم لا يسفكون الدماء من اجل البرهنة على قوتهم أو جبروتهم، ولا يدبرون المؤامرات ولا يشعلون الحروب فإن الناس يتجاهلونهم أو يستهينون بهم.
ثم كتب زفايغ سيرة الكاتب الفرنسي الشهير بلزاك. وقدم عنه صورة (أو بورتريه) لا يستهان بها. وقارن بينه وبين نابليون. فما حققه نابليون بالسيف، حققه بلزاك بالقلم. وبهذا المعنى فكلاهما عبقري وملهم. وقد أسسا عالمين بكل قوة وابداعية خالية رائعة. فنابليون حلم بتوحيد أوروبا ونسف حدودها ولكنه أوقف في صعوده اخيراً بعد هزيمته في واترلو. واما بلزاك فقد كتب الكوميديا البشرية التي تشكل عالماً بأسره. وكانت لا تقل طموحاً عن انجازات نابليون. ولكن تمتاز عليها بأنها خالدة. يقول زفايغ: ان عالم بلزاك موجود بالنسبة لكل واحد منا سواء أكان فرنسياً أم نمساوياً، انكليزياً أم المانياً. انه لجميع البشر. فالكوميديا البشرية التي تصور الحياة النفسية بكل جوانبها تنطبق على الانسان اينما كان. ثم خصص زفايغ كتابه الثالث للروائي الانكليزي الكبير تشارلز ديكنز وقال عنه بأنه عرف الشهرة في حياته واستمتع بالمجد على عكس دستويفسكي وبلزاك. فلم تبجل أمة كتّابها مثلما مجد الانكليز تشارلز ديكنز. وتكمن عبقرية ديكنز في انه صور بشكل حقيقي ميزات ونواقص المجتمع الانكليزي في عهد الملكة فيكتوريا، ولكن نظرته القاسية والمرنة لا تنسى ابداً ان تكون كريمة ومتسامحة. ولدى ديكنز كما لدى بلزاك ودستويفسكي نلاحظ انه حتى المقهورين أو المهزومين يمكنهم ان يعلموننا شيئاً ما. في الواقع ان الكتب ينبغي ان تحبب الحياة لنا، عن طريق إفهأمنا اياها بشكل افضل. فزفايغ كان تلميذ التراث الحضاري الانساني. وبالتالي فكان يعتبر ان للفن هدفاً سامياً: ألا وهو تعليم البشر المثال الأعلى وتثقيفهم وتهذيب طباعهم لكي يصبحوا أفضل. لقد اعتبر زفايغ ان هؤلاء الكتاب الثلاثة يمثلون الارادة الخلاقة والمشروع المستقبلي. وبالتالي فهم اساتذة لنا في نظره. انهم قادة يضيئون لنا الطريق عندما نكون في وحشة الليل والظلام.
ثم ألف زفايغ عام 1925 كتابا مهما بعنوان: المعركة مع الشيطان، او بالاحرى مع الوسواس الداخلي الذي لا يترك صاحبه يرتاح. واتخد كمثال على ذلك ثلاثة كتاب ايضا هم: كلايست وهولدرلين ونيتشه، فهؤلاء الكتاب كانوا مسكونين بهوس داخلي، او بقوة تدميرية هي التي يدعوها بالشيطان. ولم يكونوا يستطيعون فكاكا من هذا الوسواس الذي اقضّ مضجعهم، فجنوا او انتحروا. يقول زفايغ عنهم: لم تكن لهم علاقة بزمنهم، ولم يفهموا من قبل جيلهم، فمروا كالنيازك او كالشهب. وقد لمعوا فترة قصيرة قبل ان يحترقوا في غياهب مهمتهم. في هذا الكتاب نحس بأن زفايغ >متورط« اكثر من السابق، لكأنه يكتب عن نفسه ايضا وليس عن كلايست وهولدرلين ونيتشه فقط.
او قل انه كتب عن نفسه من خلالهم، ويصفي حساباته مع ذاته ووسواسه الداخلي الذي يلاحقه ويقض مضجعه ايضا. هكذا نجد الكتابة يمكن ان تكون تطهيرا للذات او محاولة للتغلب على العقد النفسية المتجذرة في اعماق الذات. لا ريب في ان زفايغ كان يشاطر هؤلاء الكتاب الكثير من عذابهم الداخلي ومعاناتهم. كان برماً بالحياة مثلهم على الرغم من ان الحياة اعطته اكثر مما اعطتهم بكثير. لقد اعطته المال الوفير، والشهرة، والصحة والجاه العريض. وعلى الرغم من ذلك فلم يكن سعيدا. كانت هناك نقطة سوداء في اعماقه تمنعه من ان يكون هو هو: اي ان يتصالح مع نفسه. لقد مد زفايغ يده لهؤلاء الكتاب المبتلين بالمرض النفسي، وشاركهم قدرهم التراجيدي. ألم ينتحر هو ايضا عام 1942 في أوج الحرب العالمية الثانية؟ ألم يمش رئيس جمهورية البرازيل شخصيا في جنازته؟
ضد هؤلاء الكتاب المهووسين او الممسوسين يقف غوته بكل قامته الشامخة في الاداب الالمانية. صحيح انه لم يكن خاليا من الهموم النفسية، ولكنه استطاع الانتصار على شيطانه الداخلي والتمتع بأكبر قدر ممكن من التوازن. كان غوته يمثل الجمال الكلاسيكي المضاد للفوضى الداخلية المتفجرة التي يمثلها نيتشه مثلا، وكان غوته يدعو الى تصفية الحسابات مع الشيطان الداخلي لكي يتمتع الكاتب باكبر قدر ممكن من السلام والهدوء. ولكن القول شيء والفعل شيء آخر. فليس جميع الكتاب بقادرين على الانتصار في هذه المعركة الرهيبة مع الشيطان. او الوسواس الخناس! والدليل على ذلك زفايغ نفسه. فعلى الرغم من مظهره البرجوازي المرتب والمهذب، وعلى الرغم من الحياة الراقية التي كان يعيشها، الا انه فاجأ جميع اصدقائه ومعارفه بقصة انتحاره الرهيبة في البرازيل. وقد قال توماس مان لزوجته: «انه أناني! لم يفكر الا في نفسه عندما انتحر! الا يعرف ان جميع الكتاب الالمان يعيشون في فقر مدقع وهم يبحثون عن لقمة الخبز؟ فبعد ان شردهم هتلر بوحشيته وهمجيته في جميع أقطار الارض اصبحوا اذلاء يقفون على أبواب الناس. واما هو فكان معززا مكرما يعيش عيشة الملوك ومع ذلك فقد انتحر!».
في الواقع ان احداً لم يفهم سبب انتحاره وهذا الرجل الذي انتشرت كتبه في جميع انحاء اوروبا وترجمت الى مختلف اللغات العالمية. البعض يقول بان شيطانه الداخلي انتصر عليه في نهاية المطاف، كما انتصر على نيتشه وهولدرلين وكلايست. والبعض الآخر يقول بان الايمان الديني كان ينقصه. فلا يكفي ان تؤمن بالانسان، وانما ينبغي ان تؤمن بالله اولا. فالايمان بالله يحميك في اوقات المحن العصيبة واعتقد ان هذا الرأي الاخير هو الاصح.. والله أعلم.