سياسيو لبنان يستنجدون بأدبائهم في أوقات الشدة

الوزير الجنبلاطي مروان حمادة يستغيث ببلاغة سعيد تقي الدين

TT

لم يكتفِ نائب الشوف ووزير الاتصالات، مروان حمادة في الجلسة الاخيرة لمجلس النواب اللبناني، وفي سياق رده على رئيس الجمهورية، باتهامه بالكذب، بل اكد ان ملاحظاته حول المحكمة الدولية الخاصة بالرئيس رفيق الحريري، ينطبق عليها ما قاله سعيد تقي الدين في احدى رفّات جناحه: «افصح ما تكون (الآدمية) حين تحاضر بالعفاف». وليس من المبالغة القول ان الدوي الذي احدثه هذا القول، كان اكبر من اصداء القنابل الصوتية التي تفجر في هذه الايام، وآخرها قنبلة ثكنة الحلو. والأسئلة الآن: من هو سعيد تقي الدين؟ ولماذا استعان به الوزير حمادة دون غيره من الادباء المبدعين؟ وهل من حادثة شخصية املت على الاديب هذا القول المأثور؟ وإذا كان من المفيد ان يوظف السياسيون آراء الادباء في سياق معاركهم السياسية، فهل كان توظيف حمادة لرفة الجناح تلك، مناسباً؟

ولد سعيد تقي الدين عام 1904 في بلدة بعقلين (قضاء الشوف) المولود فيها مروان حمادة. درس في الجامعة الاميركية الادب العربي، وتخرج في العام 1925. وخلال سنوات الدراسة، انتخب رئيساً لجمعية العروة الوثقى (1923) الثقافية ـ السياسية، ودشّن حياته الادبية بمسرحية «لولا المحامي» التي مثلت عدة مرات في لبنان وسورية والعراق وفلسطين. فور تخرجه، هاجر سعيد الى الفلبين، وعمل في حقل التجارة. وفي العام 1947، اتصل به سفير لبنان في واشنطن الدكتور شارل مالك، وسأله اذا كان يوافق على تعيينه قنصلاً للبنان في الفلبين. فتردد في قبول المنصب لانه «لا يشتري دزينة القناصل بربع ليرة». ولكنه وافق بعد ان استشار اصدقاءه واقرباءه في بيروت ومنهم شقيقه النائب بهيج والسفير الاديب خليل. ومع ان التجارة لا تتفق والادب، فقد نشر مجموعتين قصصيتين: «الثلج الاسود» و«موجة نار»، اضافة الى مسرحيتيه: «نخب العدو» و«حفنة ريح». ولانه يريد العودة الى وطنه بطبل وزمر، فقد اغرق بعض الصحف البيروتية التي يملكها محيي الدين النصولي، وعبد الله المشنوق وسعيد فريحة واسكندر الرياشي بسيل من مقالاته واقواله المأثورة. ومن اطرف ما فعله خلال ذلك، انه كان يرفق احياناً بالمقالات مئات الدولارات. وبالطبع، كان المشنوق وفريحة والرياشي فرحين بالشيكات بقدر فرحهم بالمقالات. ولكن النصولي الذي لا يعرف عدد البنايات التي يمتلكها في بيروت، على حد تأكيد الرياشي، قَبِل المقال وردّ الشيك الى مانيلا. فكتب احد الفرسان الثلاثة، لائماً النصولي لأنه اعاد الشيك الى مانيلا بدلاً من ان يجيّره له.

وعاد سعيد الى «مرفأ بعقلين» في بيروت اوائل العام 1948، وانتخب رئيساً لجمعية متخرجي الجامعة الاميركية، وكتب افتتاحيات مجلتها «الكلية» بلغة انكليزية راقية، بل ارقى من لغته العربية، على حد تأكيد الدكتور فايز صايغ. وتابع سعيد في بيروت نتاجه الادبي، حيث صدر له «سيداتي سادتي» (مجموعة خطب) و«ربيع الخريف» (مجموعة قصصية) و«غدا تقفل المدينة» (مقالات سياسية) و«تبلغوا وابلغوا» (مقالات سياسية) و«غبار البحيرة» (مقالات ادبية). وخلال ذلك، استأنف الكتابة بالانكليزية، فنشر في مجلة «اراب ويك» البيروتية عدة مقالات سياسية، ثم اصدر ثلاثة كتيبات بعنوان رئيسي «العالم العربي» وعناوين فرعية «سعتقية» من مثل «جسر تحت الماء». ومنذ عودته الى وطنه حتى هجرته الثانية في صيف 1958 الى كولومبيا، كثّف سعيد من مقالاته السياسية، وغطس في العمل السياسي حتى اذنيه. فانتقد الساسة اللبنانيين بسخرية لاذعة من غير ان يستثني المعارضين منهم لان «المعارض في لبنان موالٍ فاته القطار». وابكى الدكتور شارل مالك حين قال عنه انه وعد ناخبيه في الكورة بثلاثة مواسم زيتون في العام الواحد. ورداً على سعي الرئيس شمعون لتجديد ولايته سراً ونفيه له علناً، اكد سعيد ان «فخامته جاد في التجديد، مرتكزاً على المعادلة التالية: «احمد الاسعد ضدنا؟ لا بأس، كاظم الخليل معنا! رشيد كرامي معاد؟ نرضيه. اذن طرابلس معنا! آل الدويهي في زغرتا يوقفون فرنجية على حدّه! بيروت؟ نقوي سامي الصلح وجميل مكاوي مع جهود استثنائية هنا وهناك، يمشي الحال. جددوا، جددنا». وعلى ذكر رئيس الحكومة سامي الصلح الذي لقب بـ «ابي الفقراء» قال عنه سعيد: «سامي الصلح ابو الفقير! كم فقير أعال؟ ما احد اخبرنا». وردا على ما اشيع من ان كمال جنبلاط وهب مزرعته في سبلين للفلاحين تساءل سعيد: أهكذا تثبت السجلات العقارية وجمعيات الاحسان والذين عاملوه؟» ولكن ذروة نقده لكمال جنبلاط عندما شبهه بـ «قضيب الزعرور» المليء بالعقد. وبالطبع، كانت العواطف متبادلة بين شيخ بعقلين وبيك المختارة. فاتهمه جنبلاط بأنه يطمح الى رئاسة بلدية بعقلين. واستمر في محاربته بعد رحيله في 9 فبراير (شباط) 1960. فقد تشكلت لجنة من الادباء بينهم الشاعر سعيد عقل، لتكريم سعيد تقي الدين في «قصر اليونسكو» بعد عام من وفاته. كان جنبلاط وزيراً للداخلية. فوضع لائحة طويلة من الشروط التعجيزية، ادت الى الغاء المهرجان.

تُرى، كيف وفّق الوزير حمادة، بين تحالفه مع وليد جنبلاط، واعجابه باحد الاقوال المأثورة لاديب اشتهر بخصومته لكمال جنبلاط؟

تولى السفير المتقاعد محمد علي حمادة ـ والد مروان ـ ادارة «دار النهار للنشر» في سبعينات القرن الماضي. كان جنبلاط الاب ما زال على قيد الحياة وفي عز نشاطه السياسي والثقافي. وكانت كتب سعيد نافدة. وسرعان ما عقد حمادة اتفاقا مع العازفة ديانا تقي الدين، حيث اعاد بموجبه طبع مؤلفات والدها، ومنها كتاب «انا والتنين» الذي يحتضن احد فصول مذكراته المعنون «قضيب الزعرور».

ولاقت الكتب رواجاً كبيراً، بدليل ان الدار اصدرت ثلاث طبعات خلال فترة العقد المحدودة. ومن جهة اخرى، اقيم في بعقلين معرض كتاب، تخللته عدة ندوات، وقد افتتحت بندوة عن سيرة سعيد تقي الدين ونتاجه الادبي. وكان في طليعة الحاضرين الوزير حمادة. وقبيل الندوة، توقف معاليه طويلاً امام احد الاجنحة التي تعرض كتب سعيد، وقد سمعت منه آراء بالغة الايجابية حول الكتب ومؤلفها. واذا كان مُجازاً لجون كينيدي ان يستشهد بقول مأثور لجبران خليل جبران في احدى خطبه السياسية، فماذا يمنع من استشهاده هو برفة جناح سعيد تقي الدين خلال كلمته في الجلسة النيابية؟ من حيث المبدأ، لا شيء يمنع من ذلك، بل ثمة اشياء تشجع على استفادة رجال السياسة من رجال الثقافة. واذا اخذنا البرلمان على سبيل المثال، نلحظ تراجعاً مريعاً في عدد النواب الادباء بصورة خاصة. كان في ساحة النجمة ادباء كبار امثال امين نخلة والشيخ ابراهيم المنذر والشاعر امين تقي الدين (عم سعيد) والشاعر غسان مطر الذي اعدّ كلمات اغنية جوليا بطرس الاخيرة الخاصة بالمقاومة. ولعل احد اسباب تدني مستوى الحياة البرلمانية اللبنانية غياب الشعراء والادباء وأهل القلم عن المجلس النيابي. بل ان عدم وجود نواب كتّاب خصوصا في الادب، قد ساهم في تدني مستوى الحياة الثقافية ايضاً، وإلقاء ظلال على المبدعين من الادباء الراحلين. صحيح ان توظيف الوزير حمادة لرفة الجناح لم يكن موفقاً من الناحية السياسية، ولكنه كان ناجحاً من الناحية الثقافية، إذ أعاد اسم سعيد تقي الدين الى التداول في بعض الدوريات اللبنانية والفضائيات، وهو امر مفيد للادب وفرسانه. وبالمناسبة، فهي ليست المرة الاولى التي يكون فيها حضور لسعيد تقي الدين في البرلمان. في العام 1954، اسس «لجنة كل مواطن خفير» لمكافحة الجاسوسية الصهيونية في لبنان وعموم بلاد الشام. وزار سعيد خلال ذلك المجلس النيابي، وأقنع ناظم القادري وغيره من النواب في طرح مشروع قانون يلحق بالمتعاونين مع العدو الصهيوني اقسى العقوبات. وفي العام نفسه، جرت مناظرة في قاعة البرلمان بين سعيد والوزير المصري الناصري صلاح سالم حول المسألة الفلسطينية، حيث اصر الاديب على انها تحتل رأس لائحة المسائل السياسية في العالم العربي. وقبيل ذلك، جرت منافسة على رئاسة جمعية متخرجي الجامعة الاميركية بين لائحتين، احداهما برئاسة الطبيب جورج صليبي ومدعومة من سعيد، والثانية يدعمها رئيس الحكومة صائب سلام ويرأسها النائب اميل البستاني. وجرى بين سعيد واميل سجال زجلي، قال الاخير في احد الابيات التي نشرت في جريدة «بيروت المساء» لصاحبها عبد الله المشنوق:

يا عزيزي يا حبيبي

لا تصوّت لصليبي

فأجابه سعيد بأبيات نشرت في «الحياة» لصاحبها كامل مروة:

أشهد اليوم انتصاراً

يا اميل وزّ عينـك

قد ملأت الدنيا فشراً

أنا في الدنيا سبوتنك

كلما اطلقت بمبـا

عادت البمبـا لذقنك

ومن اغرب واطرف ما جرى لسعيد في البرلمان، ان كمال جنبلاط، في احدى الجلسات النيابية، القى خطاباً طويلاً وعنيفاً، طالب في سياقه السلطة اللبنانية بوضع حد لمقالات سعيد الصحفية التي انتقد فيها بعض المسؤولين السوريين امثال شوكت شقير رئيس الاركان وعبد الحميد السرّاج رئيس المخابرات.

يبقى ان سعيد تقي الدين كرر في اكثر من مقابلة صحافية، انه قرأ مئات الكتب خلال حياته المدرسية، ولكنه، بعد التخرج، انكبّ على قراءة «كتاب له عينان واذنان واسمه الانسان»، حيث استوحى منه معظم ابداعاته وكل رفات اجنحته. فمن هو الانسان الذي اوحى له بالرّفة التي ضمّنها الوزير حمادة كلمته واثارت ضجة سياسية واعلامية كبيرة؟

كان سعيد صديقاً لنقيب الصحافة اللبنانية الراحل رياض طه، ومحرراً متبرعاً في مجلته «الاحد». وفي سياق مقابلة لي مع النقيب، روى لي ظروف ولادة ذلك القول المأثور على النحو التالي: عاد سعيد من الفلبين ثرياَ. وكان مشهوراً بنزاهته وعطائه. ومع ذلك، فقد اتهمه بعض خصومه بالعمالة وقبض المال. وردّ عليهم برفة الجناح التي قال فيها: «إذا اردت ان تقتل انساناً فاطلق عليه اشاعة لا رصاصة». ولكن حين اتهمه احد كبار الصحافيين اللبنانيين ـ سماه لي ـ بالارتشاء، ردّ عليه بذلك القول المأثور الذي شبه فيه فصاحة ذلك الصحافي، وهو يتهم الآوادم بالارتشاء، وهو سيد المرتشين، بفصاحة «ماريكا» وهي تحاضر بالعفّة.