الاختفاء السياسي في اليمن

معظم الحالات التي تطالب الأمم المتحدة بالبحث عنها تتعلق بأحداث يناير 1986 في عدن.. 80% منهم عسكريون وأمنيون

TT

شهد اليمن خلال العقود القليلة الماضية التي أعقبت ثورتي 26 سبتمبر (ايلول) 1962 في الشمال و14 أكتوبر (تشرين اول) 1963 في الجنوب، ضد نظام الإمامة والاستعمار البريطاني, صراعات سياسية كثيرة خلقت العديد من القضايا. غير انه ورغم أن الوحدة اليمنية فى 22 مايو (ايار) 1990 أغلقت عددا من ملفات الصراعات السياسية، إلا أن ملف الاختفاء السياسي أو القسري ما زال مفتوحا ولم يجد طريقة إلى الإغلاق على الرغم مما يتضمنه هذا الملف من حالات إنسانية كثيرة.

وابرز الصراعات السياسية التي شهدها اليمن، وأدت إلى نشوء ظاهرة الاختفاء القسرى: الحروب الأهلية داخل كل شطر على حده والحركات الانقلابية الناجحة والفاشلة. ومن ابرز المختفين السياسيين العميد صالح منصر السيلي وزير امن الدولة في جنوب اليمن سابقا، والذي اختفى في الحرب الأهلية اليمنية الأخيرة التي دارت رحاها في صيف عام 1994. وسلطان أمين القرشي وزير التموين والتجارة الأسبق في ما كان يعرف بـ«الجمهورية العربية اليمنية» والذي اختفى في عهد الرئيس المقدم إبراهيم الحمدي. وهناك مختفون قسريا على ذمة الصراع المسلح في المنطقة الوسطى من اليمن بين النظام والجبهة الوطنية التي كانت مدعومة من الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم آنذاك في جنوب اليمن. وخلقت أحداث 13 يناير (كانون الثاني) الدامية في عدن أيضا حالات اختفاء قسري كثيرة. وتقوم الأمم المتحدة حاليا ببحث موضوع الاختفاء القسري مع الحكومة اليمنية. حصلت «الشرق الأوسط» على عدد من المراسلات والكشوفات التي تتضمن أسماء مختفيين. وتطالب الأمم المتحدة الحكومة اليمنية بالبحث في 150 حالة اختفاء قسري، وبعد المراسلات أغلقت المفوضية السامية لحقوق الإنسان ملفات 56 حالة اختفاء، وما زالت تطالب بردود يمنية حول 94 حالة اختفاء.

وشكلت وزارة حقوق الإنسان اليمنية فريقا للبحث في قضايا الاختفاء القسري عقب مخاطبتها من قبل مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وقام الفريق بزيارات ميدانية لعدد من المحافظات والعاصمة صنعاء للوقوف على تلك الحالات. ويقول محمد أحمد سعيد الطويل رئيس فريق الاختفاء القسري في وزارة حقوق الإنسان لـ«الشرق الاوسط» إنه «جرى الالتقاء بأسر العديد من هذه الحالات بغرض معرفة أي معلومات إضافية، تخص ذويهم المفقودين. وهذه الأسر معظمها أبلغتنا بتمسكها ببلاغاتها السابقة بشأن اختفاء ذويها، ما لم تقم الدولة بواجباتها بالكشف عن مصيرهم وتقديم التعويضات المناسبة لهذه الأسر». ويردف أن معظم الحالات التي تطالب الأمم المتحدة بالبحث عنها تتعلق بأحداث يناير 1986 في عدن وأن أكثر من 80% منهم هم عسكريون وأمنيون. وتابع «اجمالا فإن 12 حالة من الشمال و138 حالة من الجنوب وهناك مذكرات من جهاز الأمن السياسي (المخابرات) ووزارة الداخلية ومصلحة السجون تفيد بعدم وجود أي حالة من الحالات الواردة في قوائم المفوضية لديها، وهناك حالات اختفاء عديدة من خارج قائمة المفوضية لمجموعة انقلاب الناصريين ومجموعة الحرب في 1994». لكنه في الوقت ذاته يؤكد أن «عدد حالات الاختفاء هي أكثر مما ذكر في قائمة المفوضية، وان وزارة حقوق الإنسان «لم تقم بتسجيل أو تدوين حالات الاختفاء، ولم يستجب الكثير لدعوات الوزارة». ويعتبر أحمد عبد الله الصوفي، رئيس دائرة المجتمع المدني وحقوق الإنسان في مجلس الوزراء اليمني ملف المختفين والمفقودين «واحدا من الملفات الشائكة والمعقدة، لأنها لا تتصل فقط بالأحداث التي جرت في إطار دولة الوحدة، وإنما تشمل أحداث وأوضاع وقضايا ما قبل هذا التاريخ وبالأخص أحداث يناير 1986 في ما كان يسمى «جنوب الوطن» لا نستثني فترة معينة، ولكن كانت فترة أو أحداث يناير التي أفرزت أرقاما كبيرة من المختفين بسبب طبيعة الصراع السياسي الذي دار حينها». وقال الصوفي لـ«الشرق الأوسط» إن الحكومة اليمنية عازمة على أن تغلق هذا الملف بصورة نهائية خلال العام المقبل 2007، «فاليمن قدم كل المتطلبات التي وضعتها الهيئات الدولية والمفوضية السامية، وقدم التقارير والبيانات حول كل شخص، وهذا عمل متميز وفريد ويؤهل اليمن لإغلاق هذا الملف وتباشر معالجة القضايا الشخصية والجوانب الفردية لحقوق هؤلاء المختصين أو تأمين استحقاقاتهم سواء كانوا في مؤسسات الدولة، علما بأن معظم من جرى التدقيق في بياناتهم ما زال ذووهم يتسلمون الرواتب ويتقاضون كامل الاستحقاقات التي تؤمنها لهم شروط الحياة الوظيفية أو انتسابهم.. وسيكون هذا واحدا من النجاحات النوعية التي ستحرزها اليمن في مجال حقوق الإنسان، وخطوة في طريق ان يكون اليمن بلا ثأر للسنوات المقبلة إنشاء الله».

ويؤكد الصوفي مسؤولية الدولة اليمنية الحالية وتحملها «مسؤولية كل الأحداث التاريخية، التي هي ليست مسؤولة عنها، أصلا، ولكن هذا واجبها وستمضي فيه حتى النهاية». أما عن موضوع دفع التعويضات لأسر المتضررين أو الضحايا، فقال المسؤول في مجلس الوزراء اليمني إن «هذا الأمر يرتبط بطبيعة الحالات التي تكون مشهودة ومعروفة وأطراف المسؤولية محددة فيها، ولكن لا توجد في العالم قضية أي طرف مختف وبالذات بعض المختفيين ممكن أن يكونوا أحياء الآن في دول أخرى، فالتعويضات لا تطلق هكذا، إنما مقيدة بشروط ومحددة بضوابط معينة، وفي حال تكامل الشروط يكون حقه مأمونا».

وردا على أسئلة «الشرق الأوسط» حول إمكانية تحديد مسؤولية بعض الأشخاص أو ضباط المخابرات بشأن حالات الاختفاء السياسي، وفتح الملف بصورة مشابهة لما جرى ويجري في المملكة المغربية، اعتبر الصوفي أن «الحالة المغربية مختلفة عن الحالة اليمنية لسبب بسيط جدا، هو ان النظام السياسي المسؤول عن تعريض الناس للتعذيب او الاختفاء في الحالة المغربية، كان نظاما واحدا ومسؤولية ذلك كانت على الملك، وبالتالي إرث هذا النظام كان واحدا، بينما نحن في اليمن كانت لدينا تجارب مختلفة، كانت لدينا دولتان (شمال وجنوب)، وكانت معظم الصراعات تجري داخل بنية حزب واحد ودولة واحدة، والمسؤولية هنا من قبل الدولة اليمنية الراهنة هي أخلاقية وانسانية وليست سياسية، فهل مطلوب منا تحميل القيادات الأمنية في الحزب الاشتراكي اليمني اثناء أحداث يناير المسؤولية عما فعلوه؟ هذا الأمر اعتقد انه يزيد من تعقيد المشكلة ولا يحلها، ولكن الدولة التي ورثت كل الإرث السياسي السابق تتعامل معه بنظرة منفتحة ومستقبلية، ولا تقوم على أساس تصفية حسابات ثأرية أو تحميل بعض الأفراد والأحزاب والمسؤولين السابقين الذين مارسوا عملا انتقاميا مسؤولية الأحداث.. الدولة اليمنية تقدم معلومات تطمئن ذوي الضحايا حول صدق جهدها فيما يتعلق بالبحث عن هؤلاء، وهذه الحقيقة بحد ذاتها تشفي القلوب وتدمل الجراح».

وعن حالات اختفاء لسياسيين ومسؤولين سابقين مثل الوزير الأسبق سلطان أمين القرشي، يقول الصوفي «أما في حالة الوزير الأسبق سلطان القرشي وغيره، فعلينا أن نحيي موتى لكي نعرف أي شيء عنهم، وهذا أمر مستحيل، ولا نستطيع ان نتحدث عن أمور لم تكن في نطاق الأجهزة أو المؤسسات الراهنة، ولا يمكن ان تضمن في أي دولة أو تجربة كالتجربة اليمنية التي عشناها أن تكون لديك معلومات دقيقة وصحيحة والجهد المبذول حاليا هو حول القوائم المقدمة إلينا من الهيئات الدولية وهذه القوائم جميعها استوفيت، وهذا هو الشرط الأساسي والمهم». أما عن مسؤولية سفير اليمن حاليا لدى مصر ومندوبها لدى الجامعة العربية عن حالات اختفاء نفى مسؤول منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان في مجلس الوزراء اليمني علمه أو إطلاعه على «تقارير دولية تتحدث عن مسؤوليات مباشرة أو اتهامات لأفراد».

وتحدث لـ«الشرق الأوسط» علي عبد الله سعيد الضالعي عضو الأمانة العامة للتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، عن قضية القادة الناصريين، الذين اعلن عن اعدامهم بعد انقلابهم على نظام الرئيس علي عبد الله صالح عام 1979 والتي تصنف ضمن قضايا الاختفاء السياسي، وقال إن «هذه القضية ما زالت بالنسبة لنا قائمة، لأنها تخص 25 أسرة فقدت عائليها.. وعندما طالبنا مؤخرا بمعرفة أماكن دفن القادة الناصريين، الذين أعلن عن إعدامهم، قيل لنا بأن جثامينهم دفنت مقبرة خزيمة، ونحن نعتبر هذا الكلام غير صحيح، وإذا كانت السلطة جادة فعليها أن تحدد لنا القبور التي دفنوا فيها، ونستطيع من خلال تحليل الجينات أن نتعرف عليهم، لا نريد كلاما عاما، السلطة أحيانا تكذب علينا في قضايا تخص الأحياء فما بالنا بالأموات».

وفتحت منظمة يمنية مؤخرا ملف حالات اختفاء جديدة وقعت الأعوام القليلة الماضية. وكشف لـ«الشرق الأوسط» احمد عرمان، السكرتير التنفيذي للهيئة الوطنية للدفاع عن الحقوق والحريات «هود» وجود حالات اختفاء في أوساط معتقلين على ذمة الحرب على الإرهاب، التي انطلقت عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وقال إن (هود) رصدت 50 حالة من مناطق مختلفة من اليمن، وأن «هؤلاء اعتقلوا من قبل أجهزة الأمن اليمنية، من دون إبلاغ أسرهم والأجهزة تنفي وجودهم لديها، ونحن نعتبرهم مختفين إلى أن يتم الكشف عن مصيرهم وإعلان أسمائهم، وتطالب الهيئة بالكشف عن مصيرهم». ويؤكد عرمان أن عمليات الاعتقال بتهمة الإرهاب من قبل أجهزة الأمن اليمنية تراجعت وتيرتها خلال الفترة الماضية.

والتقت «الشرق الأوسط» بعدد من أسر مختفين منهم ألطاف محمد عبد الله، الصحافية في يومية «14 أكتوبر» الحكومية التى تصدر في عدن، وهي زوجة المختفي محمد ناجي سعيد الذي اختفى عام 1986 بعد اعتقاله من منزل أحد أقربائه والذي كان يشغل منصب رئيس المجلس المركزي لاتحاد طلاب جنوب اليمن (سابقا) وعضوا في الاتحاد العالمي للطلاب.

وقالت ألطاف إن زوجها أخذ من قبل الأمن في عدن لاستجوابه فقط «ومنذ ذلك الوقت لم يعد ولم نعرف عنه شيئا.. نحن ومنذ ذلك الوقت نطالب بمعرفة مصيره ولم افقد الأمل أنا وباقي أفراد أسرته، ومؤخرا تابعت بعض منظمات حقوق الإنسان الدولية قضية المختفين وفوجئت بإغلاق ملف زوجي في المفوضية السامية لحقوق الإنسان تحت مبرر رد يمني رسمي بأننا نتسلم مرتبه أو إعانة، وهذا غير صحيح فنحن لا نتسلم مرتباته منذ عام 1986».

وأضافت بكل ألم «أطالب وبإلحاح بالكشف عن مصيره، إن كان حيا أو ميتا، ولا زلت أتذكر الوقت الذي أخذوه، وماذا كان يلبس والنظرات في وجهه، لا زلت أتذكر حتى شكل الجزمة التي كان ينتعلها، البدلة التي كان يرتديها، وأتذكر أيضا ملابسه الداخلية ولو كانوا أتوني بأي من متعلقاته لتعرفت عليها». وللمختفي محمد ناجي سعيد ابنة وحيدة هي أزال تخرجت العام الماضي من الجامعة، ولم تجد عملا بعد، وتأمل والدتها من القيادة اليمنية التعامل مع القضية من منظور إنساني، والعمل على كشف مصير زوجها.

الدكتور منصور عون عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني شقيق المختفي العميد عبد العزيز عون، قائد عسكري تحدث لـ«الشرق الأوسط»، وقال إن شقيقه اعتقل في 6 فبراير (شباط) 1976، من «شارع التوفيق في صنعاء وأخذ في سيارة فوكسواجن تتبع جهاز الأمن الوطني (المخابرات حينها)، والشخص الذي اعتقله اسمه (أحمد..) وشوهد شقيقي بعد فترة على اعتقاله في مستشفى الثورة (الحكومي)، وهو في حالة صعبة، وبرفقة رائد في المخابرات لقبه (..) ومرة أخرى أثناء إسعافه إلى المستشفى العسكري». ويشير إلى أن اعتقال شقيقه جرى على خلفية الشبهة بممارسة نشاط سياسي، والانتماء إلى حزب الطليعة الشعبية، عندما كانت الحزبية محظورة في اليمن «ويبدو ان أجهزة الأمن، كانت تحاول استخراج معلومات منه».

ليلى يوسف غلام عمة على يوسف غلام، الذي ينتمي للطائفة البهرية، وغادر منزله في عدن في 26 يونيو (حزيران) 1994، والذي اختفى في الحرب الأخيرة عام 1994 قالت لـ«الشرق الأوسط» إن بعض من كانوا مع ابن أخيها قالوا لها إنهم آخر مرة كانوا معتقلين معه في معهد هواري بومدين بمنطقة صبر، في إحدى ضواحي مدينة عدن وحضرت سيارتان في فجر يوم من الأيام، وأخذت خمسة معتقلين بعد ربط عيونهم وتكتيفهم، وكان هو من ضمنهم وكانت تلك آخر مرة شوهد فيها.

وتضيف «استمررنا في السؤال عنه وذهبنا إلى عبد الولي الشميري (سفير اليمن الحالي لدى مصر ومندوبها لدى الجامعة العربية)، الذي كان مسؤولا عنهم كما عرفنا، وعندما التقيناه، قال لنا إن المجاميع التي كانت لديه أطلق سراحهم، والتقيت أيضا برئيس الإصلاح اليدومي (أمين عام حزب الإصلاح الإسلامي المعارض حاليا والشريك سابقا في الحرب إلى جانب حزب المؤتمر الحاكم حاليا)، ونفى وجود «علي» لديهم، وكل الجهات تهربت من المسؤولية».

وردا على سؤال حول مسؤولية القيادي الإصلاحي قالت «لأنهم كانوا يتحدثون أن حزب الإصلاح كان يعتقل بعض الأشخاص، وعندما التقيت اليدومي قال لي: يا أخت ما فيش عندنا أحد، كل من كان لدينا أطلقنا سراحهم».. وتطالب ليلى بالكشف عن مصير ابن أخيها، لأنه كما قالت الرجل الوحيد في الأسرة والذي يحمل اسمها.

واتصلت «الشرق الأوسط « بالسفير عبد الولي الشميري عقب ذكره من قبل إحدى اسر الضحايا ووروده أيضا في تقرير للأمم المتحدة صدر في يونيو (حزيران) من عام 2004 وسلم للحكومة اليمنية، يتحدث عن مسؤولية الشميري وشخص آخر عن اختفاء خمسة من المعتقلين على ذمة الحرب الأهلية في اليمن، غير أن الشميري نفى تلك المعلومات بصورة قطعية وقال لـ«الشرق الأوسط» في اتصال هاتفي اجري معه من لندن أنه «ليس سجانا»، ولم يكن لديه في يوم من الأيام سجناء، وانه محارب حينها وكان في الخطوط الأمامية، ولا توجد في الخطوط الأمامية سجون، مشيرا إلى التسامح الذي أعقب الحرب والعفو العام، الذي أطلقه الرئيس علي عبد الله صالح والإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين.

وبعد ذكر اسم محمد اليدومي، المسؤول الثاني في حزب الإصلاح ثاني اكبر الأحزاب اليمنية، اتصلت «الشرق الأوسط» باليدومي لتسأله عن الأمر، غير انه رفض أن يسجل الحديث معه، وقال انه لا يعلم عن موضوع المختفين شيئا، وأن علينا أن نسأل الرئيس علي عبد الله صالح.

وبما أن ملف الاختفاء السياسي والقسري في اليمن ليس ملفا تكون خلال حقبة سياسية واحدة، فإن هناك من يطرح بضرورة وجود قرار سياسي أيضا لإغلاق الملف، وإنهاء مأساة أسر الضحايا بصورة نهائية.