محمد عبده.. بين تاريخ المعاناة وجغرافية الأماكن

محمد عبده يقدم وصلة غنائية خلال إحدى مشاركاته الخارجية
TT

يصنف الفنان الكبير محمد عبد الوهاب الفنانين إلى نوعين: فنانون لهم تاريخ، وفنانون بلا تاريخ، ويضع قيمة كبيرة للنوع الأول من الفنانين، فالفنان بلا تاريخ، بحسب رأيه، سرعان ما يصيبه دوار الشهرة، فيسقط صريعاً كشجرة بلا جذور.

في كل مرة أتأمل فيها معاني ذلك التصنيف، الذي وضعه الموسيقار العبقري محمد عبد الوهاب، تتداعى إلى الذهن سيرة حياة فنان العرب محمد عبده بكل ما التصق بها من فقر ويتم وحرمان، وما حفلت به من صبر وصمود وإصرار، فالجراحات العميقة في حياته أكسبت إبداعه عذوبة كحال بئر ارتوازية، ازداد ماؤها نقاء حينما غارت أعماقها.

عرفت محمد عبده صبياً تحتضن خطاه دروب حي «الهنداوية» في نهاية كل أسبوع، حينما كان يخرج من القسم الداخلي بدار الأيتام بجدة لزيارة شقيقته في ذلك الحي، بعد أن منعته قوانين «الرباط الخيري» الذي تقيم فيه والدته من الدخول إلى حرم الأرامل والمسنات، فكان منزل شقيقته الملتقى الأسبوعي الذي يجمع شمل أسرة مزقها الفقر والحرمان والحظوظ العواثر.

بين ذلك التاريخ البعيد واللحظة الحاضرة عقود تأرجح خلالها محمد عبده في أرجوحة الحياة، أشرقت عليه الشمس حيناً وغابت عنه أحياناً، فحينما تصعد به، أرجوحة الحياة، لم يصبه الدوار، وحينما تهبط به لم يستسلم لليأس، وظل في تلك الأرجوحة حتى تحقق له بناء مجده الفني، الذي لم يسبقه إليه فنان خليجي من قبل.

بدأ محمد عبده مشواره الفني بهزيمة كادت تقضي عليه في أولى خطواته، حيث خرج من أول مشاركة له في مسرح الإذاعة، الذي كانت تنظمه إذاعة جدة، مهزوماً بما يشبه الضربة القاضية، حينما غنى قصيدة من كلمات الراحل سعيد الهندي، تثاءب خلالها الحاضرون في أجواء مسرحية لا تتسع لمثل تلك القصائد، ليأتي بعده الفنان الكبير عبد الله محمد برائعته «حيران وليه سنة» فيشعل المسرح، ويهيمن عليه.

لم أر محمد عبده يصل إلى قمة تأثره، وهو المعروف بالسيطرة على مشاعره، إلا حينما تصل مراكب الحديث إلى شواطئ البوح عن ذكرياته مع والدته أيام الفقر والشتات، وسكن «الرباط الخيري»، قبل أن يعاود ابتسامته ليقول عنها: «كانت الربان الذي عبر بنا أشد العواصف من دون أن يسمح للريح أن تحني هامته ولا هامات ركاب السفينة. تعودنا معها على الفقر الكريم، الذي لا يزيد صاحبه إلا كبرياء، فكنا نرسم الحلم في عيوننا المتعبة قبل أن ننام، ولا نبالي بلون الصباح».

وليس لمتحدث عن مسيرة محمد عبده، أن يغفل حدة المنافسة بينه وبين الفنان الكبير الراحل طلال مداح، وانقسام الجمهور الفني على مدى عقود إلى فريقين، فريق طلال مداح، وفريق محمد عبده.